كتاب البيع المجلد 2

اشارة

سرشناسه : اراکی، محمدعلی، 1373 - 1273

عنوان و نام پديدآور : ... البیع / تالیف محمدعلی الاراکی

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق(ع)، 1415ق. = 1373.

مشخصات ظاهری : ج 2

شابک : بها:5000ریال(بهای هرجلد) ؛ بها:5000ریال(بهای هرجلد)

يادداشت : همراه با "رساله فی الاجتهاد و التقلید" که در جلد دوم کتاب آمده است

یادداشت : کتابنامه

عنوان دیگر : رساله فی الاجتهاد و التقلید

موضوع : خرید و فروش (فقه)

موضوع : اجتهاد و تقلید

رده بندی کنگره : BP190/1/الف 4ب 9 1373

رده بندی دیویی : 297/372

شماره کتابشناسی ملی : م 73-3797

[تتمة شروط المتعاقدين]

[تتمة الشرط الرابع من شروط المتعاقدين ملك التصرف]

[الكلام في أولياء التصرف و هم:]

[الأول في ولاية الأب و الجد]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه رب العالمين و صلّى اللّه على سيدنا محمّد و آله الطاهرين مسألة لا خلاف في أصل ثبوت الولاية للأب و الجد للأب على مال الصغير و لا نحتاج في إثبات هذه الجملة إلى الأخبار، نعم هل هي على وجه الإطلاق بالنسبة إلى حالتي عدالة الأب و الجد و فسقهما، أو مختصّة بالأولى و هنا موضعان من الكلام، الأوّل حسب القاعدة مع قطع النظر عن الأخبار الخاصة، و الثاني في مقتضى الأخبار الخاصّة.

أمّا الأوّل: فقد يقال: إنّ المرجع عموم لا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال غيره إلّا بإذنه، خرج منه حالة العدالة و حيث إنّ المخرج حسب الفرض مجمل فلا بدّ من الاقتصار في تقييد إطلاق العموم المذكور على المتيقّن، و الرجوع فيما زاد إلى إطلاقه من غير فرق بين سبق العدالة و طروّ الفسق، و بين وجود الفسق من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 4

الابتداء، فلا مجال لاستصحاب الولاية الثابتة حال العدالة في القسم الأوّل إذ بعد وجود الإطلاق المذكور لا مجال للرجوع إلى الأصل.

و حينئذ فلا بدّ من التفصيل بين التصرّفات اللازمة في المال التي يعلم بعدم

رضا الشارع بعدم تصدّيها لانجرار الأمر إلى تلف المال و ضياعه فبالنسبة إلى ذلك نعلم تقييد الإطلاق المذكور فلا بدّ في القسم الأوّل من التمسك بالاستصحاب، و في القسم الثاني من الجمع بين إذن الأب و الحاكم و بين التصرّفات الغير اللازمة التي لا يترتب على تركها محذور، فبالنسبة إليها يكون الإطلاق محفوظا فيحكم بعدم جوازها لكل أحد و بقاء المال موقوفا إلى أن يبلغ الولد فيصير هو المتصرّف فيه.

هذا، و لكن الظاهر أنّ التمسّك بالرواية لمقامنا في غير المحلّ رأسا لأنّ مفادها من مجموع المستثنى و المستثنى منه عبارة عن إناطة التصرّفات بإذن المالك، و هذا المعنى هو الذي يعبّر عنه بولاية التصرّف، و هو الذي سئل عنه في رواية أخرى: أنّه متى يجوز أمر اليتيم؟ فأجاب: حتّى يبلغ أشدّه و فسّره بالاحتلام.

و الحاصل: قد يقال: إنّ موضوع الرواية شامل للصغير و الكبير في عرض واحد، فكما أنّ مال الكبير محكوم بأنّه لا يجوز التصرّف فيه بغير إذنه، كذلك مال الصغير، غاية الأمر إنّ الإذن فيه مقيّد بما بعد الكبر، يعني لا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال الطفل بغير رضاه الحاصل في حال الكبر، يعني لا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال الطفل بغير رضاه الحاصل في حال الكبر، و بالجملة تقييد المستثنى لا يوجب تقييد المستثنى منه أعني: عدم الجواز، و لكنّه خلاف الظاهر بل الظاهر أنّه خارج موضوعا و إنّما المستثنى و المستثنى منه جميعا يثبتان في حقّه بعد الكبر، لأنّ مفاد القضيّة أمر واحد هو إناطة التصرّف بالإذن التي هي لازم ولاية الأمر المتوقّفة على البلوغ، فلا نطق للرواية بالنسبة إلى حال الصغر أصلا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 5

نعم

بعد سقوط الرواية لا يصير المرجع عمومات أدلّة البيع و سائر المعاملات، للقطع بأنّه لم يسلب عن مال الطفل الاحترام بحيث لم يشترط في نفوذ معاملاته رضا أحد بل نعلم أنّ رضا شخص دخيل في الصحّة ثمّ نشكّ أنّ هذا الشخص هو الأب و الجد، أو هو الحاكم؟ و لا يحتمل كون كليهما لا على وجه الاستقلال و لا على وجه الشركة، للقطع بعدم كون الحاكم في عرض الأب و الجدّ فالاحتمالات بين ثلاثة: أن يكون المعتبر رضا نفس الطفل بعد الكبر ليس إلّا و أن يكون رضاه أو رضا أحد من الأب و الجد، و أن يكون رضاه أو رضا الحاكم.

و حينئذ فلا بدّ من التفصيل بين صورتي سبق العدالة و عدمه، ففي الأولى لا مانع من الاستصحاب من غير فرق بين التصرّف اللازم و الجائز، و في الثانية لا بدّ من الاحتياط بالجمع بين إذن الأب و الجدّ و إذن الحاكم، من غير فرق بينهما أيضا.

الموضع الثاني: في مقتضى الأخبار الخاصّة و قد عرفت أنّ أصل ثبوت الولاية لا يحتاج إلى مؤنة إثبات و إنّما المحتاج إليها جهات:

الجهة الأولى: تعميمها بالنسبة إلى حالتي الفسق و العدالة، فاعلم أنّه قد ورد في الأخبار المستفيضة أنّ مال الولد للوالد و أنّ الوالد يفعل في مال ولده ما يشاء و أنّه و ماله لأبيه، و ورد أيضا أنّ علّة تحليل مال الولد للوالد أنّه موهوب له في قوله تعالى يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ إِنٰاثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ الذُّكُورَ «1»، و ورد أيضا «أنّه إن كان للولد جارية فأراد أن ينكحها الوالد قوّمها على نفسه و يعلن ذلك» و في رواية عبيد بن زرارة، عن أبي عبد

اللّه- عليه السلام- قال: «إنّي لذات يوم عند زياد بن عبد اللّه إذ جاء رجل يستعدي على أبيه، فقال: أصلح اللّه الأمير إنّ أبي زوّج ابنتي بغير

______________________________

(1) الشّورى/ 49.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 6

إذني، فقال زياد لجلسائه الذين عنده ما تقولون في ما يقول هذا الرجل؟ فقالوا:

نكاحه باطل، قال: ثمّ أقبل عليّ فقال: ما تقول يا أبا عبد اللّه؟ فلمّا سألني أقبلت على الذين أجابوه فقلت لهم: أ ليس فيما تروون أنتم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ رجلا جاء يستعديه على أبيه في مثل هذا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنت و مالك لأبيك؟ قالوا بلى، فقلت لهم: فكيف يكون هذا هو و ماله لأبيه و لا يجوز نكاحه، قال: فأخذ بقولهم و ترك قولي» «1» و في أخرى عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر- عليهما السّلام- قال: سألته عن رجل أتاه رجلان يخطبان ابنته فهوى الجد أن يزوّج أحدهما و هوى أبوها الآخر أيّهما أحقّ أن ينكح؟ قال: الذي هوى الجد أحقّ بالجارية لأنّها و أباها للجدّ، إلخ. «2»

و من المعلوم أنّ الوالديّة و المولوديّة- التي جعلت في هذه الأخبار معيارا للاختصاص المستفاد من اللام بعد التنزّل عن معناها الحقيقي من حقيقة الملك حتّى يكون الحال مثل حال العبيد مع الموالي في الملكية الطولية- و كذلك ما جعل علّة لذلك، أعني الموهوبيّة لا اختصاص لها بالأب العادل بل يجري فيه و في الفاسق، ثمّ حمل الاختصاص المذكور على الولاية يكون بقرينة تطبيق هذه القضيّة على مسألة نفوذ تزويج الجد للبنت في الروايتين الأخيرتين، هذا.

و لكن هذا التمسك لمقامنا

أعني: تعميم الولاية في غير المحلّ لأنّها في مقام تشريع السلطنة المالكيّة التنزيليّة للأب في مال الابن و أنّه لا اختيار و سلطنة للولد في قبال الوالد، و ليس له منع الوالد من انتفاعاته و استيفاء الحظوظ من مال الولد، و أين هذا من مسألة الولاية التي هي عبارة عن تحميل أمورات مال الولد و حفظه

______________________________

(1)- الوسائل: ج 14، باب 11، أبواب عقد النكاح و أولياء العقد، ص 218، حديث 5.

(2)- المصدر نفسه: ص 219، حديث 8.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 7

و صيانته و الناظريّة له و دفع المضار عنه على الوالد؟ و في الأوّل قد روعي جانب الأب و في الثاني جانب الابن، و أمّا التطبيق على نفوذ نكاح الجدّ فيمكن- كما هو نص الأخير- حمله على مورد المزاحمة بعد الفراغ عن ثبوت حقّ الولاية من الخارج و أنّه حينئذ عند التزاحم يقدّم الأب (كذا) فهو ساكت عن تعيين ذي الحقّ و أنّه مطلق الأب أو خصوص العادل، و يشهد لذلك أنّ شيخنا أستاذ الأساتيذ- قدّس اللّه نفسه- عدل عن التمسّك بها إلى إطلاق أخبار الولاية، و حينئذ نقول: يمكن استفادة الإطلاق من ثلاث مواضع من الأخبار:

الأوّل: ما ورد في باب الوقف من رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر- عليه السّلام- أنّه قال في الرجل يتصدق على ولده و قد أدركوا: إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث، فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز، لأنّ والده هو الذي يلي أمره. الحديث «1».

و مثله رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- فإنّ مفاد التعليل أنّ الوالد الذي يلي أمر الصغير يكفي قبضه في صحّة الوقف

و لزومه، لأنّه وليّ الموقوف عليه و هو قضيّة مطلقة شاملة لحالتي الفسق و العدالة.

و الثاني: ما ورد في باب النكاح من رواية عبد اللّه بن الصلت قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السلام- عن الجارية الصغيرة يزوّجها أبوها، لها أمر إذا بلغت؟

قال: لا ليس لها مع أبيها أمر. «2»، فإنّ قضيّة إطلاق الذيل أعني: «ليس لها» بل عمومه حيث إنّه نكرة في سياق النفي إنّ أموراتها كلّا مسلوبة عنها و مفوّضة إلى

______________________________

(1)- الوسائل: ج 13، باب 4، في أحكام الوقوف و الصدقات، ص 297، حديث 1، 5.

(2)- المصدر نفسه: ج 14، باب 6، أبواب عقد النكاح و أولياء العقد، ص 207، حديث 3.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 8

أبيها و هذا المضمون غير استقلال الأب في صرف مال الابن في حوائج نفسه و عدم مالكيّة الابن في قبال الأب شيئا، بل هو حكم في فرض ثبوت المال للولد بأنّ أموره الراجعة إلى نفسه و ماله يعني النظر في إصلاحها و حفظها موكولة إلى الوالد و هذا معنى الولاية.

الثالث: ما ورد في هذا الباب أيضا من رواية زرارة عن أبي جعفر- عليه السلام- قال: «إذا كانت المرأة مالكة أمرها تبيع و تشتري و تعتق و تشهد و تعطي من مالها ما شاءت فإنّ أمرها جائز تزوّج أن شاءت بغير إذن وليّها، و إن لم تكن كذلك فلا يجوز تزويجها إلّا بأمر وليّها». «1»

فإنّ الظاهر من الوليّ متولّي الأمور كلية في الأموال و غيرها، فيعلم من هذه الرواية [كبرى] كليّة و هو أنّ من يجوز بإذنه تزويجها هو الولي، و أمّا الصغرى و هو أنّ الأب يجوز بإذنه تزويجها فقد ثبت بالرواية المتقدّمة، فيمكن من

مجموع الروايتين ترتيب القياس، و بهذا يمكن التمسك لإثبات ولاية الجدّ و إطلاقها نعم هذا التمسّك مبنيّ على ما قرّر في الأصول من جواز الأخذ بالعموم عند الدوران بين التخصيص و التخصّص و التحقيق جوازه.

و بهذا استغنينا عن التمسّك بروايات «أنت و مالك لأبيك» لإثبات ولاية الجدّ مع عدم تماميّته، أمّا أوّلا فلأنّ لفظ الأب منصرف إلى الأب بلا واسطة.

و إن قلت: إنّه يجري في الأب بالنسبة إلى أبيه فيكون الأب مع ماله الذي منه مال ولده للجدّ، و لا ضير في ثبوت موضوع القاعدة بنفسها في القضيّة الطبيعيّة

______________________________

(1)- الوسائل: ج 14 باب 9، أبواب عقد النكاح و أولياء العقد، ص 215، حديث 6.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 9

قلت: الظاهر من المال أيضا هو المال التحقيقي لا التنزيلي.

و أمّا ثانيا فلما مرّ من بينونة مفادها مع ما هو المدّعى من إثبات الولاية فإنّه بلسان سلب المال عن الولد و المدّعى تولية الأُمور إلى الأب بعد الفراغ عن ماليّة الابن و كونه صاحب المال.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بعد ما رأينا تطبيق هذه القاعدة في الأخبار في مقام إعمال الولاية دون الأخذ و الانتفاع مثل باب التزويج حيث عرفت استشهاد الإمام بالقضية لنفوذ تزويج الجد و كذلك رواية علي بن جعفر عن أخيه- سلام اللّه عليه- «قال: سألته عن رجل تصدّق على ولده بصدقة ثمّ بدا له أن يدخل غيره فيه مع ولده، أ يصلح ذلك؟ قال: نعم يصنع الوالد بمال ولده ما أحبّ، و الهبة من الولد بمنزلة الصدقة من غيره» «1» و هذا و إن لم يعمل بمضمونه على إطلاقه، و إنّما عمل في صورة الشرط و لكن لا يضرّ في المقصود الذي

نحن بصدده من تطبيق القاعدة على التصرّف الولائي لا الاستنفاعي، نعلم أنّ المراد بهذه القاعدة في سائر الأخبار أيضا و إن طبقت على مورد الأخذ و الأكل من مال الابن معنى يشمل الولاية أيضا بقرينة اتّحاد السياق نظير ما يقولون في باب الاستصحاب من استفادة الاستصحاب من قضية لا تنقض دون قاعدة اليقين بواسطة معلوميّة تطبيقها عليه في بعض الأخبار و يعلم الحال في الباقي باتّحاد السياق و كذلك في قاعدة التجاوز، و إذن فالاستدلال بإطلاقها لباب الولاية أظنّ أنّه ممّا لا مانع منه و إن كان شيخنا الأستاذ- دام بقاه- متحاشيا عنه.

ثمّ بعد ثبوت الإطلاق فيما ذكرنا لا وجه لرفع اليد عنه بآيتي

______________________________

(1) الوسائل: ج 13، باب 5، في أحكام الوقوف و الصدقات، ص 302، حديث 5.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 10

الركون «1» و النبإ «2».

أمّا الأولى فبتقريب أنّه بعد ما نهى اللّه عزّ و جلّ عن ركون الناس إلى الظالم المراد به الفاسق، و مطلق من عصى اللّه عزّ و جلّ بقرينة لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ فهو تعالى أولى بذلك، فيجب أن لا يدفع أمر ولاية مال الصغير إلى الأب الظالم لأنّه ركون إليه و اعتماد به و قد نهى سبحانه عنه.

و أمّا الثانية: فبتقريب أنّ الولاية للظالم مستلزمة لقبول إخباراته و إقراراته و هو مناف لآية النبإ و كلا التمسّكين فاسد.

أمّا الأوّل: فلأنّ الركون كالتصديق من فعل الجنان فأمّا أن يحمل على العمل الخارجي و ترتيب الأثر كما في التصديق فحينئذ يصير المقام مرتبطا بمفاد الآية، و إمّا أن يحمل على نفس ما هو عمل الجنان و القلب من الميل و الحبّ، و عليه فلا مساس للآية بما نحن فيه

إذ يمكن إيكال أمر إلى ظالم مع النفرة عنه قلبا غايتها، ثمّ الظاهر من الآية عرفا هو الثاني خصوصا بملاحظة ذيلها فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ، و ملاحظة ما ورد في تفسيرها من أنّه الرجل يأتي السلطان فيحبّ بقاءه إلى أن يدخل يده في كيسه فيعطيه.

و أمّا الثاني: فلأنّ إثبات الولاية للظالم لا يوجب زيادة تخصيص في الآية على كل حال، لأنّا إمّا أن نقول إنّ قبول إخبارات الوليّ و إقراراته ثابت بالإجماع و التسلّم كما هو مبني الإيراد، فحينئذ المخصّص للآية هو الإجماع في عنوان الولي، و أدلّة الولاية إنّما يجعل الأب مصداقا لذاك العنوان، و هذا ليس بزيادة تخصيص، و إمّا أن نقول بأنّ ذلك لم يثبت فلا يلزم أيضا من القول بالولاية تخصيص في الآية، إذ نقول بالولاية بأدلّتها و بعدم قبول الإخبار و الإقرار بالآية.

______________________________

(1)- هود/ 113.

(2)- الحجرات/ 6.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 11

الجهة الثانية: تعميم الولاية من حيث متعلّقها إلى ما فيه مفسدة أو تخصيصها بما لا مفسدة فيه و إن لم يكن فيه صلاح، أو تخصيصها في صورة الدوران بين ما فيه الصلاح و الأصلح و بالأصلح، وجه الأوّل إطلاق أخبار «يفعل الوالد في مال ولده ما أحبّ»، و أخبار نفوذ نكاح الأب للصغيرة الشامل بإطلاقها صورة وجود المفسدة.

وجه الثاني هذه الإطلاقات مع التعليل الوارد في بعض الأخبار لعدم جواز أخذ الوالد إلّا قوته إذا احتاج بآية وَ اللّٰهُ لٰا يُحِبُّ الْفَسٰادَ «1».

وجه الثالث: سقوط الأخبار المذكور عن المساس بباب الولاية رأسا بالبيان المتقدّم، و انحصار المرجع في خبر النكاح المستفاد منه القياس المتقدّم، و خبر الوقف المصرّح بأنّ الوالد هو الذي يلي أمر ولده، و من المعلوم عدم كونهما في

مقام البيان من حيث متعلّق الولاية.

لا يقال: تخصيص المتعلّق بما لم يكن فيه فساد أو بالأصلح تضييق لدائرة الولاية و تحديد لها و هو مناف مع إطلاق الدليل المثبت لها.

لأنّا نقول: ولاية الأمر بمعنى ولاية البيع و الشراء و العتق و الشهادة و الأخذ و الإعطاء و غير ذلك لم يؤخذ فيها كيفيّة أعمال هذه الأمور، فلو أخذ فيه كيفيّة خاصّة لا يكون تقييدا للولاية، و أمّا إطلاق تزويج الصغيرة فلا يمكن الاستدلال بها، لأنّ المتعارف الغالب من حال الآباء في تزويج البنات كمال المداقّة و ملاحظة الأطراف لئلّا تقع بناتهم في محذور و مفسدة، فإنّ محذور بناتهم محذور لهم.

و بالجملة بعد سقوط ما كان له إطلاق و عدم إطلاق ما كان غير ساقط لا يبقى لنا إلّا التمسك بالأصل و الاقتصار على مورد اليقين، أو الرجوع في الجدّ

______________________________

(1)- البقرة/ 205.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 12

عند موت الأب إلى آية وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ* «1»، و تتميم القول في غيره بعدم الفصل، فيلزم الاقتصار على الأحسن و عدم الاكتفاء بالحسن.

و لكنّ الرجوع إلى الآية أيضا مشكل، من حيث إنّ مقتضى ظاهرها اختيار الشق الأحسن فيما بين الشقوق المتصوّرة من أفراد التصرّف، و هذا لا يمكن حفظه في جميع الموارد، إذ ربّما لا يمكن غير التصرّف الحسن، مثل ما لو انحصر مشتري الدار بمن يشتري بمائة، و حينئذ فإمّا أن يتصرّف فيه بالحمل على ما يكون وجوده أحسن من عدمه، و إمّا بالحمل على ما ليس أحسن منه في البين، فعلى الأوّل لا يلزم رعاية الأصلح الممكن و يكفي مجرّد الصلاح الموجب لخيريّة الفعل من الترك، و على الثاني

لا بدّ من الاقتصار على أقصى مرتبة الإمكان، و حيث لا أظهريّة في اللفظ بالنسبة إلى أحد المعنيين، لا بدّ من الاقتصار على المتيقّن هذا.

و أمّا الكلام في الجدّ سواء الأدنى و الأعلى فبعد سقوط «أنت و مالك إلخ» عن الدلالة بالنسبة إلى مقام الولاية المدّعاة، ينحصر الأمر في أخبار النكاح، و مساق تلك الأخبار لو لم يكن خصوص الكبيرة فلا أقلّ من عدم إمكان تخصيصها بالصغيرة، فمساقها مساق الأخبار الواردة في ولاية الأب على البنت في حال الكبر، فلا دليل لفظي بالنسبة إلى خصوص حال الصغر حتى ينطبق على الولاية المدّعاة حتى يؤخذ بإطلاقه و يرتب القياس و يقال: الجد مطلقا و إن كان فاسقا يتولّى أمر النكاح، و متولّي النكاح ليس إلّا المتولّي لجميع الأمور فينتج: أنّ الجدّ مطلقا و إن فسق متول لجميع الأمور، و إنّما الدليل هو الإجماع على نفوذ نكاح الجدّ، و لا لسان له من حيث التعميم من هذه الجهة، فلا بدّ في الجد من الاقتصار على المتيقّن في كلتا الجهتين، أعني حيث العدالة و الفسق و حيث الصلاح و الفساد.

______________________________

(1)- الأنعام/ 152، الأسراء/ 34.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 13

[الثاني من أولياء التصرف ولي الفقيه و فيها بحثان]
[البحث الأول في بيان معاني الولاية و ذكر أدلتها]

مسألة: في ولاية الفقيه اعلم أنّ للولاية معنيين، الأوّل: السلطنة المطلقة على الأموال و النفوس و مجرائيّة أوامره و نواهيه، و استقلاله في التصرّف في مال غيره و نفسه بما شاء و أدّى إليه نظره و الثاني: أن يكون هنا أمور مطلوبة للشارع على كلّ حال و فرغ عن كون وجوده في الخارج مطلوبا من غير مدخليّة متصدّ خاص، مثل حفظ مال اليتيم، و تجهيز الميّت الذي لا وليّ له، و لكن اشترط في تصدّيه أن يكون بإذن

من الشخص الخاص كالمجتهد، و الفرق بين المعنيين أنّه على هذا يحتاج إلى وجود أمر من الأمور العامّة الكفائية في البين حتى يعتبر إذن الشخص في تصدّي غيره إيّاه، و على الأوّل لا يناط بوجود ذلك، بل هو مختار في الأموال و النفوس يفعل فيها ما شاء تصرّف الملّاك في أملاكهم.

ثمّ الأصل في هذين القسمين مختلف و إن كان صريح شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- أنّه فيهما واحد و هو عدم الولاية، و ذلك لأنّ الأصل في القسم الأوّل و إن كان ما ذكره- قدّس سرّه- و لكن في القسم الثاني مختلف، ففي التكليفيّات يدور الأمر بين الإطلاق و التقييد، و البراءة العقلية قاضية بالبراءة عن القيد و عدم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 14

صحّة العقوبة عليه، و أمّا في الوضعيّات فأصل عدم تحقّق المسبّب في غير صورة وجود إذن من يحتمل اعتبار إذنه متّجه، لأنّ الأصل في ذوات الأسباب عند فقد الإطلاق و التقييد اللفظيين هو ذلك، لا أصالة عدم اعتبار القيد و إن كان الشك سببيّا، لأنّ إثبات الإطلاق بهذا الأصل في السبب لا يصح إلّا على الأصل المثبت مع عدم خفاء الواسطة بنظر العرف كما لا يخفى، مع عدم اقتضاء السببيّة أيضا إلّا جواز الرجوع إلى الأصل الجاري في السبب، فيما كان الترتّب شرعيا أو عقليا، و لكن المترتّب عليه كان الأعم من الظاهر و الواقع، و هذا واضح و ليس شي ء من الأمرين في مقامنا.

ثمّ إنّ بين موارد القسمين عموما من وجه، أمّا مادّة الافتراق من جانب المعنى الأوّل، فكما في الأئمّة- عليهم السلام- حيث إنّ لهم أن يمنعوا من بيع الإنسان داره، و لكن إذا أراد الإنسان بيع داره، لا

يتوقّف على تحصيل الإذن من الإمام- عليه السلام- و مثاله في الأمور العامة كما لو لم نشترط في تجهيز الميّت إذن أحد و إن كان خلاف الواقع، و مادّة الافتراق من جانب الثاني واضح، فإنّ وليّ الميّت أولى بتجهيزه، بمعنى اشتراط تصرّف غيره بإذنه، و لكن ليس له ولاية على الأموال و النفوس [و مجمع العنوانين كما في ولايتهم على التصرّف في أموال القاصرين فإنّ فيها اجتمع الأمران] هذا.

و الشأن إثبات المعنيين بحسب الأدلّة في حقّ كلّ من الإمام و الفقيه و النظر فيما هو مقتضى الأدلّة، فنقول: قد استدلّ على إثبات الولاية بالمعنى الأوّل في النبي و الأئمّة- عليهم السّلام- بالنقل و العقل المستقلّ و غير المستقلّ.

أمّا الأوّل فيكفي في التصرّفات الراجعة إلى الرئاسة و حفظ نظام المعاش و سياسة المدن، ما دلّ من الكتاب و السنّة على أنّهم أولو الأمر فآية.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 15

أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «1» لو خص بإطاعتهم- عليهم السّلام- فيما يبلغونه عن اللّٰه تعالى من الأحكام، فهذا عين إطاعة اللّٰه، و الظاهر كون إطاعتهم- عليهم السّلام- عنوانا مستقلا في عرض اطاعة اللّٰه تعالى، و لا يتمّ هذا إلّا بكونهم صاحب الرئاسة و الولاية، و لكن لا يفي هذا إلّا بإثبات ما يتوقّف عليه السياسة، فلو أراد أخذ مال أحد أو طلاق امرأته بدون اقتضاء السياسة ذلك، بل لأجل مصلحة شخصيّة، فلا يعلم من هذا الصنف من الأدلّة جوازه.

نعم يكفي في إثبات الولاية، في هذا القسم من التصرّفات أيضا آيات الولاية و أخبارها، أعني ما دلّ على كون النبيّ و الوصيّ- عليهما السلام-، وليّا و أولى بالمؤمنين من أنفسهم «2»، فإنّ معنى

ذلك أنّ كلّ ما كان للمؤمنين من التصرّفات في أموالهم و نفوسهم يكون لهما بل بالأولى، و معنى أولويّته أنّ بعض التصرّفات جائز لهما مع عدم جوازه للمؤمنين، مثل إتلاف النفس، فكلّ ما كان للمؤمنين يكون لهم من دون عكس، فيكون هنا ثلاث مراتب طوليّة في مالكيّة الأموال، الأولى للّٰه، و الثانية للنبيّ و الوصيّ- عليهما السلام-، و الثالثة لطبقات الناس، نعم لا يثبت بهذا إلّا الولاية على الاختياريات لا على الأحكام، فلا يثبت جواز ترتيب الزواج على زوجة الغير بدون توسيط تفريق و تزويج، نعم يجوز بتوسيطهما.

و أمّا العقل المستقلّ فقد استدل بما دلّ منه على وجوب شكر المنعم، بعد معرفة أنّهم- عليهم السلام- أولياء النعم و لا يخفى أنّ معنى كونهم- عليهم السلام- أولياء النعم ليس ما يوهمه بعض قواعد أهل المعقول من ترتّب العقول و قاعدة إمكان الأشرف من كونهم و سائط الفيض، بمعنى أنّهم معطوا الوجود و الحياة و العلم و المال

______________________________

(1)- النّساء/ 59.

(2)- الأحزاب/ 6.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 16

و الصحّة و الولد و الزوجة و الوجه و الاعتبار و غير ذلك من نعم الدنيا و الآخرة، حتى ينطبق على قاعدة أنّ المعطي للشي ء لا يمكن أن يكون فاقدا له، فيحث إنّهم معطون لهذه الأشياء فهم مالكون لها، لأنّ هذا قد انعقد ضرورة المتشرّعة على خلافه، نعم ما ثبت، هو كونهم- عليهم السلام- وسائط الفيض، بمعنى أنّهم علله الغائيّة.

و ما روي من قول الأمير- عليه السلام- نحن صنائع اللّٰه و الخلق بعد صنائع لنا، الصحيح أنّ الفقرة الأخيرة كما نقلنا من أنّه صنائع لنا لا صنائعنا، و الشاهد القطعي على هذا أنّ هذه الفقرة موجودة في كتابة الأمير-

عليه السلام- إلى معاوية- لعنه اللّٰه- و قد علم شدّة اهتمام معاوية بأخذ ما يوجب و هنه- عليه السلام- في أنظار الشاميّين الحمق بأيّ وسيلة أمكنت، و لو كان المكتوب صنائعنا، لكان ذلك لمعاوية بابا وسيعا لغرضه، فكان يهمّ بنشر هذا في الأصقاع، و أنّه- عليه السلام- مدّع للربوبيّة.

و بالجملة فالثابت من مذهب المتشرّعة ليس بأزيد من كونهم عللا غائيّة لإفاضة المفيض الحقيقي مع كونهم بمعزل عن الإفاضة رأسا، نعم ليسوا- عليهم السلام- بأدنى من ملائكة اللّٰه القائمين كلّ بشغل من أمور الخلق على نحو الآليّة فلا مضايقة من جريان الأمر على أيديهم الشريفة بهذا النحو، فغاية ما يلزم حينئذ أنّ العباد ليس لهم تمرّد أوامرهم و نواهيهم في الأمور الجزئية الشخصيّة، و أمّا نفوذ تصرّفاتهم بمعنى فكّ المال عن مالكه ببيعهم، و بينونة الزوجة عن زوجها بطلاقهم فلا يثبت بهذا الدليل.

و منه يظهر حال العقل الغير المستقلّ، أعني: ما يحكم العقل بمقايسة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 17

وجوب طاعة الأب على الابن في الجملة بعد ملاحظة أعظميّة حقّهم- عليهم السلام- بمراتب و لعلّه لذا أمر شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بالتأمل.

هذا كله في الولاية بالمعنى الأوّل، و أمّا بالمعنى الثاني فالأمور المهامّ التي تتعارف في كلّ قوم و ملّة الرجوع فيها إلى الرئيس و السلطان و لا يرون لرعيّته القيام و الاستقلال بها من دون إجازة من الرئيس، لا إشكال في انفهام اشتراط رضاهم عليهم في تصدّي غيرهم لهذه الأمور من أدلّة كونهم أولي الأمر و ولاته، كما لا إشكال في عدم الاشتراط في الأمور الشخصيّة، نعم يبقى الشك في بعض الأمور العامة التي لم يعلم حالها و أنّ شأنها الإرجاع إلى رئيس الطائفة

أيضا أو لا فالمرجع في هذا القسم هو الأصل و قد عرفته.

و يبقى الكلام فيما هو المهمّ في المقام من ولاية الفقيه، فنقول: أمّا الولاية بالمعنى الذي ثبت في النبيّ و الأئمّة- عليهم السلام- فمن المقطوع عدم ثبوتها لهم، فليسوا بمفترضي الطاعة و نافذي التصرف في جميع الأمور جزئيّة و كليّة و هذا واضح، كما أنّ من المقطوع ثبوت منصب الإفتاء و القضاء لهم، إنّما الكلام في الأمور الراجعة إلى الرئاسة و الرتق و الفتق في أمور المملكة، مثل جواز أخذ المال و السلاح و الراحلة من أيدي الناس قهرا و جبرا لجدال العدوّ أو قتل أحد أو ضربه، أو سائر أقسام مجازاته أو قطع علاقة الزوجية أو نحو ذلك إذا اقتضت السياسة ذلك، و المراد إثبات خصوصيّة له يمتاز بها عمّن عداه و إلّا فحفظ بيضة الإسلام و حفظ النفس و الأمر بالمعروف مطلوب من كلّ أحد بقدر مكنته.

مثلا لو اقتضى نظره في زمان تحريم التنباك على أهله فلو لم يكن تحريمه موجبا للحرمة لما كان شرب شخص واحد في الخفاء بحيث لم يطّلعه أحد حراما

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 18

لعدم كونه مورثا لتقوية الكفر أصلا، و أمّا إذا صار من جانب اللّٰه تعالى صاحب منصب الرئاسة فمقتضاه كون نظره مشرعا، فإذا حرّم على كلّ شخص شخص يصير حراما عليه بالخصوص و إن لم يترتّب عليه الفساد أصلا، و مثله الحكم بجواز المشروطيّة أو الاستبداد و الحكم بهلال رمضان و شوّال.

ثمّ إن و في الدليل بإثبات هذا المنصب لهم ففي المقام الثاني أعني اشتراط الرجوع إليهم في المهامّ، لا يبقى إشكال، إذ شأن الرئيس أن يكون هو المرجوع إليه في تلك الأمور،

و أمّا إذا قصر الدليل عن إثبات المقام الأوّل فلا رئيس حتى يرجع إليه فيما من شأنه الرجوع إلى الرئيس، نعم الرجوع إليه من باب أنّه القدر المتيقّن مطلب آخر غير إثبات المنصب له بالدليل.

و كيف كان فالمهم النظر في أدلّة الباب، فنقول: و باللّٰه الاستعانة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 19

[البحث الثاني الكلام في ولاية التصرف في الأموال و الأنفس و الوجوه المتصورة فيها]
اشارة

مسألة من جملة أولياء التصرّف في مال من لا يستقلّ بالتصرّف في ماله الحاكم و المراد منه الفقيه الجامع لشرائط الفتوى.

و تفصيل الكلام أنّ الولاية تتصوّر على وجهين:

الأوّل: استقلال الوليّ بالتصرّف بمعنى كون نظره سببا في جواز تصرّفه من غير حاجة إلى إثبات الجواز من الخارج، بل نفس دليل الولاية بهذا المعنى يستفاد منه مضيّ تصرّفات الولي في مال الغير و نفسه و عرضه، و معناه المعاملة مع أموال الناس كمال نفسه بل هي حقيقة مال نفسه، و مع أنفسهم معاملة العبيد بل أعلى، لأنّه إذا أدّى نظره إلى إتلافه [كما في أمر الرضا- عليه السلام- من يتولى له معترضا لم لا تقدمون بأخذ حقكم و الشيعة من ورائكم مطيعين لأمركم و أمره بدخول النار فأبى و تحاشي و جاء آخر و أمره بذلك و قال سمعا و طاعة و دخل النار إلخ] جاز له كما في أعراض الناس لو أدّى نظره إلى تفريق الزوجين، و الحاصل كونه بحيث أعطي بيده زمام اختيار أموال الناس و نفوسهم و أعراضهم، و بالجملة كلّ تصرف أراد بالنسبة إلى أمور الغير، فلا حاجة إلى التماس دليل من الخارج في إثبات مشروعيّته بل نفس ولايته متكفّلة للمشروعيّة.

الثاني: عدم استقلال الغير بالتصرّف و كونه منوطا بنظره، و معناه شرطيّة نظره في جواز تصرّف غيره، و حاصله: أنّ الأمورات

التي قد فرغ عن وجوبها على الناس كفائيا، مثل تجهيز الموتى، و حفظ أموال الصغار، بحيث لو لم يكن هذا الشخص موجودا لكان على سائر الناس تصدّيها و مباشرتها بالاستقلال، و الحاصل مشروعيتها في الخارج مفروغ عنها على كلّ حال، فهذه الأمور المرجع فيها هذا الشخص، و لا بدّ أن تقع خصوصياتها و تصحيح جهاتها بنظره و تصويبه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 20

و بين موارد الوجهين عموم من وجه، فمادّة الافتراق من الأوّل كما لو قام الدليل على جواز تصدي بعض الأمور العامّة الغير المتعلّقة بالسياسة لكلّ أحد من غير إناطته بإذن وليّ الأمر، فيكون حال هذا الأمر العام نظير الأمر الجزئي الشخصي في مال نفس المتصدّي و أمور شخصه، كما لو قيل: بأنّ القضاء يكون هكذا، يعني لا يحتاج بعد معرفة موازين القضاء إلى نصب وليّ الأمر و السلطان.

و من الثاني كما لو قلنا بأنّ الفقيه في حال الغيبة أعطي منصب مرجعيّة الأمور، و لكن بعد مشروعيتها من الخارج و إن كان استنباط ذلك من الأدلّة أيضا من شأنه، و لكن منصب مرجعيّته لا يقتضي في حدّ ذاته أزيد من كون الأمور المشروعة الراجعة إلى الناس واقعة برأيه و نظره.

ثمّ إذنه المعتبر في تصرّف الغير إمّا يكون على وجه الاستنابة كوكيل الحاكم، و إمّا على وجه التفويض و التولية كمتولّي الأوقاف من قبل الحاكم، و إمّا على وجه الرضا كإذن الحاكم لغيره في الصلاة على ميّت لا وليّ له.

إذا عرفت هذا فلا بدّ أوّلا من تأسيس الأصل فنقول: كل معروف علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج، فإن علم أنّه وظيفة شخص خاص كولاية الأب على مال ولده الصغير، أو صنف خاص كالقضاء

و الإفتاء أو كلّ من يقدر على القيام به كالأمر بالمعروف، فلا إشكال في شي ء من ذلك، و إن لم يعلم ذلك و احتمل كونه مشروطا في وجوده أو وجوبه بنظر شخص خاص، فإن كان لدليل هذا التصرّف إطلاق في جوازه لكلّ أحد من دون اشتراط إذن أحد، كما لو كان على سبيل المثال لآية السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا «1» إطلاق، أو علم من

______________________________

(1)- المائدة/ 38.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 21

دليله التقييد بإذن شخص خاص فهو المتّبع، و إلّا فلا إشكال أنّه لو كان هنا أثر شرعي مرتّب على الولاية بأحد الوجهين فأصالة عدم الولاية جارية لنفي ذلك الأثر، و كذلك لنفي نفس الولاية- حيث إنّها من مجعولات الشرع- و لكن لا يثبت بهذا الأصل جواز تصدّي كلّ أحد، و حال هذا الأصل كحال أصالة عدم الشرطيّة فيما احتمل شرطيّة شي ء في المعاملة مع عدم إطلاق دليل أو تقييد، حيث إنّ الشرطية أيضا من مجعولات الشرع، لكن لا يترتّب أثر عمليّ على أصالة عدمها، بل لا بدّ في الخارج من ترتيب أثر الشرطيّة بواسطة أصالة عدم المسبّب، أعني: النقل و الانتقال هناك و هنا أيضا حيث إنّ مقامنا من ذلك الباب عينا، لأنّه شك في شرطيّة الإذن في صحّة المعاملة الواقعة على مال المولّى عليه فأصالة عدم النقل و الانتقال بدون إذن من يحتمل شرطيّة إذنه قاضية باعتبار إذنه.

لا يقال: الشكّ في حصول النقل و الانتقال بدون الإذن مسبّب عن الشكّ في الشرطيّة المسبّب عن الشكّ في الولاية، و قد قرّر في محلّه تقديم الأصل في السبب عليه في المسبّب، فأصالة عدم الولاية مقدّمة على أصالة عدم النقل و الانتقال.

لأنّا نقول: نعم

و لكنّه مثبت؛ فإنّ عدم الولاية و كذلك عدم الشرطيّة وحده غير كاف في حصول النقل و الانتقال فإنّه يلائم مع البطلان من رأس، فلا بدّ من إثبات صحّة أصل المعاملة الفاقدة للإذن، و الأصل المذكور ليس لسانه إلّا نفي الاعتبار عن المحتمل الاعتبار و لا يثبت به تماميّة الفاقد له في التأثير.

و بعبارة أخرى لا يثبت به حدّ ما ثبت مؤثّريته بالأدلّة، أعني أصل البيع، فلا يثبت بذلك حدّ الإطلاق، و القول بخفاء الواسطة كما ترى.

اللّهمّ إلّا أن يقال:- بناء على شمول حديث الرفع للوضعيّات كما يشهد له

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 22

صحيحة البزنطي- إنّ مقتضى الجمع بينه و بين أدلّة إثبات الواقع هو القول بكون الفاقد مؤثّرا، و لكنّ الكلام على البناء و المبنى يطلب في الأصول إن شاء اللّٰه تعالى، هذا هو الحال في الوضعيّات المحتاجة إلى الأسباب.

و أمّا التكليفيّات، فما كان تصرّفا في نفس الغير بمراتبه من القتل و ما دونه، فلو شككنا في أنّ لأحد حقّ ذلك بدون إذن من يحتمل ولايته فعمومات حرمة تلك التصرّفات في نفس الغير من حرمة القتل و الإيذاء و غير ذلك محكّمة، و هذه الأدلّة و إن خصّصت بالوليّ و هنا نشكّ في مصداقه، و لكنّ الشكّ لم ينشأ من الأمور الخارجيّة حتى يكون من باب التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة، بل نشأ من الشبهة في المفهوم، و من المعلوم كون المرجع في مثله العام.

و ما كان تصرّفا في مال الغير فعموم لا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال غيره، قد عرفت عدم صحّة التمسّك به في المقام، نعم عموم حرمة مال المسلم كحرمة دمه تام، لكنّه في غير التصرّفات التي علم

عدم رضا الشارع بإهمالها و ترك تعرّض كلّ أحد إيّاها، و أمّا فيها فلا بدّ من الاقتصار على المتيقّن فيحكم بالجواز في حقّه و بالحرمة في حقّ غيره إلّا بإذنه.

[مسألة الكلام في ثبوت الولاية للنبي و الأئمة ع و الاستدلال عليها بالأدلة الأربعة]

هذا و المهمّ التعرّض لأدلّة الباب فنقول: قد ثبت الولاية بالمعنى الأوّل في حقّ النبي و الأئمّة- صلوات اللّٰه عليهم أجمعين- بالأدلّة الأربعة.

أمّا الآيات: فيكفي قوله تعالى أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «1» فإنّ ظاهر العطف المغايرة، و لو أرجع الإطاعة المعطوفة إلى حيث

______________________________

(1)- النساء/ 59.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 23

الرسالة و تبليغ أوامر اللّٰه تعالى كانت عين الإطاعة المعطوف عليها و هو خلاف الظاهر، فلا بدّ من إرجاعها إلى الأمور الغير المرتبطة بالتبليغ و الأحكام.

نعم هذه الآية مختصّة بالتصرّفات العامّة التي هي شأن الرئيس، و أمّا مثل جواز أخذ عباء زيد و داره و سائر التصرّفات الشخصيّة، فيكفي في إثباتها قوله تعالى النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ «1» يعني كلّ ما كان للمؤمنين الولاية عليه من النفس و العرض و المال فهو صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم أولى بتلك الأمور من المؤمنين، فإنّه له صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم ولاية الإتلاف و ليس لهم ذلك، و من هنا يظهر التمسّك بالأخبار.

و أمّا الإجماع فغير خفيّ، و أمّا العقل المستقل فهو ما دلّ على وجوب شكر المنعم و هم- عليهم السلام- و إن كانوا ليسوا منعمين، بل الفيض و الإعطاء كلّه بيد اللّٰه- و ما توهمه كلمات أهل المعقول من قاعدة إمكان الأشرف و سلسلة العقول على خلافه انعقدت ضرورة المتشرّعة و إجماعهم و أخبارهم- و لكن لا شبهة في كونهم عللا غائيّة في إعطاء

الوجود و سائر النعم لأفراد الممكنات ممّن سواهم فتأمّل، حيث إنّ غاية ما يثبت من هذا بالنسبة إلى الجواز و الإباحة و أمّا حصول الوضع عقيب التصرّفات المعامليّة فلا.

و أمّا الولاية بالمعنى الثاني فكلّ ما كان من شأن الرئيس فلا إشكال في اعتبار إذنهم بدلالة ما دلّ على رئاستهم و كونهم أولى الأمر، نعم يقع الشك في بعض التصرّفات العامّة التي ليست من هذا القبيل، و قد عرفت الأصل المرجوع إليه بعد اليأس من الدليل في مثلها، و أنّه مقتض لولايتهم وضعا و تكليفا في الجملة.

______________________________

(1)- الأحزاب/ 6.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 24

و أمّا الفقيه الجامع للشرائط فلا شبهة في عدم ثبوت الولاية بالمعنى الذي ثبت في الأئمّة- عليهم السلام- من كونهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم في حقّه و لكن هل هنا دليل يثبت شطرا منها له، أعني كونه متصرّفا في الأمور العامّة التي هي شأن الرئيس فهل هو في زمان الغيبة جعل نائبا عن الرئيس الأصلي أو لا، قد يتمسّك لذلك بروايات.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 25

[الثالث من أولياء التصرف عدول المؤمنين]
اشارة

مسألة في ولاية عدول المؤمنين اعلم أنّ هنا ثلاثة أقسام من التصرّفات.

الأوّل: ما يقطع بمطلوبيّتها على وجه الإطلاق من أيّ فاعل صدر.

و الثاني: ما يقطع بمطلوبيّتها و لكن لا يعلم كون مطلوبيته على وجه الإطلاق، و هذا على قسمين، الأوّل: أن يحتمل كونه من وظائف شخص الإمام فيفوت بفوت أسبابه، و لا ينافي معروفيّته جعل الشارع لمصلحة إيّاه وظيفة شخص خاص، فيفوت عند عدم التمكّن منه، و الثاني: أن يقطع بعدم انقطاع مطلوبيّته و عدم رضي الشارع بتعطيله، و لكن لا يعلم كونه وظيفة كلّ فاعل، بل يحتمل تقدّم طائفة على غيرها و أولويّتها بالتصدّي

و لو كان عند التعذّر تسقط تلك المرتبة، و يحتمل اعتبار المرتبة النازلة، مثلا عند التمكّن من الفقيه يحتمل اعتبار تصدّيه، و عند تعذّره يحتمل اعتبار تصدّي العدول، و مع فقدهم تصدّي الثقات، و مع فقدهم تصدّي الشيعة و هكذا.

فالقسم الأوّل لا كلام فيه و لا يحتاج إلى مثل قوله تعالى وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 26

وَ التَّقْوىٰ «1» لكونه من المستقلّات العقليّة و الآية في مثلها من الإرشاديات الصرفة، إنّما الكلام في القسمين الآخرين، فهل يصحّ التمسك بعموم مثل الآية الشريفة و إطلاق قوله: «عونك الضعيف من أفضل الصدقة» «2» لإثبات إطلاق المعروفيّة أو لا؟ الحقّ الثاني، لأنّ العموم لا يتكفّل لتحقيق موضوعه.

إن قلت: بعد ما فرضنا كون التصرّف معروفا عرفا و برّا كذلك نحكم بدخوله تحت الحكم، و أيّ فرق بين هذا و بين التمسّك بإطلاق مثل قوله أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ «3» لدفع احتمال شرطية ما يحتمل شرطيّته؟

قلت: الفرق أنّ الاختلاف في باب البيع اختلاف مصداقيّ، فربّ شي ء يراه العرف مصداقا دون الشرع، فما دام لم يرد تخطئة من الشرع لنظر العرف يحمل على المصداق العرفي لئلّا يلزم نقض الغرض.

و أمّا هنا فعند العرف أيضا للبرّ قسمان: قسم لا يعتبر الإضافة إلى فاعل خاص في برّيّته، و قسم يعتبر، و من الثاني عندهم إصلاح مال الغير الكبير بدون إذنه أو الصغير الذي له أب بدون إذن منه، فإنّ مجرّد كون التصرّف إصلاحا لا يجوّزه و لا يوجب اندراجه في البرّ، و الحاصل: أنّ العمل البرّي من حيث نفسه لا بدّ من ملاحظة أنّه هل يكون له اختصاص بأحد فتصدّي غيره يخرجه عن البريّة؟ يعني أنّه بإضافة إلى هذا الغير

لا يكون برّا أو لا يكون كذلك حتّى لا يكون مانع من قبل الإضافة للاقتضاء الثابت من قبل الذات، و مع الشكّ يكون مردّدا بين كونه برّا و مشروعا أو محرّما و غير مشروع، فالتمسّك بالعام تمسّك في

______________________________

(1)- المائدة/ 2.

(2)- الوسائل: ج 11، الباب 59، من أبواب جهاد العدوّ و ما يناسبه، ص 108، ح 2.

(3)- البقرة/ 275.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 27

الشبهة الموضوعيّة، هذا حال الآية و مثله قوله: كلّ معروف صدقة «1».

و أمّا قوله: «عونك الضعيف من أفضل الصدقة» و قوله: «و أنّه تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» فالتمسّك بهما و إن لم يمكن في المشكوك الموضوعيّة لكون التصرّف عونا عرفا، إلّا أنّه يمكن منع كون أمثال هذه القضايا التي سيقت لبيان الثواب على طبيعة حسنة في مقام الإطلاق، ألا ترى أنّه لا يمكن الأخذ بإطلاق قوله: «الصوم جنّة» «2» و قوله إِنَّ الصَّلٰاةَ تَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ «3».

و إذن فلو شككنا في تصرّف أن يكون منوطا بنظر الإمام- عليه السلام- مثل إجراء الحدود الشرعيّة على مستحقّيها بأن كان هذا الأمر و لو لمصلحة نوعيّة مودعا إلى من له حقّ الرئاسة و السلطنة على العباد و له السيّاف و الجلّاد و السجن، فيكون تصرّف غيره في حقّ الغير بدون إذن مالكه و صاحبه فيكون معروفا متعذّرا لتعذّر أسبابه، و لو لم نشكّ من هذه الجهة قطعنا بمطلوبيّته للشارع في زمان الغيبة، و لكن احتملنا أنّ الشارع أو كل مباشرته و نظارته إلى طائفة خاصّة ليس لغيرها التصدّي بدون إذن هذه الطائفة اقتصارا في الخروج عن أصالة عدم المشروعيّة على القدر المتيقّن، فإنّ الأصل في التصرّفات

الراجعة إلى النفوس و الأعراض و الأموال المتعلّقة بالغير الحرمة و عدم المشروعيّة حتّى يثبت المخرج، و المفروض إجماله، و أصالة عدم اعتبار نظارة من يحتمل نظارته غير جارية إذ لا يثبت بها إطلاق الدليل المخرج، هذا هو الكلام على حسب القاعدة.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 6، الباب 41، من أبواب الصدقة، ص 321، ح 1- 2.

(2)- المصدر نفسه: ج 7- الباب 1، من أبواب الصوم المندوب، ص 290، ح 8.

(3) العنكبوت/ 45.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 28

و أمّا بالنظر إلى الأخبار الخاصّة، فربّما يدّعى أنّ المستفاد منها جواز تولّي كلّ أحد من غير فرق بين العادل و غيره بشرط أن يكون مراعيا للمصلحة و ناظرا للغبطة، نعم هذا بحسب تكليفه فيما بينه و بين اللّٰه.

و أمّا بالنسبة إلى ما يتعلّق من فعله بفعل الغير إذا لم يعلم أنّه راعى المصلحة أو لا كالشراء منه مثلا، فلا يجوز الاعتماد على قوله و تصديقه في خبره أنّه على وفق الصلاح إلّا إذا كان عدلا.

أمّا أصل جوازه لكلّ أحد فمضافا إلى عموم أدلّة ذلك المعروف مثل «عون الضعيف من أفضل الصدقة» و مثل قوله تعالى وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ* «1» تدلّ عليه صحيحة محمّد بن إسماعيل: «رجل مات من أصحابنا و لم يوص، فرفع أمره إلى قاضي الكوفة فصيّر عبد الحميد القيّم بماله و كان الرجل خلّف ورثة صغارا و متاعا و جواري، فباع عبد الحميد المتاع، فلمّا أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهنّ إذ لم يكن الميّت صيّر إليه وصيّة و كان قيامه فيها بأمر القاضي لأنّهنّ فروج. فما ترى في ذلك؟ قال: إذا كان القيّم به مثلك و مثل عبد

الحميد فلا بأس» «2» و كونه من باب الإذن خلاف الظاهر، فإنّ ظاهر قوله: فما ترى؟ أنّه في مقام سؤال الفتوى.

و حينئذ نقول: المماثلة يحتمل فيها خمسة أوجه، الأوّل: ما ذكرنا من مراعاة غبطة اليتيم و ملاحظة مصلحته، و لو كان المتولّي غير شيعي، و الثاني: المماثلة في التشيّع، و الثالث: في الوثاقة، و الرابع: في العدالة، و الخامس: في الفقاهة.

______________________________

(1)- الإسراء/ 34.

(2)- الوسائل: ج 12، الباب 16، من أبواب عقد البيع و شروطه، ص 270، ح 2.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 29

و احتمال الأخير مدفوع بأنّ إطلاق المفهوم على تقديره شامل لحال تعذّر الفقيه، فيكون قيام غير الفقيه و لو مع تعذّره ممّا فيه بأس، و هو مقطوع الخلاف، و هذا بخلاف الأربعة الأول، فإنّ البأس ثابت للخائن و المخالف و غير الثقة و الفاسق و إن تعذّر غيرهم فيدور الأمر بين هذه الأربعة، و حينئذ و إن كان يجب الأخذ بالأخصّ منها، و هو العدل، و لكنّ الظاهر من بعض الروايات كفاية ملاحظة مصلحة اليتيم، فيكون مفسّرا للاحتمال الثاني في وجه المماثلة.

ففي صحيحة عليّ بن رئاب قال: «سألت أبا الحسن موسى- عليه السلام- عن رجل بيني و بينه قرابة مات و ترك أولادا صغارا و ترك مماليك له غلمانا و جواري و لم يوص، فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتّخذها أمّ ولد و ما ترى في بيعهم؟ فقال: إن كان لهم وليّ يقوم بأمرهم باع عليهم و نظر لهم كان مأجورا فيهم، قلت: فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتّخذها أمّ ولد؟ قال: لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيّم لهم الناظر فيما يصلحهم، و ليس لهم أن يرجعوا عمّا صنع

القيّم لهم الناظر فيما يصلحهم» «1».

و موثّقة زرعة عن سماعة، قال: «سألته عن رجل مات و له بنون و بنات صغار و كبار من غير وصيّة و له خدم و مماليك، كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كلّه فلا بأس» «2».

بناء على أنّ المراد، من يوثق به و يطمئنّ بفعله، و إن لم يكن فيه ملكة العدالة، و أمّا عدم جواز تصديق الغير الذي يريد ترتيب الأثر على فعل المتولّي قوله في رعاية المصلحة إلّا إذا كان عدلا، فتدلّ عليه صحيحة إسماعيل بن سعد

______________________________

(1)- الوسائل: ج 13، الباب 88، في أحكام الوصايا، ص 474، ح 1.

(2)- الوسائل: ج 13، الباب 88، في أحكام الوصايا، ص 474، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 30

الأشعري قال: «سألت الرضا- عليه السلام- عن رجل مات بغير وصيّة و ترك أولادا ذكرانا غلمانا صغارا و ترك جواري و مماليك هل يستقيم أن تباع الجواري؟ قال:

نعم، و عن الرجل يموت بغير وصية و له ولد صغار و كبار أ يحلّ شراء شي ء من خدمه و متاعه من غير أن يتولّى القاضي بيع ذلك؟ فإن تولّاه قاضٍ قد تراضوا به و لم يستعمله (يستخلفه) الخليفة أ يطيب الشراء منه أم لا؟ فقال- عليه السلام-: إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع و قام عدل في ذلك» «1».

و مثلها موثّقة زرعة المتقدّمة على تقدير حمل الوثاقة على العدالة، كما ربّما يستظهر من إطلاقها، فإنّ الوثاقة من كلّ الجهات من حيث الديانة و غيرها كما هي المستظهر عند الإطلاق مساوقة مع العدالة، و أمّا حمل الثقة في دليل

حجيّة خبر الثقة و أذان العارف الثقة على خصوص الثقة في الإخبار فلعلّه لأجل الاحتفاف بالقرينة و هي وقوعه مسندا إليه الأخبار، فتأمّل.

و يدلّ أيضا على عدم جواز التصديق أنّ أدلّة العام بذلك المعروف لا يرفع اليد عنها بمجرّد تصرّف الفاسق، نعم لو كان الأمر مرتّبا على الفعل الصحيح و كان أصل الفعل محرزا و شكّ في صحته أمكن إحراز الصحّة بأصالة الصحّة، كما لو صلّى فاسق على ميّت و لم يعلم صحّتها، فيجوز اكتفاء الغير بها لأنّ الموضوع هو الصلاة الصحيحة، و هذا بخلاف شراء مال اليتيم من الفاسق المتولّي لبيعه مع الشكّ في أنّه راعى المصلحة أو لا، فإنّه لم يقع البيع الصحيح موضوعا لنفوذ الشراء و صحّته حتى يحرز بأصالة الصحّة، بل الموضوع عنوان كون هذا الشراء

______________________________

(1)- الوسائل: ج 13، الباب 88، في أحكام الوصايا، ص 474، ح 2. و الجزء 12، الباب 16، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 270، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 31

إصلاحا لمال اليتيم و مراعاتا لحاله، و هذا العنوان لا يكاد يحرز بأصالة الصحّة في بيع الفاسق، فإنّه لا يثبت كون تصرّفه إصلاحا حتى يثبت بالملازمة كون الشراء أيضا كذلك.

نعم لو رأينا في يد الفاسق ثمنا من مال الصغير لم يلزم الفسخ مع المشتري و أخذ الثمن من الفاسق، و كذا يجوز شراء عين مال اليتيم الذي في يد ذلك المشتري من الفاسق، لأنّ مال اليتيم الذي يجب إصلاحه و حفظه من التلف مردّد بين كونه الثمن أو المثمن و أصالة الصحّة حاكمة بالأوّل، هذا حاصل ما أفيد في هذا المقام.

و قد تنظّر فيه شيخنا الأستاذ- دام بقاه- أمّا أوّلا: فما ذكر من

صحّة التمسّك للمقام بعموم «عون الضعيف» و لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ*.

فيه: أنّ الأوّل غير مسوق للإطلاق و حاله حال «إنّ الصوم جنة من النار» «1» فلا ينافيه اعتبار ألف شرط، و الثاني أيضا مسوق لاعتبار مراعاة الحسن و الصلاح في مقام فرغ عن جواز أصل القرب من مال اليتيم و التصرّف فيه، نظير قوله: «لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» و قوله: «لا صلاة إلّا بطهور» «2».

ألا ترى أنّ بيع غير الجدّ في صورة وجوده عن القرب من مال اليتيم لا يعدّ منافيا لعموم الآية كما لا ينافي اعتبار الإنشاء مثلا في حلّية المال في المعاملة و اعتبار سائر الشروط في الصلاة لعموم القولين المذكورين.

و أمّا ثانيا: فما ذكر من التفرقة بين احتمال الفقاهة و غيرها من الوجوه الأربعة في وجه المماثلة المذكورة في الصحيحة الأولى لا يعلم لها وجه، فإنّه إمّا نفرض كون

______________________________

(1)- الوسائل: ج 7، الباب 1، من أبواب الصوم المندوب، ص 290، ح 8.

(2)- المصدر نفسه: ج 1، الباب 1، من أبواب الوضوء، ص 256، ح 1، 6.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 32

التصرّف مفروغا عن معروفيته مطلقا، و أنّ الشارع لا يرضى بعدم وقوعه مطلقا، فجميع الوجوه مشترك في أنّ إطلاق المفهوم لحال تعذّر الغير مناف مع هذا القطع الخارجي، و إمّا لا نفرض كذلك فلا منافاة في إطلاق المفهوم بالنسبة إلى العادل في حال تعذّر الفقيه أيضا.

هذا مع إمكان أن يقال: ليس للصحيحة إطلاق بالنسبة إلى حال تعذّر مثل عبد الحميد، فإنّ القضية الشرطيّة ظاهرها عقد كلّ من المنطوق و المفهوم في الموضوع المفروغ، فقولك: إن جاءك زيد فأكرمه، ساكت عن حال عدم وجود زيد في العالم منطوقا

و مفهوما، فكذلك في المقام حيث إنّه بمنزلة قولنا: إذا قام بالأمر زيد فلا بأس، لا مثل قولنا: إذا كان القيّم فقيها، حيث إنّ الموضوع المفروغ عنه حينئذ هو القيّم لا الفقيه فتدبّر، و على هذا فلا محيص عن إجمال الرواية و لزوم الأخذ بأخصّ الاحتمالات و هو الفقاهة فيكون أجنبيا عن مقامنا.

و أمّا ثالثا: فما ذكر في الصحيحة من أخذ المعيار في الولاية و القيمومة مطلق القيام الصلاحي مبنيّ على كون قوله: «الناظر لهم فيما يصلحهم» تفسيرا للقيّم بأمرهم و هو غير معلوم لو لم ندّع العلم بالخلاف، فإنّه ليس معنى القيّم مطلق من تلبّس بمبدإ القيام بالأمر و لو في واقعة شخصية، بل المراد من كان أمور الصغير موكولة إليه، فالرواية ساكتة عن تعيينه و بيان معياره، و إنّما تعرّضت لشرط صحّة تصرّف من تمّت أركان القيمومة فيه، فلا ينافيها اعتبار ألف شرط في موضوع القيمومة، فلا تكون الرواية على هذا في مقام رفع جهل السائل من كلّ الجهات، و إنّما هي في مقام الردع عن احتمال مساواة القيّم و غيره و كون القيّم أيضا مختارا في ما يفعل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 33

و أمّا رابعا: فما ذكر في الموثّقة و صحيحة إسماعيل بن سعد المعتبر في أولاهما الوثاقة، و في ثانيهما العدالة من حملهما على الحكم الإثباتي الناظر بحال الشكّ في كون المتصدّي مراعيا للصلاح و عدمه، فيه أنّه مبنيّ على استظهار أنّ اعتبار الأمرين إنّما هو لصرف الطريقيّة من دون موضوعيّة لهما أصلا، بحيث لو علم من الخارج كون المتصدّي مراعيا للغبطة في مال الصغير يجوز الخروج عن مدلولها و الشراء من غير العدل و الثقة، و من الممكن بمكان

من الإمكان منع ذلك لأنّ هذا تقييد في إطلاق الخبرين بلا وجه.

فإنّ من الممكن إيكال الشارع هذا المعروف بيد خصوص هذين العنوانين و تخصيصه له بهما، و لو لمصلحة نوعيّة، بحيث كان قيام الغير محرّما و غير مشروع، و بعد إمكان هذا و تمشّي احتماله ما المانع عن أخذ الإطلاق؟ حيث إنّ إطلاق البأس المستفاد من مفهوم «لا بأس» شامل لحال العلم بمراعاة غير العدل و الثقة الصلاح و الغبطة.

و محصّل ما ذكرنا أنّه مع وجود الثقة و العدل لا يمكن القول بجواز مباشرة غيرهما لأمور الصغار بمحض كونه مراعيا للغبطة و الصلاح لا من العمومات و لا من الأخبار، بل المستفاد العدم و أنّ حاله حال المتصرّف في مال الكبير مع كمال المداقّة في إصلاحه.

نعم مع تعذّر الثقة و العدل لو فرض أنّ هنا مطلوبا لا يرضى الشارع بتركه يتصدّيه المتيقّن فالمتيقّن، و يجي ء في تصديق الغير له حينئذ التفصيل الذي ذكره من أنّه لو أراد الشراء من الفاسق نفس مال اليتيم ابتداء لا يجوز إلّا مع إحراز ملاحظة الغبطة و لا يجدي أصالة الصحّة لعين ما ذكره، و لو أراد الشراء بعد وقوع المعاملة أوّلا بينه و بين آخر، فأصالة الصحّة في معاملتهما منقّح للموضوع بالنسبة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 34

إلى تكليف هذا الثالث المريد للمعاملة الثانية، هذا حال من أثبتنا له الولاية من باب القدر المتيقّن.

و أما من ثبت ولايته بالأخبار كالعدل و الثقة بل و الفقيه على احتمال تماميّة أدلّته، فمقتضى جعل الولاية منصبا له جواز الاعتماد على عمله و عدم الحاجة إلى إحراز أنّه عمل بالشرط (و هو رعاية الصلاح) أو لا فلا يقال: إنّه ليس إلّا من

باب الاعتماد على العدل الواحد في الموضوعات الذي هو محلّ الإشكال، فإنّ ذلك في غير موضوع ثبت لهم الولاية.

فإن قلت: يحتمل انعزاله عن الولاية بواسطة الخيانة فالشك راجع في الموضوع.

قلت: إنّما نيطت في الأدلّة صحّة تصرّف الغير على إحراز عنوان العدالة و الوثاقة و الناظرية في الصلاح بمعنى ملكة هذه الأمور و لو كان العمل بها في خصوص الواقعة الشخصية مشكوكا.

ثمّ إنّه حيث ثبت ولاية المؤمنين، قد يكون على وجه الحكم من الإباحة أو الندب أو الوجوب، أو على وجه الولاية فيكون قائماً مقام الأب و الجدّ، أو على وجه النيابة إمّا عن الحاكم الشرعي و إمّا عن الإمام- عليه السلام.

و شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- حاول الفرق بين هذه الوجوه في الثمرة و هي جواز مزاحمة عدل آخر للعدل المتصدّي قبل إتمامه العمل، كما لو باع الأوّل ما عرضه الثاني للبيع من شخص، من شخص آخر قبل بيع الثاني، بناء على الوجهين الأوّلين، و عدم جواز ذلك على الأخير، و من هنا فرّق بين ولاية المؤمنين و كذا الأب و الجدّ و بين ولاية الحكّام بأنّ الأوّلتين ليستا من باب النيابة، و إذا كان كلّ من الاثنين مرجعا و مالكا للأمر فمهما تصدّياه فقد تصدّاه المالك.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 35

و أمّا ولاية الحكّام فهي تابعة لمدركها، فإن كان المدرك مثل التوقيع الشريف «1» الآمر بإرجاع الحوادث الواقعة إلى الفقيه، فالمستفاد منه صرف المرجعيّة فيجوز لو عيّن فقيه من يصلّي على الميّت أو من يقوم بأمر أمواله أو وضع اليد على مال أن يزاحمه فقيه آخر و يفعل خلاف ما أراد الأوّل و بنى عليه؛ لأنّه أيضا مرجع و لا يخرج عن المرجعيّة بمجرّد

شروع الأوّل في مقدّمات التصرّف، نعم لو صدر منه التصرّف فهو من باب فقدان الموضوع.

و إن كان المدرك عمومات النيابة فالظاهر عدم جواز مزاحمة الفقيه الآخر، لأنّه كمزاحمة نفس الإمام فيما أراده و دخل في مقدّماته، فكما لا يجوز مزاحمته- عليه السلام- لا يجوز مزاحمة نائبه- صلوات اللّٰه عليه- فأدلّة النيابة عن الإمام- عليه السلام- لا يشمل ما كان فيه مزاحمة الإمام- عليه السلام-، هذا ما ذكره- قدّس سرّه.

و قد تنظّر فيه شيخنا الأستاذ- دام بقاه- بأنّه لا فرق بين الوجوه الثلاثة من جهة هذه الثمرة سواء كان المدرك للولاية هو القدر المتيقّن أم الأدلّة اللفظية، أمّا على الأوّل فلأنّ القدر المتيقّن من الخروج عن خلاف الأصل الأوّلي من عدم جواز التصرّف في أنفس الغير و أمواله و إعراضه صورة عدم تصدّي فرد آخر من العنوان، فيخرج الباقي عن القدر المتيقّن، و لا فرق بين الحكم و الولاية و النيابة و هذا واضح.

و أمّا على الثاني، فيدور الأمر مدار استفادة العموم الأزماني من الدليل، فإنّ الدليل الآمر برجوع العوام مثلا في الوقائع الحادثة إلى الحكّام إن كان ناظرا إلى زمان دخول فقيه آخر أيضا نظير ما يقال في التخيير الاستمراري في دليل التخيير

______________________________

(1)- الوسائل: ج 18، الباب 11، من أبواب صفات القاضي، ص 101، ح 9.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 36

بين الخبرين كان للفقيه الآخر مزاحمة الأوّل، و للعوام المراجعين أن يرفعوا اليد عن الأوّل و مراجعة الثاني كما في الخبرين، و كذلك الدليل الدال على ولاية هذا الجنس أو نيابته إن استفيد منه العموم الأزماني و أنّ الولاية أو النيابة محفوظة حتى بعد تصدّي فرد آخر مثله جاز المزاحمة، و ليس مزاحمة

نائب الإمام- عليه السلام- حينئذ إلّا من نائبه و بإذنه- عليه السلام.

هذا على تقدير الاستفادة، و لو لم يكن للدليل عموم أزماني على جميع الوجوه الثلاثة فيكون الحال كما لو كان المدرك هو القدر المتيقّن فهل يصحّ إثبات جواز تصرّف الثاني بالاستصحاب أو لا؟ الحق الجواز، فيقال: إنّه كان قبل تصدّي الأوّل جائز التصرّف أو وليّا أو نائبا و الآن نشكّ في بقاء ذلك فالأصل بقاؤه.

لا يقال: هذا مبنيّ على القول بانصراف قوله: «لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» إلى المالك الذي من شأنه الإذن و طيب النفس، فلا يشمل الصغير، و أمّا لو قلنا بعمومه للصغير أيضا فلا بدّ حينئذ من التفصيل بين ما لو استفيد الحكم فالمرجع عند الشكّ عموم هذا الخبر أو الولاية فالمرجع الاستصحاب، و الفرق أنّ استصحاب حكم الخاص مع وجود العموم الأزماني كما هو الحال في الخبر المذكور غير جائز، لأنّه تمسّك بالأصل في قبال الدليل، و الاستصحاب المنقّح لموضوع العام مقدّم على العام، فلو استفيد الحكم كان تصرّفا في حكم قضيّة لا يحلّ، و لو استفيد الولاية أو النيابة كان تصرّفا في موضوعها و تعميما لطيب نفسه إلى طيب نفس من يقوم مقامه بلسان التنزيل، و الأوّل تخصيص و الثاني أيضا تخصيص بلسان الحكومة، فلا جرم يختلف حال الاستصحاب عليهما.

لأنّا نقول: هذا العموم بالنسبة إلى الصغير غير ممكن العمل مطلقا، لأنّ العمل به إنّما يحصل بإناطة جواز التصرّف بطيب نفس الصغير و هذا المعنى غير

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 37

متحقّق في حال الصغارة أبدا، و بعد ذلك لا يفرق الحال بين أن يكون جواز التصرّف ثابتا لواحد أو اثنين، فلا يكون الثاني زيادة تخصيص و

لا الأوّل حفظ عموم.

[فصل في اشتراط المصلحة في غير الأب و الجد و عدمه]

[فصل] ثمّ إنّه هل يعتبر في ولاية العدول أو غيرهم ممّن ثبت ولايته و جواز تصرّفه في مال اليتيم ملاحظة الغبطة له أو لا؟ لا بدّ أوّلا من التكلّم في الأصل في المسألة.

فنقول: أمّا في التكليفيّات الصرفة فمقتضى الأصل العقلي في باب النفوس و الفروج و الأموال هو الاحتياط حتّى في الشبهة البدويّة أيضا، مضافا إلى عمومات أدلّة عدم جواز التصرّف فيها شرعا، خرج ما كان موافقا للغبطة، و بقي الباقي.

و أمّا في الوضعيات فالأصل الأوّلى فيها هو الفساد و عدم ترتّب المسبّبات، و لكنّه هنا محكوم، لأنّه إن قلنا بأنّ الثابت في المقام صرف الحكم التكليفي دون الوضعي و هو الولاية فالمرجع عند الشكّ عموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و نحوه، إذ قد علمنا كون طيب نفس المالك أو من يقوم مقامه ساقطا عن الاعتبار بالنسبة إلى البيع الصادر من هذا الشخص و لكن نشكّ في اعتبار قيد آخر و هو مراعاة الصلاح و الغبطة فأصالة الإطلاق يدفعه.

و إن قلنا: بأنّ الثابت هو الولاية فالمرجع حينئذ أصالة عدم الولاية، لأنّا نعلم بأنّ إطلاق أَحَلَّ و شبهه قد قيّد بطيب نفس المالك أو وليّه، و الشكّ في ولاية هذا المتصدّي عند عدم مراعاة الصرفة، فاستصحاب عدم ولايته منقّح للموضوع و هو مقدّم على أصالة العموم أو الإطلاق، هذا حال الأصل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 38

و أمّا مقتضى الأدلّة فقوله تعالى لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ* «1» عدم الجواز إلّا مع رعاية الصلاح، و التكلّم في مفاد الآية يقتضي شرح ما يحتاج إلى الشرح منها.

فنقول و باللّٰه الاستعانة: «القرب» فيها يحتمل أربعة أوجه على ما ذكره شيخنا المرتضى- قدّس

سرّه-:

الأوّل: مطلق التقليب و التحريك و لو من مكان إلى غيره، فلا يشمل حكم إبقاء المال على حال أو عند أحد.

الثاني: وضع اليد و الاستيلاء عليه و لو بأخذ مفتاح الحجرة التي فيها مال اليتيم فلا تشمل حكم ما بعد الوضع و التصرفات المترتبة المتأخرة عنه.

الثالث: مطلق ما يعدّ تصرّفا عرفا، فيشمل الوضع و كلّ تصرّف جديد بعده، فكلّ منها متعلّق لنهي مستقل نظير حرمة الغصب، فإنّه ليس التصرّف في الدار الغصبية مثلا بجميع أنحائه ذا نهي واحد، حتّى أنّه لو اضطرّ إلى المكث فيها لا يفرق الحال بين الجلوس في مكان واحد و السير في أطرافها، بل السير عرفا تصرّف زائدا على أصل الكون فيتعلّق به نهي مستقل و المفروض عدم الاضطرار به، و لهذا اشترطوا في صحّة صلاة المحبوس فيها أن لا يتصرّف فيها زائدا على مقدار اضطراره، نعم لا اعتبار بما لا يتفاوت عرفا و لا يعدّ تصرّفا زائدا.

و بالجملة: ففي المقام مثلا وضع اليد على فرس اليتيم منهيّ عنه و ركوبه منهيّ آخر و هكذا، و لكن لا يفرض على هذا الحال الإبقاء، لأنّ الظاهر منها أنّه

______________________________

(1)- الإسراء/ 34.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 39

لا تحدثوا ما يعدّ تصرّفا، فلو أمسك الفرس في اصطبله و لم يتصرّف فيه بما زاد على الإمساك لم يخالف إلّا نهيا واحدا و إن طال ذلك سنين. نعم هذا بحسب ما يستفاد من اللفظ، و أمّا استفادة حرمة الإبقاء من تنقيح المناط أو من الخارج فلا ينافي ما ذكرنا.

الرابع: مطلق الأمر الاختياري وجوديّا كان أم عدميا، فلو كان مال اليتيم في بيته و لكن كان تصدي الإنسان بيعه أحسن من ترك التعرّض له رأسا يجب

اختيار الأوّل، لأنّ هذا الترك أمر اختياري فلا يجوز اختياره في مال اليتيم إلّا إذا كان أحسن، هذا احتمالات «القرب».

و أمّا لفظ «الأحسن» فيحتمل أيضا أربعة أوجه كما ذكره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-:

الأوّل: أن ينسلخ عن معنى التفضيل و يكون بمعنى الحسن و يراد بالحسن ما فيه مصلحة.

الثاني: هذا و يراد به ما لا مفسدة فيه على ما قاله بعض من أنّ الحسن ما لا حرج في فعله.

الثالث: أن يكون باقيا على ظاهره من معنى التفضيل و يراد به الأحسن من تركه كما في وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «1» و «ضع أمر أخيك على أحسنه» «2».

الرابع: هذا و يراد الأحسن مطلقا من غيره من سائر التصرّفات الوجودية و لكن لا بمعنى ما لا يتصوّر أحسن فوقه، إذ هذا لا يتناهى، و لا بمعنى أحسن ما يوجد، إذ ربّما كان هناك ثلاثة تصرّفات اثنتان منها أحسن من الثالث لكن لا

______________________________

(1)- النحل/ 125.

(2)- الوسائل: ج 8، الباب 161، أبواب أحكام العشرة، ص 614، ح 3.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 40

تفاضل بينهما، فالقطع حاصل بجواز التصدّي و عدم جواز الإهمال و كذا لو لم يوجد إلّا تصرّف واحد و كان عدمه مضرّا، فإنّا نقطع بعدم جواز الإهمال لأجل عدم اتّصاف هذا التصرّف بالأحسنيّة عمّا عداه الموجود، بل بمعنى ما لا أحسن منه، كما هو الحال في الولد الأكبر، فإنّ المراد به الولد الذي لا أكبر منه فيشمل الواحد و التوأمين و كذا تقليد الأعلم فإنّ المراد من لا أعلم منه.

ثمّ الظاهر من احتمالات القرب هو الثالث و من احتمالات الأحسن هو الأخير، أمّا الثاني فواضح، و أمّا الأوّل، فلأنّ من الواضح أنّ المراد من القرب

في هذه المقامات ليس معناه الحقيقي حتى تكون المجاورة المكانية و بالبدن محرّمة بالنسبة إلى مال اليتيم، بل المقصود هو الكناية، و المكنّى عنه يختلف حسب اختلاف المقامات، فإذا أضيف إلى الأفعال كما في لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰارىٰ «1» كان كناية عن إيجاد ذلك الفعل، و إذا أضيف إلى الأعيان كما في:

فلان لا يقرب الكتاب أو لا يقرب المسجد، فالمقصود الكناية عن الأفعال المعهودة المتعارفة بالنسبة إلى تلك العين كالمطالعة بالنسبة إلى الكتاب، و الصلاة أو مطلق العبادة بالنسبة إلى المسجد.

ففي مقامنا لا بدّ أن يكون المكنّى عنه التصرّفات المتعارفة في الأموال و هي مطلق ما يعدّ تصرّفا وجوديا فيها أعمّ من نفس الاستيلاء أو التقليب من مكان إلى غيره أو البيع و الشراء، فتخرج عنه العدميّات، و ينطبق هذا على المعنى الثالث.

و على هذا فلو اختار التصرّف الوجودي و كان في البين أصلح و صالح لا يجوز العدول عن الأوّل، و أمّا أصل اختياره التصرّف الوجودي في قبال ترك التصرّف الرأسي فلا شي ء في الآية يدلّ على لزومه بمجرّد كونه أصلح من غيره

______________________________

(1)- النساء/ 43.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 41

و عدم جواز البقاء على عدمه لفرض عدم شمول القرب للعدميّات.

و لا يرد أنّه على هذا يلزم أنّه لو كان في الترك مفسدة أعظم من مصلحة الفعل و لو كانت هذه المصلحة بالنسبة إلى مصلحة فعل آخر أعظم جاز التصدّي بناء على كون المراد الأحسن من غيره من التصرّفات الوجودية لا من تركه، إذ لا يعقل أحسنيّة الشي ء من تركه، للزوم أن يكون الترك أحسنا و هو مع حسن الفعل غير مجامع، إذ يمتنع اتّصاف النقيضين بالحسن و الرجحان بعد أنّ

لازم رجحان كلّ من طرفي النقيضين مرجوحيّة الطرف الآخر ككفّتي الميزان إذا رجّح أحدهما خفّ الآخر، بخلاف الضدين حيث يمكن اتصاف كليهما بالحسن، فملاحظة الأحسنية في الآية لا بدّ أن تكون مقصورة بالأضداد الوجودية دون الضدّ العام، وجه عدم الورود عين ما ذكر، فإنّه إذا فرض كون الترك ذا مفسدة أعظم لا يعقل اتصاف الفعل بأصل الحسن حتى يلاحظ تفاضله بالنسبة إلى الغير.

ثمّ هذا كلّه مقتضى الآية الشريفة، و لكن بإزائها خبران دالّان على عدم لزوم مراعاة الأصلح عند وجوده و وجود الصالح:

الخبر الأوّل: حسنة الكاهلي «قال: قيل لأبي عبد اللّٰه- عليه السلام-: إنّا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام و معه خادم لهم فنقعد على بساطهم و نشرب من مائهم و يخدمنا خادمهم، و ربّما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا و فيه من طعامهم فما ترى في ذلك؟ فقال: إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، و إن كان فيه ضرر فلا» «1» الحديث.

الخبر الثاني: رواية ابن المغيرة: «قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السلام-: إنّ لي ابنة أخ

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 71، من أبواب ما يكتسب به، ص 184، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 42

يتيمة فربّما أهدي لها الشي ء فآكل منه ثمّ أطعمها بعد ذلك الشي ء من مالي، فأقول: يا ربّ هذا بهذا؟ قال: لا بأس» «1».

أمّا دلالة الثانية بواسطة ترك الاستفصال عن زيادة العوض و مساواته على جواز المساواة فواضحة.

و أمّا الأولى: فلا شبهة في انقداح المعارضة بين صدرها و ذيلها كما في نظائرها بدوا، فإنّه إذا قيل: إن غسلت ثوبك في المركن فمرّتين، و إن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة، يتعارض الصدر الذيل

في الماء الكرّ لأنّ مفهوم الصدر عدم لزوم المرّتين، و مفهوم الذيل عدم جواز الاكتفاء بالمرّة، و هكذا في المقام التصرّف الضرري حرام بمقتضى الذيل و ما فيه المنفعة سواء بالزيادة في المالية كما لو شرب ماء و أعطى درهما يوازي أضعاف ماليّة ذلك الماء، أم في غيرها كما لو أكل خبزا و أعطى مكانه خبزا في يوم آخر بحيث لو بقي الخبز الأوّل لنقص عن طراوته و جداوته جائز بمقتضى الصدر، و ما لا نفع فيه و لا ضرر كما لو أكل خبزا و وضع مكانه خبزا مثله في ساعته، يتعارض فيه مفهوم الجملتين.

فقضيّة مفهوم الصدر حيث أناط الجواز بالنفع عدم الجواز، و مقتضى مفهوم الذيل حيث أناط الحرمة بالضرر الجواز هذا، و قد نقل هذا المعنى شيخنا المرتضى عن بعض معاصريه- قدّس سرّهما- و لم يرتضه و قال في بيان عدم التعارض:

إنّ المراد من منفعة الدخول ما يوازي عوض ما يتصرّفون من مال اليتيم عند دخولهم فيكون المراد بالضرر في الذيل أن لا يصل إلى الأيتام ما يوازي ذلك انتهى المقصود من كلامه- أعلى اللّٰه مقامه.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 71، من أبواب ما يكتسب به، ص 184، ح 2.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 43

و أنت خبير بأنّه- قدّس سرّه- أراد إدخال ما لا نفع فيه و لا ضرر في قسم ما يوازي و مشمولا للمنفعة، و بهذا فسّر كلامه أيضا بعض الأساطين من محشّي كلامه، لكنّه قال بعد هذا التفسير: و كيف كان فلا تنافي بين صدر الرواية و ذيلها لكون الشرطيّة في كلّ منهما مسوقة على ما هو الغالب من حصول الضرر أو النفع من دخول بيت اليتيم، لندرة الموازاة

بين الضرر و النفع الداخلين عليه من الدخول فلا تعرّض في إحداهما لهذه أصلا فلا تعارض كما لا يخفى، انتهى كلامه- زيد في علوّ مقامه.

و استشكل عليه شيخنا الأستاذ- أدام اللّٰه أيّام إفاداته-:

أوّلا: بأنّه خلاف مرام شيخنا و هو بصدد تفسير كلامه و توضيح مرامه، إذ على هذا يلزم مسكوتيّة الفرض المزبور في الرواية، و مقصوده- قدّس سرّه- على ما فسّره نفس المحشّي أيضا شمول الصدر لهذا الفرض.

و ثانيا: ما ذكره من كون ندرة فرض الموازاة موجبا لخروجه عن كلتا الشرطيتين، فيه أنّ ندرة الوجود إن صار بمثابة أوجب انصراف لفظ المنفعة مثلا إلى غيره، كان ما ذكره تامّا، لكن من المعلوم عدم كونه كذلك، و حينئذ فإن كانت القضيّة خالية عن ذكر الشرط و الإناطة و مشتملة على صرف إنشاء حكم في موضوع أمكن أن يقال: إنّه في مقام إنشاء حكمه ما تعرّض لغير ما هو محلّ ابتلاء المخاطب و خصّص إنشاؤه بالأفراد الداخلة تحت ابتلائه، و أمّا إن اشتملت على ذكر المناط و العلّة للحكم فهو في هذا كشف حجاب عن أمر واقعي دون إيجاد و إنشاء و لا معنى لاختصاص الأمر الواقعي بموارد الابتلاء دون الخارج عنه.

و الحاصل: أنّ المفروض أنّا نفهم من قوله: «إن كان في دخولكم منفعة فلا بأس» كون وجود المنفعة سببا منحصرا للجواز فيستكشف من السببيّة المنحصرة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 44

الحال في غير محلّ الابتلاء و هذا بخلاف ما إذا قال: أنفعوا اليتيم و لا تضرّوا، فيمكن أن يقال: إنّه ساكت عن صورة عدم النفع و الضرر لكونه نادرا، بخلاف قوله: النفع سبب منحصر للجواز، و إذن فالتعارض بينه و بين ما دلّ على أنّ

السبب المنحصر للحرمة هو الضرر متحقّق في الفرد الغير النافع الغير الضار.

و ثالثا: سلّمنا عدم شمول مفهوم الشرطيّتين للفرد النادر بواسطة عدم إفادة الحصر حتى بالنسبة إليه و لكن نقول مع ذلك يتحقّق التعارض، لأنّا و إن أغمضنا عن الدلالة على الحصر لكنّ الدلالة على أصل السببيّة غير قابلة للإنكار، و هذا المقدار في خصوص هذا المقام يكفي في التعارض، لأنّا نقطع أنّه إمّا وجود النفع سبب الجواز و إمّا وجود الضرر سبب الحرمة على سبيل منع الجمع. مثلا لا تعارض بين قولنا: الغسل بالمركن سبب المرّتين و بالجاري سبب المرّة بخلاف قولنا: النفع سبب الجواز، و الضرر سبب الحرمة، و مجرّد السكوت عن فرض عدم الضرر و النفع لا يرتفع التعارض.

و إذن فنقول: الحقّ في رفع هذا التعارض أن يقال: المتفاهم عرفا من أمثال هذه القضايا أنّ الأصل هو ما ابتدأ به المتكلّم في صدر الكلام، و ما عقّبه في الذكر بمثابة التفريع على الجملة الأولى مقتصرا على بعض الأفراد لنكتة، إمّا لكونه الأخفى أو الاهتمام بذكره أو غير ذلك.

ففي مثال الغسل بالمركن نقول: المعيار هو القلّة المعبّر عنها بالمركن و إنّما اقتصر في الجملة الثانية التي هي بمثابة التفريع على ذكر الجاري لندرة وجود الكرّ في بلد السائل مثلا و نحوها، و من هذا القبيل استفادة المانعية للبس جزء غير المأكول في الصلاة دون شرطيّة لبس المأكول من موثّقة ابن بكير الواردة في باب

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 45

لباس المصلّي، فنقول في المقام: المستفاد أنّ وجود النفع ملاك الجواز و ذكر الضرر في طرف الحرمة لكونه أعلى الأفراد.

هذا و قد تبيّن أنّ مقتضى إطلاق الخبرين عدم لزوم مراعاة الأصلح و قد

كان مقتضى الآية اللزوم، فقد يقال: إنّ الباب باب المطلق و المقيّد فلا بدّ من رفع اليد عن إطلاق الخبرين و تقييدهما بالآية.

و لكن لا يبعد أن يقال: ليس المقام مقام ملاحظة هذا النوع من الجمع، و توضيح المقام أن يقال: إذا كان المتكلّم بالعام أو المطلق بصدد بيان المحمولات الإنشائية، فحينئذ ينفتح باب أن يكون إنشاء هذا المحمول بالنسبة إلى بعض ما شمله العام غير مطابق مع الإرادة الجدّية و كان لأجل ضرب القانون، غاية الأمر أنّ أصالة التطابق مقتضية لعدم كونه على هذا النحو، فإذا رأينا الخاص صار الحمل على كون العموم لضرب القانون جمعا عرفيا.

و أمّا إذا كان المتكلّم بصدد بيان المحمولات الاخباريّة فباب هذا المعنى، أعني: ضرب القانون، مسدود إذ لا معنى له إلّا في المحمول الإيجادي دون الأمر الواقعي النفس الأمري الذي شأن المتكلّم كشف الحجاب عن وجهه، ألا ترى أنّه لو قال المتكلّم: رأيت جميع علماء هذا البلد، ثمّ في مجلس آخر قال في حقّ عالم من علماء هذا البلد: ما رأيته قط، فلا يجمع بين كلاميه، كما كان يجمع لو قال لعبده في مجلس: أكرم جميع علماء هذا البلد، و في مجلس آخر استثنى واحدا منهم.

نعم باب غير هذا النوع من أنحاء التجوّزات واسع كما أطلق الكلّ مسامحة و بالعناية على الجميع الكثير الذين يكون الخارج عنهم غير معتدّ به، و باب الإطلاق و التقييد خارج عن التجوّز، و تفكيك بين الإرادة الاستعمالية و الجدّية فأراد من قوله: أكرم العلماء حقيقة و جدّا زيد و لكن لا لداعي الغرض اللبّي في إكرامه،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 46

بل ربّما كان مبغوض الإكرام، بل لمصلحة في نفس الإرادة المنشأة

الجدّية، و لو كانت المصلحة ضرب القانون، ثمّ إذا وصل محلّ بيان إرادته اللبيّة بالنسبة إليه أظهرها.

و أمّا في المقام فأراد جدّا (زيد) من قوله: رأيت علماء هذا البلد، و أراده أيضا جدّا من قوله: ما رأيت زيدا قط، فلا محالة إحدى هاتين الإرادتين الحاكيتين للنسبة الخارجية صدق و الأخرى كذب، فيكون القائل مأخوذا و محجوجا عند أهل العرف بهذين القولين و هو غير مأخوذ و مسؤول عندهم بنظرهم في الإنشاءات.

و أقوى شاهد على هذا المدّعى باب الإقرار حيث إنّه لو أقرّ لزيد بعشرة دراهم إلّا واحدا كان الثابت تسعة لأنّه مقدار المقرّ به، و أمّا إذا أخّر الاستثناء إلى مجلس آخر لا يسمع منه و لا يجمع بين كلاميه، و لا يقال: إنّه و إن انعقد ظهور كلامه الأوّل و استقرّ لكن الكلام الثاني أوجب نقصان حجيته العقلائية، فلا يصحّ نسبة إرادة العاشر إليه، و من المعلوم أنّ النفوذ الشرعي متعلّق، بما صار موضوعا للحجيّة العقلائيّة، بل يقال: إنّ كلامه الأوّل إقرار بالعشرة، و الثاني إنكار عقيب الإقرار و هو غير مسموع، و ما دام لم يكن تهافت عرفي بين الكلامين- مع قطع النظر عن حكم الشرع- لما كان لهذا وجه.

و حينئذ نقول في المقام: إنّ أداة الشرط دالّة على علّية المدخول، فإذا قيل: إذا جاء زيد فأكرمه، فكأنّه قيل: المجي ء علّة لوجوب الإكرام، و هذا لا يجامع مع قولنا: المجي ء راكبا علة للوجوب، فإنّ العلّية أمر واقعي إمّا ثابتة و إمّا معدومة، و ليست كالإرادة لها مرتبتان: مرتبة الاستعمال و مرتبة اللّب، و هذا هو السرّ في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 47

مقابلة المتباينين مع قوله- عليه السلام-: «إذا زالت الشمس دخل

الوقتان» «1» و قوله- عليه السلام-: «إذا مضى من الزوال مقدار أربع ركعات دخل وقت العصر» دون معاملة المطلق و المقيّد.

نعم لا مانع من الجمع بنحو آخر كأن يقال: إنّما جعل الزوال وقتا لهما من باب التوسّع و المسامحة، و مثل هذا ممكن في مقامنا بأن يتصرّف في لفظ الأحسن في الآية و يقال: إنّه تعارف ذكر هذا اللفظ و إرادة الأحسن من تركه كما في وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «2» فإنّ المراد ما كان بقول ليّن و قوله «ضع أمر أخيك على أحسنه» «3».

______________________________

(1)- الوسائل: ج 3، الباب 4، من أبواب المواقيت، ص 91، ح 1.

(2)- النحل/ 125.

(3)- الوسائل: ج 8، الباب 161، من أبواب أحكام العشرة، ص 614، ح 3.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 48

[الشرط الخامس من شروط المتعاقدين اشتراط إسلام من ينتقل إليه العبد المسلم و بيان أدلته]

اشارة

مسألة

يشترط في من ينتقل إليه العبد المسلم ثمنا أو مثمنا أن يكون مسلما فلا يصحّ نقله إلى الكافر.

و استدلّ على هذا تارة بأنّ الكافر يمنع من استدامته، لأنّه لو ملكه قهرا بإرث أو أسلم في ملكه بيع عليه فيمنع من ابتدائه فيستكشف من مبغوضيّة البقاء مبغوضيّة الحدوث.

و أخرى بقوله تعالى وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا «1».

و ثالثة بقوله- عليه السلام-: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه» «2».

و الإنصاف كما ذكره شيخنا المرتضى: عدم خلوّ التمسّك بها عن الخدشة في الدلالة، أمّا حكاية مبغوضيّة الاستدامة، فغاية ما تقتضيه مبغوضيّة الحدوث على نهج مبغوضيّة البقاء، و لم يحكم هناك بزوال الملكيّة و الانعتاق قهرا، و إنّما حكم عليه بقوله- عليه السلام-: «بيعوه من المسلمين و ادفعوا ثمنه إلى صاحبه و لا تقرّوه عنده» في المانع أن يقال بمثله في الحدوث فكان البيع صحيحا مؤثّرا و

بعد صيرورته ملكا للكافر بيع عليه.

و من هنا تظهر الخدشة في التمسّك بالآية و النبوي، فإنّ سياقهما آب عن

______________________________

(1)- النساء/ 141.

(2)- الوسائل: ج 17، الباب 1، أبواب موانع الإرث، ص 376، ح 11.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 49

التخصيص، و بعد ما رأينا أنّ ملك الكافر في طرف الاستدامة لم يرتفع، قهرا يلزم التخصيص فيهما فيجب صونا لهما عن ذلك، حملهما على معنى لا يشمل الملكيّة، إلّا أن يقال: الظاهر من الآية أنّه ما شرع اللّٰه للكافر أن يتسلّط عليه باختياره فلا ينافي تملّكه قهرا إمّا بالإرث أو بإسلام عبده، و ذلك لأنّ السبيل المجعول للكافر الذي وقع تحت النفي ظاهر في ما كان اختياريا، إذ هذا يصدق عليه أنّه سبيل للكافر، و على هذا فالابتداء مشمول للآية و خروج الاستدامة ليس من باب التخصيص.

اللّهمّ إلّا أن يقال: لا نسلّم صدق السبيل على مجرّد التملّك و لو بالاختيار إذا كان مسلوبا عنه جميع التسلّطات و الاستنفاعات المتعارفة من الأموال، فلا مانع من شمول دليل صحّة البيع، غايته المانع عن دليل السلطنة، هذا.

و يمكن أن يقال: إنّ مثل هذه العلاقة التي ليس لصاحبها شي ء من أنحاء التصرّفات المالكيّة حتى يجوز للمسلمين بيعه بدون اعتبار طيب منه، و لا يمكنه اتخاذ خدمة و فائدة منه غير أنّه يستحقّ ثمنه عند شراء الغير لاستحقّ عرفا إطلاق اسم المال.

و حينئذ ففي طرف الاستدامة قد أفاد البيع فائدته من نقل المال بالمال لكن تحقّق في الأثناء ما نقص عن ماليّته و أسقطه عن درجة الماليّة و أبقى علاقة ضعيفة، و أمّا في الابتداء فلا يمكن القول بأنّ البيع يفيد هذه الفائدة، إذ يلزم تفكيك الإنشاء عن المنشأ و هو

خلاف مفاد أدلّة الصحّة الذي هو إمضاء ما فعله المتعاقدان في إنشائهما، و المفروض أنّ العقد البيعي لا يتحقّق في الخارج له حقيقة إلّا إذا قصد البائع الذي هو مالك العبد في المقام مثلا سلب علاقة نفسه التي

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 50

هي علاقة الملكيّة القويّة التامّة و إيجاد مثلها، أعني: علاقة قويّة تامة للمشتري، و هذا المعنى لا يمكن انعقاده، و بعد عدم إمكانه فالقول بانعقاد المرتبة الضعيفة خارج عن مدلول العمومات و محتاج إلى تعبّد خاص كما ثبت في طرف الاستدامة، حيث إنّ الأمر فيه بالعكس حيث تنتقل العلاقة الضعيفة و تتبدّل عند المشتري بالقويّة، و لولا النصّ لكان في إثباته بالقواعد محلّ إشكال، و أمّا إطلاق البيع عليه في قوله: «بيعوه» فهو من باب إطلاقه في بيع سكنى الدار و خدمة العبد ليس على حقيقته.

فإن قلت: فما تقول في المالكين المحجورين كالصغير و السفيه و المفلس، فإنّهم ممنوعون من جميع التصرّفات سوى أنّهم يستحقّون الثمن فلازم ما ذكرت عدم صحّة البيع في أموالهم؟

قلت: يكفي في صدق المالية وجود من يقوم مقام المالك و يتصرّف في ماله و يتنزّل منزلة المالك في سائر الأموال بعنوان الولاية على صاحب المال و هذا متحقّق فيما ذكرت و غير متحقّق في مقامنا، إذ لم يعلم كون حكمه- عليه السلام-:

«بيعوه» بعناية الولاية و عدم إلغاء طيب نفسه بالمرّة، إذ هذا معنى جعل الولاية، فإنّه تبديل طيبه بطيب الولي لا إسقاط طيبه رأسا، بل لا يبعد في المقام كونه من الثاني فهو بالنسبة إلى هذا العبد كأحد من البائعين لا مدخليّة لرضاه و عدم رضاه.

هذا و قد جعل التعارض شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بين الآية و

بين عمومات صحّة البيع و قاعدة السلطنة بعد تسليم عموم السبيل للتملّك، و عدم اقتضاء إباء سياقه عن التخصيص حملها ابتداء على ما لا يشمل الملك، و عدم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 51

المانع أيضا عن عمومه من جهة تفسيره بالحجّة باعتبار أنّ تعميمها لما يشمل الاحتجاج و الاستيلاء يحتاج إلى تكلّف، و الحاصل بعد تسليم عدم قصورها ذاتا عن عموم التملّك، ثمّ جعل تلك العمومات أظهر و حمل الآية بواسطة أظهريّتها على معنى لا يشمل الملكيّة، قال:

و حكومة الآية عليها غير معلومة.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته-: ليس نظره- قدّس سرّه- إلى أنّه ليس للآية نظر الحكومة و أنّها غير مندرجة تحت ضابطها، إذ من المعلوم الذي لا يمكن نسبة إنكاره إلى مؤسس هذا الأساس عدم الفرق بين الآية و بين آية مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1» و حديث «لا ضرر و لا ضرار» «2».

نعم قد يستشكل عليه أنّ ملاحظة الأظهرية بين دليل الحاكم و المحكوم في أصل مفاد حكومته خلاف مبناه- قدّس سرّه- في الأصول، فإنّه- قدّس سرّه- بنى على أنّه لو كان الدليل الشارح فيه احتمالان: أحدهما غير مماس بالمحكوم، و بالآخر يصير شارحا و مبيّنا له و ناظرا إليه و بمنزلة «أعني» بالنسبة منه، و كان في حدّ ذاته ظاهرا في الثاني، و لكنّ المحكوم بالنسبة إلى شمول المورد كان أقوى ظهورا من ظهور ذلك في الحكومة لا يلاحظ الترجيح بالأظهرية بينهما، بل يحكم بتقديم الأوّل في مفاده الشرحي.

و قد اخترنا ذلك أيضا في محلّه، و وجهه إجمالا أنّ الترجيح بالأظهرية فرع انقداح التعارض، و مثل هذين الدليلين لا ينقدح من الأوّل تعارض بينهما حتّى نحتاج إلى

ملاحظة الترجيح و تقديم أظهرهما، نعم اختار بعض من تأخّر عنه

______________________________

(1) الحج/ 78.

(2) الوسائل: ج 17، الباب 1، من أبواب موانع الإرث، ص 376، ح 10.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 52

- قدّس سرّه- خلاف هذا، و أنّه في هذا المقام أيضا يلاحظ الترجيح فهو في هذا المقام سالم عن الإشكال و لكنّه- قدّس سرّه- مأخوذ هنا بمبناه.

قال شيخنا الأستاذ- أدام اللّٰه أيّام إفاداته-: يمكن ذبّ هذا التنافي في المقامين بين دعوييه- قدّس سرّه- فيهما بأن يقال: قد يراد إعمال الترجيح و الموازنة بين الظهورين في أصل مفاد الحكومة كأن يكون دوران أمره بين كونه «أعني» حتى يكون حاكما، أو «يعني» حتّى يكون أجنبيّا و كان ظهوره في الأوّل، و كان ظهور المحكوم أقوى من هذا الظهور، ففي هذا المقام لا يجوز ذلك و كلامه في الأصول ناظر إلى هذا المقام.

و قد يراد بعد الفراغ عن تقديم الدليل الحاكم في هذا المفاد الشرحي إعماله في تعيين محلّ هذا الشرح و أنّه بأيّ شي ء تعلّق فإنّ «أعني» مثلا إنّما يفسّر ما وقع متعلّقا له، و في هذا المقام تصل النوبة إلى ملاحظة التعارض، مثلا ربّما أمكن أن يقال: إنّ أدلّة العبادات و إن كان ليس لها وجه تقديم على دليل لا ضرر و لا حرج في موارد ضرريّة العبادة، بل مفاد لا ضرر في أصل شارحيّته مقدّم عليها فلا يحمل لأجلها على معنى النهي عن إيجاد الضرر حتّى لا ينافيها على خلاف ظهوره و إن فرض أنّ ظهور تلك الأدلّة كان أقوى، و لكن بالنسبة إلى عموم متعلّقه، أعني:

الضرر للضرر الجزئي، يمكن أن يقال ظهور تلك الأدلة أقوى، فينصرف بأظهريّتها شارحيّة «لا» إلى موارد الضرر

العظيم.

و هذا منه- قدّس سرّه- نظير تقديم ظهور العام في بعض الموارد بالنسبة إلى بعض الخصوصيّات على الخاص، كما لو ورد: أكرم العلماء، ثمّ: لا تكرم الفسّاق من العلماء، و تردّد مفهوم الفاسق بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعمّ منه و من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 53

مرتكب الصغيرة و كان الاحتمال الثاني أظهر منه في حدّ ذاته، و لكن ظهور العلماء في القضيّة الأولى لمرتكبي الصغائر كان أقوى، فإنّ القول هنا بترجيح أقوائيّة العام في الظهور لا ينافي مع دعوى أنّ الخاص المطلق مقدّم على العام كذلك، فكذلك في المقام لا تنافي بين الدعويين.

ألا ترى أنّه لو قال: أكرم العلماء و لا تكرم الجهّال، أعني: غير زيد، فلا شبهة أنّه لو تردّد أمر كلمة «أعني» بين ظاهره من التفسير و معنى آخر نأخذ بظاهره، و لو كان ظهور الجملتين أقوى منه في شمول زيد، و لكن لا بعد الأخذ بمفاده الظاهر لو حصل لنا ترديد في مفاد زيد لكونه مشتركا بين عالم و جاهل و كان منصرفا إلى العالم مثلا، و فرضنا أنّ ظهور العلماء في القضيّة الأولى في شموله زيد العالم أقوى من هذا الانصراف نرى بالوجدان أنّ رفع اليد عن انصراف زيد و تعيين محلّ شارحيّة «أعني» و صرفها إلى زيد الجاهل، ليس فيه الخروج عن قانون الجمع العرفي كما كان لو أعملنا ذلك بالنسبة إلى مفاد «أعني»، هذا.

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- بعد الحكم بتقديم العمومات للأظهرية و حمل السبيل على معنى لا يشمل الملكيّة بأن يراد من السبيل السلطنة فيحكم بتحقّق الملك و عدم تحقّق السلطنة، بل يكون محجورا عليه مجبورا على بيعه- قال:

و هذا و إن اقتضى التقييد في

إطلاق ما دلّ على استقلال الناس في أموالهم و عدم حجرهم بها، لكنّه مع ملاحظة وقوع مثله كثيرا في موارد الحجر على المالك أهون من ارتكاب التخصيص في الآية المسوقة لبيان أنّ الجعل شي ء لم يكن و لن يكون، و أنّ نفي الجعل ناش عن احترام المؤمن الذي لا يقيّد بحال دون حال، هذا انتهى.

قال شيخنا الأستاذ- دام بقاه-: ملاحظة الترجيح بين الآية و دليل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 54

الاستقلال ليست على حالهما بالنسبة إلى عمومات صحّة البيع، بل لا بدّ من تقديم الآية من دون حاجة إلى التعليل بالأهونيّة من العكس، و ذلك لأنّ هذا فرع المعارضة، و لا معارضة بين الآية و ذلك الدليل، لأنّ أمر هذا الدليل لا يخرج عن حالين، إمّا يكون مشرعا و إمّا لا يكون.

فإن كان الثاني- كما هو مذاقه قدّس سرّه-: فالأمر واضح، إذ حال حجر الكافر بالنسبة إلى جميع التصرّفات حينئذ بعينه حال المولى المسلم قبل البيع بالنسبة إلى خصوص بعض التصرّفات، كالتقبيل و الوطي و نحوهما، فكما لا منافاة بينهما هناك لكون قضيّة الناس حيثيّة فكذلك هنا بلا فرق.

و إن كان الأوّل: فهذا الدليل مقطوع التصرّف إمّا بالتخصيص أو التقييد، لأنّه إن كان البيع غير صحيح فهذا خروج هذه السلطنة عن إطلاق مسلطون، و إن كان صحيحا و كان الكافر محجورا كان تخصيصا في الناس، فهو مرفوع اليد عن ظاهره على كلّ حال و ليس له مع ذلك قابليّة المعارضة.

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- ذكر أنّ على فرض تكافؤ أدلّة البيع مع الآية فمقتضى الأصل هو الصحّة لا الفساد، لأنّ استصحاب الصحّة في بعض المقامات يقتضي الصحّة كما إذا كان الكافر مسبوقا بالإسلام بناء على

شمول الحكم لمن كفر عن الإسلام، أو كان العبد مسبوقا بالكفر فيثبت في غيره بعدم الفصل،

قال- قدّس سرّه-: و لا يعارضه أصالة الفساد في غير هذه الموارد؛ لأنّ استصحاب الصحّة مقدّم عليها فتأمّل انتهى.

قال شيخنا الأستاذ- دام بقاه-: كلامه- قدّس سرّه- مبني على دعوى الملازمة بين الصحّة في الموردين حتّى في الظاهر، فلا يرد عليه أنّ إثبات أحد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 55

المتلازمين بالأصل مبنيّ على الأصل المثبت الذي هو على خلاف مبناه؛ و ذلك لكون التلازم في الأعمّ من الظاهر و الواقع، و لكن قد يستشكل عليه- قدّس سرّه- بأنّه ما وجه حكمه بتقديم استصحاب الصحّة مع عدم تسبّب بينهما، فإنّ الفساد و الصحّة عدلان ليس الشك في أحدهما مسبّبا عن الآخر؟

و يجاب بأنّه ليس المراد بأصالة الفساد استصحاب الفساد الذي هو حالة عدمية في العقد عدلا للصحّة، و هو: عدم المؤثريّة و البطلان؛ لأنّ هذا المعنى لم يكن في السابق معلوما، إذ ليس لنا زمان نقول: كان بيع العبد المسلم الغير المسبوق بالكفر من الكافر الغير المسبوق بالإسلام، بحيث لو وجد كان باطلا غير مؤثّر حتى نستصحبه.

فإن قلت: الإمضاء أمر حادث مسبوق بالعدم الأزلي فنقول: نشك من أوّل بدو التشريع أنّه هل شرّع الإمضاء في هذا الصنف من البيع أو لا؟ فنستصحب عدمه الأزلي، و ليس بعد هذا تطبيق الحكم المعلّق على هذا العنوان الكلّي على مصداقه الخارجي من باب الأصل المثبت، لما قرّر في محلّه من أنّ هذا أيضا خارج عن الأصول المثبتة؛ لأنّ إسراء الحكم المعلّق على العناوين الكلّية إلى مصاديقها من لوازم نفس الحكم الأعمّ من الظاهري و الواقعي.

قلت: قد يكون الأثر لوجود شي ء بنحو مفاد كان التامّة،

فاستصحاب العدم الأزلي لذلك الشي ء حينئذ مفيد لإثبات نقيض ذلك الأثر، مثلا ربّما يقال:

إنّ وجود المخالفة للكتاب و السنّة مانع عن نفوذ الشرط لا الوجود الربطي، و حينئذ فمتى شككنا في أنّ اشتراط كذا في العقد هل هو مناف لآية كذا؟ أو سنّة كذا فلنا أن نقول: المخالفة أمر حادث معدوم في الأزل فلنا استصحاب هذا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 56

العدم الأزلي، فالشرط وجداني و عدم المخالفة تعبّدي.

و قد يكون الأثر لوجود شي ء أو عدمه مرتبطا بموضوع آخر كما لو اعتبر المانعيّة لكون شرط مفروغ الوجود مخالفا فاستصحاب العدم الأزلي إلى زمان وجود الشرط ليثبت به أنّ هذا الموجود متّصف بهذا العدمي مثبت على ما هو التحقيق من تخالف حقيقة السلب بانتفاء الموضوع مع السلب بانتفاء المحمول، هذا في الأصول الموضوعيّة.

و أمّا الأحكام فلا شبهة أنّ جعلها يحتاج إلى جعل قضيّة بأن يلاحظ العنوان الكلّي باعتبار وجوداته و مصاديقه الخارجيّة ثمّ يحمل عليه حكم وجوديّ أو عدميّ، و حينئذ فالعدم الأزلي بعدم القضيّة رأسا لا يجدي شيئا، فلو شككنا أنّ شرب التتن منع عنه الشارع أو لم يمنع عنه فلا يمكن أن يقال: التتن في الأزل كان بحيث لو وجد لم يمنع عن شربه الشارع، و الآن كما كان، لأنّ المعلوم في الأزل ليس تركيب قضيّة جعل فيها عدم المنع على موضوع التتن، بل هو العدم الرأسي و اللاشيئيّة الصرفة، فجرّ هذا ثمّ إثبات أنّ هذا التتن الخارجي غير ممنوع عن شربه مبنيّ على الأصل المثبت.

نعم لو علم عدم المنع سابقا بنحو اعتبار القضيّة ثمّ شككنا لاحتمال النسخ فاستصحاب هذا العدمي إلى حال وجود الموضوع، ثمّ إثبات أنّ هذا الموضوع غير ممنوع ليس

من الأصل المثبت، لما ذكر من أنّ تطبيق الحكم الكلّي على صغريات موضوعه من لوازم الأعمّ من الظاهر و الواقع.

و لعلّ ما ذكرنا مراد شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في مبحث البراءة من الأصول حيث منع عن التمسّك للبراءة في الشبهات الحكمية باستصحاب عدم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 57

المنع الشرعي و إن كانت عبارته قاصرة عن إفادة هذا المعنى و لهذا وقعت موردا للإيراد في كلمات المحشّين لكلامه، و من هنا يظهر الجواب عن توهّم آخر في المقام و هو أنّ الشكّ في الصحّة و الفساد مسبّب عن الشكّ في أنّ الجعل الذي نعلم بصدوره من الشرع على عنوان البيع هل جعل فيه شرطيّة إسلام المنتقل إليه في ما كان المبيع عبدا مسلما أو لم يجعل، و لا شبهة أنّ جعل الشرطيّة على تقدير ثبوته حادث مسبوق بالعدم الأزلي فباستصحاب عدمه يثبت إطلاق الجعل المعلوم؟

فإنّ الجواب أنّ جرّ هذا الأمر العدمي إلى زمان انقداح القضيّة الإنشائية في ذهن النبيّ أو الوصي- صلّى اللّٰه عليهما و آلهما- ثمّ إثبات الحالة العدميّة و الحدّ العدمي المعبّر عنه بالإطلاق للطبيعة الملحوظة في ذلك الذهن الشريف مثبت، و لهذا صار الأصل المقرّر عندهم في جميع موارد الشكّ في الشرطيّة أو الشطرية في عامّة أبواب ذوات الأسباب عند عدم إطلاق في البين هو الفساد و لا يتشبثون بذيل مثل هذا الاستصحاب مع جريانه في جميع تلك المقامات.

و حينئذ نقول في مقامنا: إنّ مراد شيخنا بأصالة الفساد هو أصالة عدم الانتقال و هو في رتبة المسبّب بالنسبة إلى استصحاب الصحّة إذ بهذا الاستصحاب نثبت صحّة البيع في تلك الموارد بواسطة الملازمة الظاهرية بين الصحّتين، و إذا ارتفع الشكّ عن السبب

و هو الصحّة في تلك الموارد ارتفع عن المسبّب و هو الانتقال.

و على هذا يتمّ كلام شيخنا و لا يتوجّه عليه الإيراد و يكون أمره بالتأمّل للإشارة إلى أنّ هذه الملازمة لو كانت فبالنسبة إلى الواقع و تعميمها إلى الظاهر كما في الماء المتمّم و المتمّم دون إثباته خرط القتاد، و مع الشكّ فيه لا يصحّ إثبات أحد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 58

المتلازمين بالأصل الآخر.

ثمّ بعد البناء على التمسّك بالآية- كما يظهر من شيخنا المرتضى لأجل استشهاد التمسّك بها حتّى أسند في كنز العرفان إلى الفقهاء و في غيره إلى أصحابنا بل لما مرّ منّا من الوجه في تقريب التمسّك بها- الظاهر عدم الفرق بين البيع و سائر أنواع التمليكات كالهبة و الوصيّة.

فإن قلت: على ما ذكرت لا مانع من الصلح المقصود به إعطاء تلك العلاقة الضعيفة التي منشأها مجرّد استحقاق الثمن فإنّه غير مختص بالأموال، بل يجري في الحقوق أيضا.

قلت: ليست المبادلة أوّلا بين الإضافيين بل بين المضافين باعتبار الإضافة، و معنى ذلك أن يصير العين عند انتقالها واجدة لمثل تلك الإضافة التي كانت لها عند صاحبها، و أمّا تمليك المنافع فمجمل الكلام فيها أنّه بين ما لا يصدق عليه السبيل أصلا و ما يصدق عليه السبيل لكن بتبع حرمة مال الكافر الذمّي، كالسبيل الذي يحصل له على مطالبة المديون المسلم الآتي من قبل حرمة ماله، و يكون نفي هذا السبيل مساوقا لنفي احترام ماله، و الآية الشريفة منصرفة عن مثله، و ما يصدق عليه السبيل بدون انصراف في البين فيشمله النفي في الآية.

فمن الأخير إعارة العبد المسلم للكافر لأنّها تسليط على الانتفاع فيكون سبيلا و علوّا، و إجارة المسلم عبدا كان

أم حرّا للكافر لكن مع وقوع الإجارة على الشخص بأن يكون الكافر مسلّطا و ذا يد على الاستنفاعات و الاستخدامات منه بما يشاء و هو ما يسمّى بالفارسيّة ب (نوكرى) و لا فرق بين وقوعه على مطلق الاستنفاعات أو على استنفاع خاص كالكتابة أو البريديّة و نحوهما بحيث يسمّى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 59

بالاسم المذكور و واقعا على الشخص، و الفرق بينه و بين الإجارة على الذمّة أنّ الكافر في القسم الأوّل ذو يد على الشخص و متولي بنفسه لاستيفاء المنفعة من جوارح الأجير، فتسلّطه أوّلا على الشخص.

وفي القسم الثاني إنّما يكون ذا مال كالخياطة و نحوها في ذمّة الشخص فتسلّطه أوّلا على ماله و بتبع هذا يكون له تسلّط على الشخص بمطالبة ماله و إخراجه عن ذمّته فيكون حاله كالدائن المطالب من المديون بل هو هو، فيكون هذا من القسم الوسط الذي قلنا إنّه و إن كان يصدق السبيل لكنّ الآية لا تنفي مثله.

و من القسم الأوّل: الارتهان عند الكافر و الإيداع و مجرّد التسليط على الحفظ و جعل نظره إليه فيهما، و التسليط على منع المالك عن التصرّف فيه إلّا بإذنه، و تسلّطه على إلزام المالك ببيعه في الأوّل لا يوجب صدق السبيل عرفا، هكذا قاله شيخنا الأستاذ- دام بقاه-، و صرّح في التذكرة على ما حكاه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بالجواز في كليهما.

ثمّ إنّه ذكر شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- أنّ الظاهر من الكافر كلّ من حكم بنجاسته و لو انتحل الإسلام كالنواصب و الغلاة و المرتد، غاية الأمر عدم وجود هذه الأفراد في زمان نزول الآية،

و قال شيخنا الأستاذ- دام بقاه-: لا شبهة في كبرى ما ذكره- قدّس سرّه- من

أنّه متى ما رأينا الشارع علّق حكما على عنوان كلّي و علمنا أنّه ما لاحظ إلّا صدق هذا العنوان فلو فرض أنّ المتعارف في زمانه من أفراد هذا العنوان مغاير مع المتعارف في زماننا، فلا شبهة في إسراء الحكم إلى تلك الأفراد.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 60

نعم لو شككنا أنّه لاحظه بماله من الأفراد المتعارفة له في ذلك الزمان المفروض انقراضها في هذه الأزمنة بحيث احتملنا مدخليّة ذلك الصنف الخاص لا أنّه جعل العام غيره للأشخاص الخارجية كما في القضيّة الخارجيّة كما ربّما يقال في السجود على القرطاس، فحينئذ لا يمكن التمسّك بعموم الدليل في أفراد زماننا، لكن من المعلوم أنّ الكافر في الآية ليس من هذا القبيل، فإنّه بمناسبة الحكم و الموضوع يعلم أنّ هذا الحكم ثابت لجنس الكافر.

لكن الكلام في أنّ حقيقة الكافر هل هو معنى يندرج تحته النواصب و الخوارج أو لا؟ و إنّما الثابت فيهما الإلحاق الحكمي المقتصر فيه على مقدار دليله و أنّ التنزيل و الإلحاق فيه هل يشمل الأثر المبحوث عنه أو لا؟

قال- دام ظلّه-: الظاهر أنّه لا يمكن دعوى الأوّل، أعني: التوسعة في حقيقته، إذ الظاهر أنّه مقابل المسلم، و الظاهر أنّ الإسلام بحسب ما يستفاد من الأدلّة سواء الظاهري منه أم الظاهري و الباطني عبارة عن الإقرار بالشهادتين و هو الذي كان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم يدعو الناس إليه و يكتفي في صدق المسلم بمجرّدهما، ألا ترى أنّ الأمير- سلام اللّٰه عليه- في محاربة الخوارج و صفّين ما عاملهم معاملة الكفّار في أخذ الأسير و الغنيمة حتّى اعترض عليه بعض أصحابه في غزوة الجمل، فقال- عليه السلام-: من يرضى بأن يأخذ عائشة

أسيرا؟ و كذلك من أخبث هذه الطائفة الخبيثة و ألعنهم عبد اللّٰه و مصعب ابنا الزبير و مع ذلك كانت مولاتنا سكينة زوجة مصعب.

و حينئذ المنصرف من إطلاق الكافر هو ما يقابل الإسلام بهذا المعنى و إن كان له مراتب، و بهذا الاعتبار أطلق على المخالف، أو نقول: إنّ الإطلاق في هذه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 61

الموارد من باب التنزيل و الإلحاق الحكمي، كما أنّ المؤمن في الآية أيضا هو بمعنى الإسلام أو هو معناه في زمان نزول الآية كما في يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* و نحوه، فالمراد هو الإيمان بالشهادتين، و من هنا يعلم الخدشة في شمول الكافر لطفله.

[موارد جواز تملك الكافر للعبد المسلم اختيارا]

[مسألة]

ثمّ إنّه قد استثني من عدم جواز تملّك الكافر للعبد المسلم مواضع.

منها: ما إذا كان الشراء مستعقبا للانعتاق بأن يكون ممّن ينعتق على الكافر قهرا واقعا كالأقارب، أو ظاهرا كمن أقرّ بحرّية مسلم ثمّ اشتراه، أو بأن يقول الكافر للمسلم: أعتق عبدك عنّي، و الوجه في الأوّل و الأخير واضح، لأنّ الملكية آنا ما مقدّمة للانعتاق لا يعدّ سبيلا.

و أمّا الوسط فاستشكل فيه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بالعلم بفساد البيع على تقديري الصدق و الكذب، لثبوت الخلل إمّا في المبيع لكونه حرّا، أو في المشتري لكونه كافرا، فلا يتصوّر صورة صحيحة لشراء من أقرّ بانعتاقه،

قال- قدّس سرّه- إلّا أن يمنع اعتبار مثل هذا العلم الإجمالي فتأمّل.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته-: قد تكون الملكيّة الواقعيّة- و لو انفكّت عن الظاهرية- سبيلا منفيّا بالآية، و حينئذ يتولّد للثالث الذي هو الحاكم الشرعي في المثال العلم التفصيلي بالبطلان بل للبائع أيضا، فحاله حال اقتداء أحد واجدي المني في الثوب المشترك بالآخر لو قلنا شرط صحّة

صلاة المأموم عدم جنابة الإمام واقعا، فإنّه يتولّد العلم التفصيلي بالبطلان، غاية الأمر عدم معلوميّة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 62

المبطل تفصيلا لتردّده بين جنابة نفسه و جنابة إمامه، و حينئذ لا محيص عن البطلان في ما نحن فيه كالمثال، و قد يكون الأصل الظاهري النافي لملكيّة الكافر ظاهرا موجبا لانتفاء السبيل واقعا، فيكون الشرط الواقعي لصحّة البيع واقعا عدم الحكم ظاهرا بملكيّة الكافر، و لو حكم بملكيّته واقعا.

فحينئذ لا يحصل العلم التفصيلي بالبطلان كما أنّه في المثال لو قلنا بأنّ شرط صحّة صلاة المأموم واقعا الحكم الظاهري لعدم جنابة الإمام الجاري في حقّ نفسه لا يعلم حينئذ بطلان صلاة المأموم، لأنّ جنابة نفسه محتملة منفية بالأصل و جنابة الإمام واقعا غير مضرّة و في الظاهر مقطوع العدم.

و حينئذ نقول في مقامنا: إنّ البائع قاطع بالرقيّة لكنّه يعلم أنّ ملكيّة الكافر مسلوبة في الظاهر و إن كانت ثابتة و متحقّقة في نفس الأمر بواسطة الشراء ما لم يتحقّق مزيلها بحيث لو انكشف بعد ذلك للحاكم خطأ إقرار الكافر لكان يحكم بملكيّة الكافر و يرتّب عليه أثرها و هو كونه يباع عليه، و لكن مجرّد الملكيّة النفس الأمريّة غير مناف مع نفي السبيل لحصوله بالسلب الظاهري للملكيّة.

و بالجملة فالبايع قاطع بعدم الخلل في البيع لا من جهة حريّة المبيع، لكونه قاطعاً بالرقيّة و لا من جهة كفر المشتري لكون ملكيّته غير منافية مع انتفاء السبيل، و أمّا الحاكم فهو مكلّف بالتفكيك، فكلّ أثر يعدّ ضررا على المقرّ يرتّبه على الإقرار، لأنّه يحتمل الحرية و كون الإقرار صادقا، و المفروض أنّ حجيّة الإقرار ليست في جميع الآثار، بل في خصوص ما يرجع إلى ضرر المقرّ، فإقرار

الكافر كما أنّ له حكاية عن عدم ملكيّة نفسه بالشراء كذلك له حكاية عن عدم ملكيّة المسلم له و عدم استحقاقه الثمن بالبيع، و لو أخذه يرتجع منه، و لكن دليل حجيّة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 63

الإقرار إنّما يشمل المحكيّ الأوّل فقط، لأنّ ما نفى إمّا غير مرتبط بالمقرّ و إمّا نفع له، و المرتبط المضرّ منحصر في الأوّل، فالحاكم بواسطة هذا الطريق الحجّة الشرعية الغير المعلوم خلافها يحكم بعدم ملكيّة الكافر فينتزع المبيع من يده.

ثمّ هنا أمارة أخرى دالّة على ملكيّة المسلم و كون من في يده رقّا و كونه مستحقا لثمنه و عدم جواز الارتجاع عنه، و كذا كون المشتري مالكا و هي ثبوت يده على العبد بعنوان المالكيّة، و قد فرضنا عدم جواز الأخذ بهذه الإمارة في الأثر الأخير لتقدّم حجّية الإقرار بالنسبة إليه فلا مانع من الأخذ في بقية الآثار فيجبر الكافر بدفع الثمن إلى المسلم البائع.

نعم الحاكم يعلم إجمالا بمخالفة أحد الحكمين للواقع، أمّا حكمه بعدم ملكيّة الكافر للعبد الذي أقرّ بحريّته و إمّا حكمه باستحقاق البائع للثمن، و لكنّ التفكيك في مرحلة التعبّد بالآثار بين المتلازمين في الواقع لا غرو فيه.

ألا ترى أنّه لو أقرّ أحد الاثنين الذين في يدهما المال بكون تمام المال لثالث فالحاكم ينتزع النصف من يد المقرّ و يسلّمه للمقرّ له و يقرّ النصف الآخر في يد صاحب المقرّ مع أنّه يعلم إجمالا أنّ أحد الأمرين على خلاف الواقع، إمّا تسليمه النصف للمقرّ له و إمّا إبقاؤه النصف في يد صاحب المقرّ، لكونه قاطعاً بأنّ تمام المال إمّا للثالث و إمّا لصاحبي اليد بالاشتراك.

و منها: ما لو اشترط البائع عتقه، فإنّ الجواز محكيّ

عن الدروس و الروضة و هو حسن في شرط النتيجة كما نبّه عليه بعض الأساطين- قدّس سرّه- في حاشيته على المقام، لأنّ حاله حينئذ هو الحال في من ينعتق عليه و في ما قال الكافر للمسلم: أعتق عبدك، حيث قلنا إنّ الملكيّة الثابتة آنا ما مقدمة للانعتاق لا يعدّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 64

سبيلا عرفا، و أمّا شرط الفعل فالتحقيق عدم الجواز، إذ لا فرق بين هذا و بين الحكم الشرعي الثابت مع عدم الاشتراط بكون العبد يباع على الكافر، فكما أنّ الثاني لم يوجب انتفاء السبيل و العلوّ فكذلك هذا الاشتراط أيضا لا يجدي شيئا، فإنّ السبيل و العلوّ حينئذ ثابتان غاية الأمر ثبوت الطريق إلى إزالتهما.

[حكم تملك الكافر للمسلم قهرا]

[مسألة]

ثمّ ما ذكرنا كلّه حكم تملّك الكافر المسلم اختيارا، أمّا التملّك القهري فيجوز إن كان بالإرث كما لو ورثه الكافر من كافر

مات قبل البيع عليه قهرا، أمّا أصل الرقيّة في مقابل الانعتاق بسبب الموت فلعدم احتمال كون ملكيّة الكافر الميّت للعبد المسلم في حال حياته متقوّمة بحياته نظير ملكيّة الموقوف عليهم للعين الموقوفة، و لهذا ليس عدم انتقالها بموت البطن الأوّل إلى ورثتهم تخصيصا في أدلّة الإرث لعدم صدق متروك الميّت الذي هو موضوع تلك الأدلّة على مثل هذا، لأنّه مرتفع بارتفاع الموضوع فلا يكون متروكا و ذلك للقطع بأنّ هذا العبد أيضا كسائر أموال الكافر، و حينئذ فأدلّة الإرث ناهضة بنفي احتمال الانعتاق و الحرية و أنّه إمّا ينتقل إلى الوارث الكافر و إمّا لا ينتقل فيصير كالمال بلا وارث فينتقل إلى الإمام- عليه السلام.

و حينئذ فلا حاجة إلى التشبّث في نفي الاحتمال المزبور بذيل استصحاب بقاء الرقيّة حتّى يستشكل عليه بأنّه مبنيّ على

القول باستصحاب الكلّي في القسم الثالث منه في الأصول، لأنّ هذا من أفراده لأنّ شخص الرقيّة المتقوّمة بالميّت مقطوع الزوال فيحتمل حدوث شخص آخر متقوّم بالوارث مقارنا لزوال الأوّل، فيستصحب جامع الرقيّتين، و إن كان التحقيق عدم ورود الإشكال، لأنّ ملكيّة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 65

الوارث بنظر العرف عين ملكيّة المورّث فحالها عندهم حال الخيمة القائمة بدعامة ثمّ تبدّلت الدعامة بدعامة أخرى حيث إنّ الخيمة بشخصها و بهيئتها الخاصّة القياميّة باقية من غير تبدّل و تغير هذا.

و أمّا أنّه رقّ لمن؟ فالتحقيق أنّه إن قلنا بأنّ آية نفي السبيل حاكم على الأدلّة الواقعية التي منها أدلّة الإرث فيتقدّم عليها و يحكم بعدم الانتقال إلى الكافر فيصير المال منتقلا إلى الطبقة المتأخرة لو كان فيها مسلم و إلّا فإلى الإمام، و إن قلنا إنّها معارضة مع تلك الأدلّة فيصير العبد مردّدا بين الأمرين، هذا بحسب مشي الشيخ الأجل- قدّس سرّه.

و أمّا على ما تقدّم من عدم استبعاد إرادة القوم الفرق بين الاستدامة و الابتداء في البيع بالتخصّص في الأوّل و التخصيص في الثاني، و حيث إنّ الآية آبية عن التخصيص فلا بدّ من تقديمها ببيان أنّ العلاقة الضعيفة الباقية من كسر الملكيّة التامّة و نقص حد تمامها لا يصحّح البيعيّة و يحتاج إلى تعبّد خاص و هي لا تعدّ سبيلا عرفا بعد سلب جميع التسلّطات.

فنقول: لا مانع من الحكم بالانتقال إلى الوارث حتّى على التعارض، و ذلك لأنّ العلاقة الضعيفة كما كانت في يد المورّث غير منافية مع انتفاء السبيل فكذلك انتقالها بالإرث إلى وارثه.

و على هذا فيتّضح الحال في سائر التملّكات القهريّة غير الإرث سواء كان بسبب اختياري كالالتقاط أم غير اختياري كما

لو حلف مسلم أنّه لو فعل كذا صار عبده ملكا للكافر، فإنّ كلّما كان الانتقال في هذه العلاقة الضعيفة لا مانع منه، و كلّما كان في الملكيّة و العلاقة القويّة كان باطلا حتّى بالنسبة إلى الضعيفة، أمّا الأوّل لمنافاته لنفي السبيل، و أمّا الثاني فلعدم وقوعه موردا للانتقال بالفرض.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 66

و على هذا يسقط البحث في شمول أدلّة الخيارات لما إذا تولّى الكافر بيع عبده المسلم من خيار المجلس و الحيوان و الشرط، وجه السقوط أنّه بعد أن كان الحكم بسلب هذه العلاقة الضعيفة من الكافر و إحداث المرتبة القويّة للمسلم المشتري، و كذا إحداث الملكيّة للكافر في الثمن عقيب قول الكافر: «بعت» و قول المسلم: «اشتريت» حكما تعبّديا غير مرتبط بإمضاء ما أنشأه المتعاقدان، لأنّ عقدهما وقع على الملكيّة التامّة و بلحاظه و هو ما وقع تحت الإمضاء، و المفروض عدم إنشاء آخر بلحاظ العلاقة الضعيفة، و عدم انحلال الإنشاء الأوّل أيضا إلى إنشاءات بعدد المراتب التحليلية لا معنى لفسخ هذا الحكم التعبّدي، لأنّ مجرى الفسخ ما كان حدوثه بفعل المتعاقدين و هو المضمون العقدي إذ الفسخ عكس العقد و المفروض عدم موضوع له في المقام، هذا في ما كان دليله غير قاعدة الضرر.

و أمّا ما كان كذلك فالأمر فيه أوضح، إذ هو في محلّه أيضا قد ناقشنا في دلالته على جعل الخيار لارتفاع الضرر بثبوت الأرش فإتمامه في محلّه بغير الإجماع مشكل، نعم يجري هذا البحث على مبني شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- حيث يرى التنافي بين هذه الملكيّة المعرّاة عن الآثار مع انتفاء السبيل، و لهذا يقول بالتخصيص في طرف الاستدامة.

فقد يقال على هذا المبنى: أمّا ما كان مدركه

غير القاعدة فهو ليس بأقوى من دليل إحداث الملكيّة من عمومات صحّة البيع، فكما خصّصت تلك الأدلّة فكذلك أدلّة الخيار في هذا المقام، و لا وجه لابتناء الكلام على أنّ العائد كان لم يزل أو أنّ الزائل كان لم يعد، فعلى الأوّل الثابت عين الملكيّة السابقة و قد فرضنا مخصّصية الآية بالنسبة إليها، و على الثاني ملك جديد منفي بالآية، وجه عدم الابتناء أنّا و إن قلنا بأنّ العائد كان لم يزل فالعائد عين ما كان وجودا عند العرف

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 67

لأنّ إعادة المعدوم بنظرهم غير محال لكن لا أقلّ من اختلاف الحال و القدر المتيقّن من تخصيص الآية بالإجماع غير ما إذا طرأ هذه الحال.

و أمّا ما كان مدركه القاعدة فالكلام مبنيّ على أنّ بين دليل نفي السبيل و دليل نفي الضرر تعارضا أو تزاحما و لا يبعد الثاني، لأنّ إطلاق المادة في كلّ من الدليلين المستفاد من مناسبة الحكم و الموضوع يقتضي أنّ انتفاء السبيل للكافر على المؤمن مطلقا مطلوب للشارع بدون تقييد و كذلك انتفاء الحكم الضرري مطلقا محبوبة من غير تقييد بمقام دون آخر، فعند عدم إمكان الجمع كمقامنا، أعني: ما إذا باع الكافر عبده المسلم بأدون من قيمته أو اشتراه المسلم بأعلى من قيمته، لا بدّ من رفع اليد عن واحد من الغرضين.

ألا ترى أنّهم يعاملون معاملة التزاحم مع دليل الصلاة و حرمة الغصب و ليس إلّا لاستفادة ذلك من إطلاق مادة الدليلين بمناسبة في ما بين الحكمين و موضوعيهما، نعم على هذا لا بدّ أن يكون المثال المتداول في الألسنة لأجل التعارض مع كون النسبة عموما من وجه من قول: أكرم العلماء، و قول: لا

تكرم الفسّاق، أيضا من باب التزاحم و الأمر سهل، هذا ما قد يقال.

و لكن يمكن أن يقال على المبنى المذكور بالفرق بين دليل صحّة البيع فالآية مقدّمة عليه و دليل الفسخ سواء كان دليلا خاصّا أم عموم قاعدة لا ضرر فيجب العمل بدليل الخيار، من حيث إنّ دليل صحّة البيع ليس له اقتضاء انتقال نفس العين، و لو لم يمكن فبدلها بل له اقتضاء العين الخاصّة، و قد فرضنا أنّ الآية مانعة عنها فلا جرم صار دليل البيع ساقطا.

و أمّا دليل الفسخ فله اقتضاء البدل عند عدم إمكان ردّ العين بنفسها لتلف حقيقي أو شرعي، كنقل أحد المتبايعين في زمن الخيار ما انتقل إليه بعقد لازم أو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 68

جعله لو كان ما انتقل إليه عبدا حرّا و حينئذ فالجمع بين الآية و مقتضى دليل الفسخ ممكن بأن نقول بعد فسخ الكافر أو مشتريه أنّ الثمن ينتزع من يد الكافر و يرد إلى المشتري المسلم، و أمّا العبد فالآية تمنع حصول السبيل للكافر عليه فيكون كما لو أعتقه المنتقل إليه و كان الطرفان مسلمين، فكما أنّ دليل نفوذ الإعتاق هناك مانع شرعي عن ردّ نفس العبد إلى المالك الأصلي، فهنا دليل نفي السبيل مانع شرعي عن ذلك فينتقل إلى البدل فيكون العبد في يد المسلم و يدفع قيمته الواقعيّة و يأخذ الثمن المسمّى.

و الحلّ في الكلّ أنّ الفسخ تصرّف في العقد و جعله كأن لم يكن من حين الفسخ و بعد ما صار كأن لم يكن، و الفرض أنّ العين غير موجود أو غير ممكن الردّ فامّا يقال انّ الشارع ينزّل القيمة الواقعيّة منزلته في كونه بإزاء الثمن، فيقتضي حلّ العقد

التراد في ما بين الثمن و تلك القيمة.

أو يقال: إنّ التراد يعتبر فيما بين نفس العين المتلبسة بالتلف و بين الثمن و لا يقتضي هذا حصول السبيل للكافر بل اعتبار كونه تالفا عليه، لم يجي ء إلّا من قبل حفظ عدم السبيل له عليه فكيف يكون منافيا له و العين التالفة لها اعتبار الماليّة إذا كانت مضمونة، فإنّها إلى الحال كانت مضمونة بالعوض المسمّى، فإذا انسلبت العوضيّة عنه بالفسخ، و المفروض أنّ المالك لم يقدم على تلف ماله عليه مجّانا، فلو لم يكن مضمونا بعوضه الحقيقي كان هذا خلاف احترام ماله.

أو يقال: إنّ التراد يعتبر في ما بين الثمن و نفس العين لا مع تلبّسها بالتلف فيكون التلف واردا على ملك الغير، و تصويره في التلف الحقيقي واضح.

و أمّا في المقام فبأن يقال: إنّ العقد من حين الفسخ صار كأن لم يقع، و حيث إنّ ما وقع أيضا لم يبطل بل هو ثابت في موطنه فمن هذه الجهة قد ورد تلف على

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 69

مال الكافر في يد المسلم و حكم التلف هو الضمان بالعوض الواقعي و ليس هذا أيضا منافيا لانتفاء السبيل، فإنّ العبد و إن كان يحكم بكونه ملكا للكافر لكنّه مع الحكم عليه بأنّه تالف عليه لا يعدّ بمجرّده سبيلا عرفا.

و حاصل ما ذكر: أنّ الفسخ عبارة عن ترادّ العينين كما كان البيع عبارة عن مبادلتهما و إلّا كان اللازم عدم الموضوع له عند عدم وجود أحدهما أو كليهما، بل هو عبارة عن حلّ العقد من حينه فلا بدّ من ترتيب آثار عدم العقد من هذا الحين لا بمعنى نقض التصرّفات و الآثار المتقدّمة كالكشف الحكمي- و إلّا لزم

وجوب دفع النماء الحاصل بين العقد و الفسخ أيضا- بل بمعنى المعاملة مع كلّ من العوضين من هذا الحين مع حفظ التأثيرات و التصرّفات الماضية فيهما معاملة المال الذي لم يقع عليه عقد من رأس، و لازم ذلك وجوب ردّ نفس المال مع الإمكان و ردّ بدله مع عدمه بأحد الوجوه الثلاثة المتقدّمة من غير فرق بين عدم إمكان الردّ لكونه ملكا للغير بالنقل اللازم أو لصيرورته حرّا و بين عدم إمكان ذلك لسقوطه عن قابليّة الرد كما في ما نحن فيه.

[حرمة نقل المصحف إلى الكافر]

مسألة المشهور عدم جواز نقل المصحف إلى الكافر،

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاضاته الشريفة-: إمّا نقل النقوش القرآنية فغير جائز حتّى بالنسبة إلى المسلم، فالمراد هنا أنّ ما يقبل النقل إلى المسلم و هو الجلد و الغلاف فغير جائز نقله إلى الكافر، و لعلّ السرّ أنّ تسلّط الكافر على الجلد أيضا وهن للقرآن و هذا ممّا لا شبهة فيه فيدخل تحت قوله في رواية تحف العقول: «أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم بيعه و شراءه و إمساكه و ملكه و هبته و عاريته و جميع التقلّب فيه» بناء على أنّ الحرمة في الرواية بمعنى الفساد.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 70

«الكلام في شروط العوضين»

[الشرط الأول التمول]

يشترط كونهما متموّلين.

المال و الملك و الحق بينها تباين، فقد يصدق الأوّل دون الأخيرين كما في المباحات قبل الحيازة، و الثاني دون الآخرين كما في حبّة حنطة، و الأخير دون الأوّلين كما في أولويّة السبق في المكان، و حقّ التحجير و حقّ القسم، و المال أيضا عرفيّ و شرعي، و تعريفه بما يبذل بإزائه المال دوري، و الأولى الإحالة على وضوحه، فما كان مالا و ملكا عرفا و شرعا لا إشكال في قبوله للوقوع ثمنا و مثمنا في البيع إذا كان عينا لا منفعة لصدق البيع حينئذ لغة و عرفا و شرعا.

كما أنّه لو لم يكن مال عرفا، و لا حق، لا يقبل شيئا من المعاوضات فضلا عن البيع، و كذلك لو لم يكن مالا و لا حقّا عند الشرع، و ذلك لعدم صدق حقيقة المعاوضة أصلا فضلا عن البيع، فلا موقع للتمسّك بالأدلّة المعلّقة للحكم على البيع و سائر أنواع المعاوضات، غاية الأمر في الصورة الأولى لا معاوضة عند العرف و

في الثانية عند الشرع.

نعم لو كان مالا و منفعة يقبل المعاوضة الإجاري و الصلحي و الهبي دون البيعي، و ما كان غير مال و حقّا يقبل الصلح و الهبة و المعاوضة دون البيع، و ما كان مالا و عينا لا ملكا بمعنى عدم إضافته إلى الشخص لا يصحّ بيعه كما في المباحات قبل الحيازة و كذلك الأرض المفتوحة عنوة التي هي في ء المسلمين و ليس ملكا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 71

للعنوان كما في الوقف على المسلمين، و إلّا لزم تملّكهم منافعها عند إقباض المتولّي، بل هي مصروفة في مصالح المسلمين من دون أن يحصل لنا إضافة عينا أو منفعة إلى شخص من أشخاصهم.

و نظيره في أنظار أهل العرف الأموال التي يسمّونها أموال الدولة، فإنّه لا مساس لها بالشخص، بل ما دام يكون مثليّا يصرفه هو و يتولّى صرفه في مصالح الدولة دون شخصه لو لم تقتض مصلحة الدولة ذلك، فكذا هنا أيضا ليس لأحد أن يصرف عين تلك الأراضي أو منافعها في مصلحة نفسه من دون ملاحظة مصالح المسلمين، فتحصّل أنّه يعتبر في البيع أمور.

المالية عرفا و شرعا فلا يصحّ بيع الخنفساء و الخمر و حبّة حنطة، و لا بيع حقّ السبق و حقّ التحجير و حقّ المضاجعة.

و العينيّة، فلا يصحّ بيع سكنى الدار و خدمة العبد.

و الملكيّة بمعنى الإضافة إلى الشخص، فلا يصحّ بيع المباحات قبل الحيازة و لا بيع الأراضي المفتوحة عنوة.

أمّا مع عدم الماليّة أو العينيّة فلعدم صدق البيع عرفا أو شرعا، و أمّا مع عدم الملكيّة مع تحقّق الأوليين فلمساواة نسبة جميع الناس بالنسبة إلى ملك العين المتموّلة في ذاتها فلا تتحقّق المعاوضة، نعم قد يعتبر في القسم الأوّل،

أعني:

المباحات بملاحظة قدرة الناقل على حيازة العين و تحصيلها و تعهّده لذلك كما في الكلّي في الذمّة، فلو تعهّد غوّاص مثلا بإخراج السمك الفلاني الشخصي و أوقع البيع على هذا الشخص الخارجي كان عند العرف بيعا و لكنّ الشرع قد منع عنه في النهي عن بيع ما ليس عندك، هذا كلّه مع العلم و عدم الشك في انطباق العناوين الثلاثة أو عدم انطباقها واضح.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 72

و لو شكّ فإمّا يشكّ في كونه عند العرف مالا أو لا، فلا مجال للتمسّك بالعمومات حينئذ، لا بعمومات صحّة البيع و لا بعموم عدم جواز الأكل بالباطل، لكونه بالنسبة إلى كليهما شبهة موضوعيّة فالمرجع حينئذ أصالة الفساد و عدم تحقّق المسبّب و إمّا يشكّ في كونه عند الشرع مالا بعد الفراغ عن ماليّته عند العرف فحينئذ يكون محلّ التمسّك بعمومات صحّة البيع و التجارة.

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-: ما تحقّق أنّه ليس بمال عرفا فلا إشكال و لا خلاف في عدم وقوعه أحد العوضين، إذ لا بيع إلّا في ملك، و ما لم يتحقّق فيه ذلك فإن كان أكل المال في مقابله أكلا بالباطل عرفا، فالظاهر فساد المعاملة، و ما لم يتحقّق فيه ذلك فإن ثبت دليل من نصّ أو إجماع على عدم جواز بيعه فهو و إلّا فلا يخفى وجوب الرجوع إلى عمومات صحّة البيع و التجارة، و خصوص قوله- عليه السلام- في المروي عن تحف العقول: «و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فكلّ ذلك حلال بيعه» انتهى موضوع الحاجة من كلامه- أعلى اللّٰه مقامه.

و ما ذكره- قدّس سرّه- بظاهره المتراءى منه غير تامّ، إذ فيه بعد الغضّ عمّا

في استدلاله في الشقّ الأوّل بقوله: «لا بيع إلّا في ملك» مع كون المدّعى اعتبار الماليّة، أنّ الشقّ الثاني له فردان: ما علم بماليّته عرفا، و ما شكّ في ماليّته كذلك.

فالفرد الأوّل و إن كان لو شكّ فيه من جهة الماليّة الشرعية يصحّ التمسّك فيه بعمومات البيع و التجارة لكن لا معنى لصيرورة أكل ما في قباله أكلا بالباطل عند العرف.

و الفرد الثاني يكون شبهة موضوعية بالنسبة إلى كلا الدليلين فلا يتمّ الترتيب المذكور في شي ء من الفردين، هذا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 73

[الشرط الثاني الملك]

[في أقسام الأراضي و أحكامها]

اشارة

[فصل] ثمّ حيث انجرّ الكلام إلى ذكر بعض أقسام الأرضين لا بأس بالإشارة إلى أقسامها، فنقول و باللّٰه المستعان: إنّ الأقسام أربعة لا خامس لها، لأنّها

كما ذكره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-: إمّا موات و إمّا عامرة، و كلّ منها إمّا تكون كذلك بالأصالة أو عرض لها ذلك.

[القسم الأوّل الموات بالأصالة]

فالقسم الأوّل، أعني: ما كان مواتا بالأصل من غير سبق بالعمارة لا من معمّر و لا من غيره، فهو القدر المتيقّن من قولهم- عليهم السلام-: «من أحيى أرضا مواتا فهي له» «1» فيحكم بمملوكيّته للمحيي سواء أ كان مسلما أم كافرا و هذا ممّا لا شبهة فيه.

[القسم الثاني العامرة بالأصالة]

و القسم الثاني، أعني: العامرة بالأصالة يعني لا بتعمير معمّر، فهو داخل تحت عموم قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو أحقّ به».

[القسم الثالث ما عرض له الحياة بعد الموت]

و القسم الثالث: و هو ما كان مواتا فعمّرة معمّر فعرض له الموت و الخراب ثانيا فهل يجوز لغير المحيي الأوّل إحياءه ثانيا أو لا؟ و على الأوّل هل تبقى على ملك المحيي الأوّل أو تصير ملكا للمحيي الثاني؟

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-:

فيه خلاف معروف في كتاب إحياء الموات منشؤه اختلاف الأخبار انتهى.

و لا بأس ببسط الكلام فيه على حسب القاعدة و ما هو مقتضى النظر في أخبار الباب.

فنقول: أمّا الكلام على حسب القاعدة فعموم قولهم- عليهم السلام-: من أحيى

______________________________

(1) الوسائل: ج 17، الباب 1، من أبواب إحياء الموات، ص 327، ح 5 و 6.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 74

إلخ، شموله للمحيي الثاني و كذلك عموم الأرض لهذه الأرض المبحوث عنها، فإنّ النكرة الواقعة في سياق الموصول تفيد العموم على ما قيل، و غاية ما يورد عليه أنّا نقطع بأنّ الأرض المتّصفة بمملوكية الغير لا تتملّك لشخص آخر بالإحياء، فلو فرض أنّ الإمام- عليه السلام- وهب أرضا مواتا لأحد فلا يجوز لغيره تملّكه بالإحياء، و لا فرق في هذه الجهة بين الملكيّة الحاصلة بغير سبب الإحياء كالمثال، و الحاصلة بسببه.

و حينئذ فالأرض المذكورة إن كانت باقية على ملك المحيي الأوّل بعد الخراب و لم تزل ملكيّته بمحض الموت، كان إحياء الثاني واقعا في ملك الغير، و المفروض الفراغ عن عدم مملكيّته حينئذ.

فالمقام من قبيل الشبهة المصداقيّة للعموم المزبور و بعد سقوطه نرجع إلى استصحاب ملكيّة المحيي الأوّل إلى ما بعد

الخراب و الموت، بل يمكن استفادة ملكيّته من إطلاق الاختصاص المستفاد من اللام في قوله: «فهي له»، فإنّه شامل لحالتي الحياة و الموت.

لكن ما ذكر غير وارد و ذلك لأنّ القطع المزبور ليس بمثابة القيد اللفظي و إنّما هو أمر لبّي نظير ما إذا قال الآمر: أكرم جيراني، و كنّا قاطعين بعدم حبّه لإكرام عدوّه، و من المقرّر في محلّه أنّ المخصّصات اللبّية يجوز التمسّك في مصاديقها المشكوكة بعموم العام، و تشخيص عدم كونها متلبّسة بعنوان المخصّص و فردا له، فلو شكّ في المثال في أنّ واحدا من جيرانه عدوّه أو لا، يرفع احتمال العداوة بظاهر العموم، و كذلك في مقامنا يرفع احتمال بقاء الأرض بعد الموت و الخراب على ملك المحيي الأوّل بظاهر العموم و يحكم بزوال الملكيّة بمحض طروّ الخراب، فالإحياء غير وارد على ملك الغير، و من هنا ظهر عدم جريان الاستصحاب لعدم مقاومته مع العموم.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 75

و أمّا التمسّك بإطلاق الاختصاص المستفاد من اللام، ففيه أنّ الدليل الدالّ على مملكيّة العنوان ساكت عن مزيل الملكيّة فلا تعرض للعموم المزبور الدالّ على مملكيّة إحياء المحيي الأوّل، لأنّ الموت و الخراب مزيل لهذه الملكيّة أوّلا، و بالجملة حال أدلّة إثبات الملكيّة كلّية إنّما هو التعرّض للحدوث و البقاء خارج عند مدلولها، و إنّما هو بمقتضى طبع نفس الملك، حيث إنّه كعرض سواد الجسم يبقى ما لم يرفعه رافع. هذا غاية ما قيل في المقام في تقريب الاستدلال.

و لكن استشكل فيه شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاضاته الشريفة- بأنّ القطع المزبور لو كان وحده و لم يكن المستكشف من العموم بملاحظته و هو الحكم بزوال الملكيّة للمحيي الأوّل بمجرّد الخراب مستبعدا

و على خلاف المرتكز العرفي كان تمام المطابقة بين المقام و بين المثال، حيث إنّ الحكم بأنّ زيدا مثلا ليس بعدوّ الذي هو المستكشف من عموم أكرم جيراني، ليس على خلافه استبعاد و ارتكاز، و لكن ليس الأمر هكذا فإنّه من البعيد جدا في أنظار العرف أن يكون دار الإنسان أو بستانه و مزرعته ملكا له ما دام قائماً على أصوله و بنيانه، فإذا خرب و سقط عن العمارة كان ذلك مخرجا لرقبة الأرض عن ملكه.

و هذا البعد إمّا يوجب انصراف العموم عن هذه الأرض بعد ملاحظة القطع المزبور، و إمّا يوجب عدم العموم و حصول الإجمال في الكلام بالنسبة إلى شمول هذه الأرض، و لا ينافي هذا مع ما تقرّر منّا في محلّه من أنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب لا يضرّ الأخذ بالإطلاق أو العموم، و ذلك لأنّ القرائن الارتكازية على قسمين: فقسم منها كالصور المنفصلة اللفظيّة لا يوجب صلوحها للقرينيّة سقوط ظهور الكلام عن الحجيّة، و قسم منها لشدّة الوضوح تكون كالقرائن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 76

اللفظيّة المتّصلة الحافة بالكلام المانع صلاحيتها للقرينيّة عن انعقاد الظهور للكلام.

فنقول: الارتكاز المزبور في المقام يحتمل أن يكون من القسم الثاني، فكان إيكال المتكلّم عليه في إرادة المقيّد من المطلق في كلامه صحيحا، فإذا جاء هذا الاحتمال بطل الاستدلال، و حينئذ فاستصحاب ملكيّة المحيي الأوّل لا مانع منه.

و الإشكال فيه- تارة بعدم إحراز الموضوع لاحتمال كون القيد، أعني: صفة حياة الأرض، ممّا له دخل في موضوع الملكيّة و ما به قوامها، و أخرى بأنّ الشكّ في بقاء الملكيّة مسبّب عن الشكّ في قصور مقتضيها.

و بعبارة أخرى: أنّا و لو سلّمنا عدم دخالة القيد في

الموضوع و إنّما هو ذات الأرض و لكن لم يحرز أنّ المقتضي لها و هو الإحياء هل له اقتضاء الدوام أو لا، فلا يتمحّض الشك في الرافع- مدفوع.

أمّا من الجهة الأولى فأوّلا: بأنّ احتمال دخالة القيد يدفعه ظاهر الدليل، فإنّ العرف يفهم من أمثاله أنّ الوصف جهة تعليليّة و واسطة في ثبوت المحمول لذات المتّصف كما ترى في قولك: إن جاء زيد فأكرمه، حيث لا يحتمل أحد أن يكون المجي ء علّة لوجوب إكرام زيد الجائي بل لذات زيد، فكذا في المقام، الإحياء علّة لصيرورة ذات الأرض المحياة ملكا لذات المحيي.

و ثانيا: لو فرض أنّ لسان الدليل دخل الصفة على وجه التقييد في الموضوع لكن قد قرّر في محلّه أنّا لا ندور مدار وحدة الموضوع الدليلي في إجراء الاستصحاب، بل مدار وحدة العرفي، فلو فرض أنّه قد علّق في الدليل حكم النجاسة على المتغيّر لا على الماء إذا تغيّر لا نتوقف في استصحاب النجاسة بعد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 77

زوال التغيير بل نقول: الموضوع العرفي هو الماء و التغيّر من أحواله، فكذلك في المقام بلا فرق.

و أمّا من الجهة الثانية فأوّلا: بأنّ الملكيّة ليست من الأعراض التي كان لعلّتها تأثيرا في طولها و قصرها و بقائها ساعة أو ساعتين، فالموجد للملكيّة لا يوجد الملكيّة الكائنة في ساعة واحدة أو الكائنة في ساعتين، بل شأنه إحداث الملكيّة فقط كما هو الحال في مسوّد الجسم، و البقاء إنّما هو من طبع ذات العرض أو محلّه ما لم يطرأ رافع، فالشكّ في بقاء الملكيّة دائما ممحّض في الشك في رافعها.

و ثانيا: أنّ من المقرّر في الأصول عدم اختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع، فلو سلّم أنّ المقام من

قبيل الشكّ في المقتضي لا مانع من جريان الاستصحاب فيه. هذا تمام الكلام في مقتضى القاعدة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 78

[الثالث] [من شروط العوضين كونهما طلقا]

[في بيان أسباب خروج الملك عن كونه طلقا]

[السبب الأول كون الملك وقفا و فيه أبحاث]
[البحث الأول في بيان معاني الوقف و هل هو آب عن قبول البيع أم أنه بحسب الذات قابل و المنع تعبدي]

مسألة

لا يجوز بيع الوقف إجماعا محقّقا في الجملة و محكيّا

، قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاضاته الشريفة-: لا بدّ أوّلا من تحقيق ذات الوقف و أنّه بذاته هل هو آب عن قبول البيع فلا نحتاج إلى التماس دليل على المنع لكونه مطابقا للأصل و إنّما المحتاج هو الجواز في بعض الموارد، أو أنّه بحسب الذات قابل و المنع تعبّدي، فيكون الجواز على القاعدة و المنع محتاجا إلى الدليل؟

فنقول: بحسب التصوير هنا محتملات:

الأوّل: أن يكون معناه إيقاف الملك على الموقوف عليهم، يقال: وقفت الدابة تقف وقوفا و وقفتها أنا يتعدّى و لا يتعدّى أي سكنت هي أو أسكنتها أنا، و على هذا فمقتضى ذات الوقف بعد إمضاء الشرع كون ملك الموقوف عليه ساكنا باقيا غير متغيّر عن حاله ببيع و لا غيره، لأنّ الخلود و الدوام مأخوذ في ذاته، فيحتاج في موارد الجواز إلى تعبّد شرعي.

الثاني: أن يكون معناه فكّ الملك و نزعه عن نفسه، من دون إحداث الملك للموقوف عليه و إنّما الثابت ملك المنافع دون الرقبة، فحال نفس الرقبة حال

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 79

المباحات الأصلية كعلف الصحراء في أنّه مال و ليس بملك و من شرط البيع، حيث إنّه المبادلة و هي فرع وجدان السلطنة، فإنّه كيف يبادل الإنسان ما ليس له، حتّى أنّه في بيع الكلّي في الذمّة أيضا و إن كان ليس اعتبار الملكيّة إلّا بعد البيع لكن مع ذلك قد بادل ما يكون له، و إن شئت قلت: الوجود الذمّي أيضا نحو من الوجود و نحو

من السلطنة كاف في تحقّق المبادلة.

و أمّا في المقام فقد فرضنا مساواة الواقف و الموقوف عليه و جميع الناس بالنسبة إلى الرقبة في عدم الإضافة إليه بنحو من الأنحاء كالمباحات الأصلية، غير أنّ للموقوف عليه حقّ استيفاء المنافع، و هذا المقدار غير كاف في تحقّق المبادلة فلا يحتاج إلى التمسّك ب «لا بيع إلّا في ملك» حتّى يرد عليه الخدشة، فيكون المنع على هذا أيضا من قضيّة ذات الوقف و الجواز في موارده لا بدّ من إثباته بتعبّد شرعي.

الثالث: أن يكون معناه سلب الإضافة عن نفسه اللازم منه التمليك للغير أو كان ابتداء تمليك الغير من دون أخذ المحبوسيّة في مفاده و المنشأ به، و حينئذ لا مانع من البيع إلّا تعلّق حقّ البطون اللاحقة به و هو أيضا لا مانع فيه إذا كان المتصدّي هو المتولّي الناظر للغبطة بالنسبة إلى جميع البطون، فكما يجوز له الإجارة في مدّة مستطيلة كخمسمائة سنة مع ملاحظة غبطة البطون، فكذلك بيعه، فالجواز على هذا على القاعدة و المنع محتاج إلى التعبّد الشرعي.

ثمّ إنّه- دام ظلّه- قال: الظاهر بحسب مادّة الوقف و ما هو المرتكز في الأذهان من معناه هو المعنى الأوّل، أعني: التمليك مع الحبس، و حينئذ فإمّا أن نقول بالتفصيل بين الأوقاف الخاصّة كالوقف على الأولاد، و الأوقاف العامّة كالوقف على المسلمين و الوقف على المسجد بأن يقال: مفاده الأوّلي هو إيجاد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 80

الربط بين المال و الموقوف، فإن كان الموقوف قابلًا للتملّك حصلت الملكيّة، و إن لم يقبل كالجهة و المسجد كان مجرّد اختصاص.

و إمّا أن نقول: بأنّه لا مانع من اعتبار الملكيّة في الأوقاف العامّة أيضا بعد أنّ الملكيّة أمر

خفيف المؤنة لا يعتبر إضافته إلى الحيّ، فربّما ينتزع بالنسبة إلى الميّت، كذلك لا مانع من انتزاعه بالنسبة إلى الجماد، فنقول: المسجد محتاج إلى الحصير و الحصير ماله، و هكذا.

ثمّ على فرض الاحتمال الأخير فالتعبّد الشرعي المستفاد من الأخبار هو المانع عن صحّة البيع بناء على أنّ النهي في المعاملات ظاهر في الوضع كما هو الحقّ، و ما عداه ممّا ذكر في المقام لا يخلو عن مناقشة مثل تعلّق حقّ الواقف حيث جعلها بمقتضى صيغة الوقف صدقة جارية ينتفع بها.

فإن أريد أنّ إنشاء عقد الوقف قد أخذ فيه الدوام و التأبيد و عدم الانتقال كما هو الوجه الأوّل، فهذا ليس حقّا للواقف موجودا فعلا أعني بعد إجراء الصيغة و حصول الملك للموقوف عليه، فإنّ نفوذ مقتضى العقد و وقوعه في الخارج لا يستحقّ إطلاق اسم الحقّ، فلا يقال لمن باع داره مثلا أنّه مستحقّ لانتقال داره إلى المشتري، بل الحقّ بمحض إجراء الصيغة و إمضاء الشرع مفادها قد انقطع، و العين صارت حقّا للموقوف عليه محضا.

و إن أريد أنّ الإنشاء و إن كان لا يقتضي الدوام و لا عدمه، و إنّما مقتضاه صرف الاختصاص و التمليك لكنّ الداعي و الباعث على هذا الإنشاء إنّما هو الصدقة الجارية المنتفع بها على الدوام، فهذا لا يمنع عن صحّة البيع، فإنّ الغرض الغير الداخل تحت الإنشاء غير لازم الاتّباع، مضافا إلى أنّا نفرض الكلام فيما إذا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 81

لم يعيّن الموقوف لمصرف مخصوص لا يقبل البدل كتعيين الخان لنزول الزوّار، بل جعله لمطلق انتفاع نوع الفقير مثلا بأي نحو كان، و من المعلوم أنّ من أنحاء الانتفاع بالخان جعله مبدلا بالبستان إذا كان ذلك

أنفع للفقراء.

و من هنا يعلم أنّ إطلاق الصدقة الجارية في الأخبار أيضا لا يمنع عن صحّة البيع بقول مطلق، نعم في مثل ما إذا عيّن المصرف لا يصدق هذا العنوان على البدل، لأنّ المقصود و المنشأ حسب الفرض الصدقة للانتفاع بوجه مخصوص غير حاصل من البدل.

و مثل تعلّق حقّ البطلان اللاحقة المتأخّرة عن بطن البائع، فإنّا قد فرضنا كون المتصدّي هو الناظر العام الذي له النظر للبطون اللاحقة أيضا، فإذا رأى البيع أصلح بحالهم أيضا فليس هذا منافيا لحقّهم أصلا، و بالجملة حال المال حينئذ حال مال اليتيم في اشتراط صحّة البيع و سائر التصرّفات فيه على ملاحظة الغبطة لا المنع عن التصرّف رأسا.

و مثل أنّ انتقال المنفعة في الوقف إلى الموقوف عليه يكون على نحو الاستقلال من دون تبعيّة العين كما هو مقتضى قوله- عليه السلام-: «حبّس الأصل و سبّل الثمرة»، و ليس على حدّ ملك المنافع في سائر الأبواب حيث يكون ملكها لمن يملك العين بتبعه بقضيّة العرف و الشرع، حيث إنّهما حاكمان بأنّ الناس مسلّطون على أموالهم، و على هذا فكما كان المنافع في سائر الأبواب ينتقل بانتقال العين و بتبعه لا يمكن مثله في المقام، إذ الفرض أنّ هنا ملكيتين مستقلّتين في عرض واحد من غير تبعيّة أحدهما للآخر، و حينئذ يكون المبيع هو العين المجرّدة عن المنافع إذ ليست مملوكة على غير هذا الوجه و هي لا ماليّة لها على هذا الوجه فلا يقبل البيع إلّا أن يشترط انتقال المنافع مع انتقال العين، فيكون الانتقال في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 82

كلّ منهما ملحوظا على سبيل الاستقلال كمملوكيّتهما.

و قد صرّح شيخنا العلّامة- أعلى اللّٰه مقامه- بأنّ المعاملة المتكفّلة لانتقال

العين و المنفعة لا يكون إلّا الصلح، فلا يمكن البيع فيما نحن فيه و يمكن نفي الصلح أيضا لعدم القول بالفصل، إلّا أن يقال: ليس هذا أولى من العكس فيقال بجواز البيع الجامع لنقل العين مع اشتراط المنفعة بضميمة جواز الصلح كذلك، إلّا أن يقال: العين الملحوظة معرّاة عن جميع المنافع لا ماليّة لها فلا يصحّ البيع من هذه الجهة.

إلّا أن يقال: إنّه يكفي في صحّة البيع ماليّة المبيع و لو بلحاظ الشرط الملحوظ فيه و لا يعتبر ماليّته بالاستقلال، هذا و فيه مضافا إلى عدم تماميّته لما أشار إليه أخيرا أنّه يقع الكلام حينئذ في فعل الواقف، فإنّه على هذا قد أنشأ أمرين في عرض واحد، فإنشاء تمليك العين معرّاة عن المنافع و تمليك المنافع كذلك، و هذا يرد عليه عين ما أشير إليه من أنّ العين المعرّاة لا مالية لها فكيف يصحّ فيها التمليك، و أمّا قوله- عليه السلام-: «حبّس الأصل و سبّل الثمرة» فليس المقصود منه إلّا حصول هذين الفعلين، و لو كان بإنشاء واحد كان نتيجته ذلك و لا يدلّ على لزوم كون الإنشاء مشتملا على جزئين عرضيين.

ثمّ إنّ الظاهر كون الدوام و المنع عن المعاوضة مأخوذا في مفهوم الوقف و مدلول صيغته، فإنّه المتبادر من مادّة الوقف لغة و عرفا و هو الظاهر ممّا ورد في صورة وقف أمير المؤمنين- صلوات اللّٰه عليه- فإنّ قوله- عليه السلام-: «صدقة لا تباع و لا توهب» «1» ظاهر في كون الوصف مأخوذا في نوع هذا القسم من الصدقة لا أنّ هذا

______________________________

(1) الوسائل: ج 13، الباب 6، في أحكام الوقوف و الصدقات، ص 304، ح 3 و 4.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 83

الشخص الخاص كذلك، فإنّ الظاهر أنّ للصدقة أقساما و بعض أقسامها يكون مميّزه عن سائر الأقسام هذا الأمر «1»، فالزكاة صدقة و الصدقة على الفقير أيضا كذلك، و لكن هذان القسمان قابلان للبيع و النقل فتكون الصدقة الموصوفة بكونها لاتباع و لا توهب، ظاهر الانطباق على الوقف بنوعه في قبال ذينك القسمين لا عليه بشخصه أو بصنفه في قبال سائر أشخاصه أو أصنافه، فالمستفاد منه شرح حقيقة الوقف و أنّه الصدقة الغير المبيعة الغير الموهوبة، فيكون المنع و الدوام مأخوذا في ماهيته و حقيقته.

و لا يخفى أنّ جواز البيع لبعض العوارض كخلف بين أربابه مؤد إلى خرابه، و غير ذلك ينافي حقيقة الوقف و بقائه على هذا لا أنّه ينافيه نفس البيع لا جوازه، كما قوّاه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- مع تصريحه بأنّ مدلول صيغة الوقف أخذ فيه الدوام و المنع عن المعاوضة و إن صرّح في ذيل كلامه بمنع كون المنع عن المعاوضة مأخوذا في مفهومه.

لكن يظهر منه- قدّس سرّه- في صدر كلامه أنّ أخذ ذلك في الإنشاء لا ينافي جواز مخالفته لبعض العوارض، و نظره بالعقد الجائز كالهبة حيث إنّ مقتضاه التمليك المقتضي لتسلّط الطرف المنافي لجواز الانتزاع من يده، و مع ذلك يجوز مخالفته و قطع سلطنته.

ثمّ أمر بالتأمّل، و لعلّه للإشارة إلى الفرق بين المقامين بأنّ نفس جواز قطع السلطنة ينافي السلطنة لكنّ المنشأ ليس هو السلطنة و إنّما هو الملكيّة و من آثاره السلطنة، و الملكيّة التي هي المنشأ لا ينافيه نفس الجواز كما هو واضح، أو أنّ

______________________________

(1)- كذا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 84

المنشأ هناك نفس الملكيّة و أمّا بقاؤها و دوامها و عدم انقطاعها فخارج عن مدلول

الصيغة و المفروض حصول أصل الملكيّة بخلاف المقام حيث إنّ دوام الملك أيضا تحت الإنشاء حسب الفرض.

و لعلّه- قدّس سرّه- أراد أنّ المنع الابتدائي غير مأخوذ في مفهومه كما لعلّه الظاهر من ملاحظة أطراف كلامه، و بيانه أنّه تارة يقال كما قلنا إنّ حقيقة الوقف هو التمليك و لو في بعض الموارد و فصله المحبوسيّة عن التصرّفات الناقلة، و من الواضح أنّ لازم هذا المعنى ارتفاع الوقف بارتفاع فصله عند طروّ أحد المجوّزات كما أنّ الإنسان يرتفع بطروّ ما يوجب زوال وصف النطق. و أخرى يقال: ليس حقيقته بأزيد من التمليك المضاف إلى البطون المتلاحقة الغير المنقطعة فالمنشأ هو التمليك المستمرّ، و لازمه أن لا يجوز البيع و سائر التصرّفات الناقلة، لأنّه خلاف تمليك البطون المتأخّرة عن البطن البائع، و فرق واضح بين كون الحبس و عدم الجواز لازما من جهة كون المأخوذ الابتدائي و ما هو المنشأ هو الدوام، و بين كون المنشأ الابتدائي هو الحبس.

و تظهر الثمرة في أنّه على الأوّل كما يجوز الإيجاب بلفظ «وقفت على أولادي مثلا بطنا بعد بطن» كذلك يجوز الإيجاب بلفظ «تصدّقت عليهم بطنا بعد بطن» و على الثاني ينحصر في الأوّل، إذ الحبس لا يستفاد من الثاني.

و من المعلوم ظهور الثمر بينهما في المقام أيضا، فإنّه على الأوّل يلزم كما ذكرنا ارتفاع الوقف بارتفاع الحبس لفرض أنّه الفصل، و على الثاني لا يلزم ارتفاعه بنفس الجواز، إذ ما كان حقيقته إلّا مجرّد التمليك، غاية الأمر على جميع البطون، فيكون للبطن البائع عند طروّ أحد المجوّزات أمّا الولاية على سائر البطون في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 85

إبدال ما لهم بمال آخر، و إمّا حقّ إبطال الوقف

بالبيع لنفسه ليدخل البدل في ملك نفسه دون سائر البطون.

و على كلا الوجهين فما دام لم يقع البيع لم يبطل الوقف، لأنّ ملك البطون محفوظ، غاية الأمر يجوز سلبه لعارض، و من هنا لو اندفع الضرورة المجوّزة و لم يتّفق البيع كان الوقف على حاله، و يلزم على الوجه الأوّل أن يخرج الموقوف بمحض طروّ أحد العوارض عن ملك الموقوف عليه إلى ملك الواقف و هو خلاف الإجماع، هذا.

و اختار شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاضاته الشريفة- القائل بالوجه الأوّل للتفصّي عن هذا الإشكال الأخير، أعني: لزوم ارتجاع الملك إلى واقفة بعد البطلان و هو خلاف الإجماع طريقا، و هو أنّ الموجود المجمع للحيثيات المتعدّدة الداخلة في حقيقة ذاته المندمجة في وجوده على وجه الانبساط و الوحدة كالإنسان- حيث إنّه مجمع للجسميّة و النموّ و الحيوانيّة و الناطقيّة بمعنى كون هذه الحيثيّات مندمجة في ذاته و موجودة بوجود واحد بسيط- إذا ارتفع بعض حيثيّاته برافع، كما لو شرب الإنسان دواء زال عنه وصف النطق فبقاء بقيّة الحيثيّات غير محتاج إلى مؤثّر آخر فلا يلزم من ارتفاع النطق ارتفاع كلّ الحيثيّات من الجسم و غيره.

نعم ذلك الوجود المتفصّل بفصل النطق لا محالة يرتفع بارتفاع النطق فبقاء البقيّة لا محالة يكون وجودا آخر، لكنّ المدّعى أنّ هذا الوجود الآخر مع كونه وجودا آخر مغايرا للأوّل لا يحتاج بعد زوال الأوّل إلى موجد آخر غير ما أوجد الوجود الأوّل، لأنّ فصل هذا الوجود الثاني هو النقص، و الهيولى الموجودة في الأوّل التي هي المادة لهذا الوجود قد وجد بالموجد الأوّل، غاية الأمر كانت مندكّة في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 86

الوجود الأوّل، فإذا ارتفع حدّ ذلك الوجود الذي

هو أمر وجودي فالمحدوديّة بحدّ هذا الوجود الذي هو أمر عدميّ حاصل قهرا من دون حاجة إلى تأثير جديد، و لهذا نشاهد أنّ الإنسان إذا مات يبقى جسمه جامدا و هذا من الواضحات.

و حينئذ نقول: الوقف عند التحليل العقلي له جزءان، أحدهما التمليك أو إيجاد العلاقة الاختصاصيّة بين المال و الموقوف عليه، و الثاني كونه محبوسا و ممنوعا عن التصرّفات الناقلة فيه و هاتان الحيثيّتان موجودتان فيه على نحو الاندماج، فإذا حصل الرافع للحيثيّة الأخيرة، أعني: الحبس، لا يلزم بطلان أصل الاختصاص.

نعم اللازم لا محالة بطلان حقيقة الوقف و انعدام صورته كما كان الإنسان مرتفعا بزوال النطق، و لكن كما قلنا لا يلزم من بطلانه و ارتفاعه ارتفاع الحيثيّة الأولى منفصلا بالفصل الناقص، فكما صار وجود الإنسان هناك مثلا بعد زوال النطق وجود الحيوان بلا شعور قهرا من غير تأثير جديد، كذلك يصير وجود الوقف هنا بعد زوال فصله الوجودي الذي هو الحبس وجود الاختصاص بلا حبس قهرا من غير حاجة إلى مؤثّر جديد.

[البحث الثاني في بيان أقسام الوقف و ذكر أحكام كل منها]
[الكلام في القسم الأول الوقف المؤبد]
اشارة

إذا عرفت ما ذكرنا فيقع الكلام تارة في الوقف المؤبّد و أخرى في المنقطع، أمّا الأوّل قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- إنّه على قسمين قسم يكون ملكا للموقوف عليهم فيملكون منفعته فلهم استئجاره،

و لو غصبه غاصب و انتفع به فلهم أخذ أجرة ما انتفع من منافعه، و هذا غالبا في الوقف على المخصوصين كالأولاد و الطلاب، و يمكن تصويره في الوقف العام أيضا كما لو وقف أرضا مثلا لمطلق انتفاع الفقراء فيجوز حينئذ للناظر العام الإجارة و صرف الأجرة في منافع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 87

الفقراء، فيكون ملك الفقراء للرقبة و المنافع حال ملك المسلمين للأراضي المفتوحة عنوة حيث

ليس لآحادهم التصرّف لعدم الملكيّة للأشخاص، فينحصر جواز التصرّف لمن كان متولّيا لأمور المسلمين كالإمام- عليه السلام- و من يقوم مقامه.

و قسم آخر يكون غير ملك لأحد و إنّما هو فكّ الملك، نظير التحرير و منه المساجد و المدارس و الخانات و الرباطات و القناطير، بناء على أنّها ليست ملكا للمسلمين كما هو مذهب جماعة، فإنّ الموقوف عليهم يملكون الانتفاع دون المنفعة فلو سكنها أحد غصبا فالظاهر عدم ضمانه أجرة المثل، فجعل محلّ الكلام بين الأعلام من حيث جواز البيع في الجملة و عدمه هو القسم الأوّل.

و أمّا الثاني فاستظهر- قدّس سرّه- عدم الخلاف في عدم جواز بيعه لعدم الملك كما اعترف به غير واحد، ثمّ حكى كلام كاشف الغطاء- قدّس سرّه-، حيث ذهب إلى جواز إجارة أرض المسجد مع اليأس عن الانتفاع في الجهة المقصودة و بيع الآلات و الفرش و ثياب الضرائح و نحوها مع تعذّر الانتفاع بها بالوجه المقصود منها أو ما قام مقامه، و ردّه بأنّه لم يثبت كون ذلك ملكا للمسلمين حتّى يجوز الإجارة و البيع، و المتيقّن خروجها عن ملك مالكها، و أمّا الدخول في ملك المسلمين فمشكوك، و مقتضى الأصل عدمه.

قال شيخنا الأستاذ- دامت أيّام إفاضاته الشريفة-: لا بدّ من تحقيق حال الوقف على الأشخاص و الوقف على الجهة و المصلحة الخاصّة و أنّه هل يكون بينهما فرق أو لا؟ فنقول: لا شبهة أنّ حقيقة الوقف لا يختلف في الموضعين بمعنى أن يكون حقيقته في أحدهما التمليك، و في الآخر هو الفك حتى يكون مشتركا لفظيّا، إذ هذا ممّا يمكن القطع بخلافه و أنّه في كليهما مستعمل في معنى واحد.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 88

و حينئذ فالذي

يمكن أن يقال هنا وجوه:

الأوّل: أن يكون معنى الوقف على كلا القسمين هو الحبس عليهما و يكون الدالّ على التمليك في القسم الأوّل هو الإضافة إلى من يقبل التمليك، و الدالّ على الفك في الثاني هو الإضافة إلى غيره فيكون الخصوصيتان داخلتين في المنشأ خارجتين عن حقيقة الوقف مدلولة عليهما بدال خارجي.

الثاني: أن لا يكون المنشأ إلّا الحبس من دون أن يكون في البين زيادة خصوصيّة و لو بدال خارجي، و لكن هذا الإنشاء مع الإضافة إلى من يستأهل الملكيّة منشأ لانتزاع الملكيّة عرفا و هو مع الإضافة إلى غير الأهل منشأ لانتزاع الفك، فالاختلاف على الأوّل راجع إلى القصد، و على هذا لا اختلاف في عالم القصد و إنّما هو في انتزاع أهل العرف.

الثالث: أن يكون الحال كالثاني في عدم الاختلاف بين القسمين بحسب القصد، و لكن كان التخصيص بالمستأهل منشأ لانتزاع ملكيّة المنفعة دون الرقبة و بغيره منشأ لانتزاع ملكية الانتفاع، و هذه الوجوه كلّها مشتركة في أنّ اللازم منها عدم جواز البيع في القسم الثاني لعدم الملك.

و لكن هنا وجه رابع لا بأس بالمصير إليه لو لم يقم إجماع على خلافه لازمه الجواز في هذا القسم أيضا، و هو أن يقال تارة يضيف الواقف الوقف إلى الأشخاص فيقول: وقفته على أشخاص كذا، فمعنى ذلك أو المنتزع منه: كون العين ملكا لهؤلاء الأشخاص، و أخرى لا يضيفه إلى الأشخاص و إنّما يضيفه إلى عمل من الأعمال كأن يقف المسجد على الصلاة و الخان على نزول الواردين و القنطرة على عبور العابرين و الحسينيّة على التعزية و إقامة مجلس المراثي و العزاء،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 89

فيفيد أيضا التمليك لكن لا تمليك المصلّين

أو الواردين أو العابرين بل تمليك نفس المصرف الخاص و الجهة المعيّنة.

فإن قلت: على هذا يلزم أن تكون منفعة العين مالكة للعين و هو غير معقول بناء على ما مرّ منك من أنّ العين إذا فرضت منسلخة عن المنفعة فلا ماليّة لها، مضافا إلى ركاكة ذلك و عدم مساعدة العرف لذلك البتّة.

قلت: الذي فرضناه مالكا كلّيّ الصلاة مثلا بمعناها الذي وقعت بحسب الأمر و هو المفهوم العاري عن الوجود و العدم الملحوظ بلحاظ الخارج، و الذي هو منفعة الأرض مصداق هذا الكلّي و وجوده في الخارج و تحقّقه في الأرض، فيصير المحصّل أنّ الكلّي مطالب و مستحقّ لوجود مصداقه في المسجد، و هذا معنى مالكيّته للمسجد.

و الذي يدلّك على إمكان مالكية هذا المعنى بل وقوعها في باب الزكاة، ألا ترى أنّه عدّ في الآية في جملة مستحقّيها سبيل اللّٰه، فنقول: لو عزل المالك الزكاة عن ماله و لم يصرفه في شي ء من مصارفه فلا يخلو إمّا أن تقول: إنّه ليس بملك فاللازم أن لا يجوز صرفه في سبيل اللّٰه بأن يباع مثلا و يبتاع بثمنه آجر المسجد فإنّ ما ليس بملك لا يقبل البيع.

و إمّا أن تقول بأنّه ملك و حينئذ فإمّا أن تختصّه بالفقراء مثلا فاللازم عدم جواز دفعه إلى غيرهم من سائر المصارف، فيبقى الأمر منحصرا في أن نقول بأنّه ملك للجامع بين جميع ما ذكر في الآية الذي منها في سبيل اللّٰه، و لا شبهة أنّ سبيل اللّٰه عبارة عن تعمير المسجد و إقامة التعزية و نحوهما.

و أيضا من جملة المصارف فكّ الرقاب بأن يشتري بالزكاة الرقاب تحت

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 90

الشدّة ثمّ يعتق أو ينعتق بعد الشراء قهرا،

و على كلّ حال فالثمن الذي هو الزكاة ليس غير ملك و لا ملكا لنفس الرقاب فيتعيّن أن يكون ملكا لفكّها.

و أيضا كما لا يأبى العرف من إضافة الحق إلى الصلاة فيقال: حقّ الصلاة كذا، فلا يأبى أيضا من إضافة الملك إليه فيقال: الشي ء الفلاني مال الصلاة، و كما يعتبرون الملكيّة للميّت بعد موته بالنسبة إلى ثلث تركته الذي عيّنها لنفسه لأجل أنّه ينتفع بذلك الثلث بعد الموت، فكذلك لا غرو في اعتبارها للصلاة مثلا لأجل هذا الانتفاع أعني تحقّق مصداقها فيه.

و على هذا ففرق بين نفس المسجد الذي هو وقف على نفس الجهة الصلاتيّة و بين وقف الحصير و التربة و غيرهما على المسجد، فالمالك في الأوّل هو الجهة و في الثاني نفس المسجد، و على هذا فلا مانع من وقوع البيع لا في نفس المسجد و لا في آلاته و أمواله إذا سقطت عن الانتفاع بها في الجهة المقصودة، إذا أمكن بيعها و صرف الثمن في الأقرب فالأقرب.

و ربّما يساعد هذا أيضا عمل أهل العرف في الخارج لأنّا نرى أهل العرف بالنسبة إلى معابدهم حتّى النصارى بالنسبة إلى كنائسهم أنّه إذا سقطت نفسها أو آلاتها عن الانتفاع فلا يتحاشون عن التصدّي لبيعها و التبديل بفرد آخر، و لو كان الأمر كما ذكروا لكانوا متحاشيين من جهة أنّه بيع لما قد حرّر و خرج عن دائرة الملك كعلف الصحراء و سائر المباحات الأصلية.

و ممّا ذكرنا يظهر الخدشة في ما ذكره- قدّس سرّه- من الأقسام الثلاثة في القسم الثاني.

أحدها: وقف نفس المسجد فجعله من قبيل فكّ الملك و تحريره، و استظهر

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 91

عدم الخلاف في عدم جواز بيعه.

و الثاني: الحصير

الموقوف على خصوص المسجد أو على المسلمين و لكن وضع في المسجد من جهة أنّه أحد وجوه انتفاعهم، كالماء المسبّل الموضوع في المسجد، و هذا ملك غير طلق فلا يجوز بيعه إلّا في موارد يسوغ فيها بيع الوقف.

و الثالث: ما يكون ملكا طلقا كالحصير المشترى من مال المسجد، فهذا يجوز للناظر بيعه مع المصلحة و لو لم يخرج عن حيّز الانتفاع، بل كان جديدا غير مستعمل، فإنّه يرد عليه- قدّس سرّه- أنّه ما وجه هذه التفرقة، فإن كان قضيّة الوقف فكّ الملك ففي الجميع، و إن كان هو التمليك للمسلمين فكذلك أيضا.

و أمّا على ما ذكرنا من أنّه كما يصحّ اعتبار الملكية لذوي العقول كذلك يصحّ للجماد و نحوه من غير ذوي العقول إذا فرض اشتراكه معهم في الحاجة و الاقتضاء، فنقول: كما أنّ الأولاد مثلا يحتاجون إلى ملك يصرفونه في حوائجهم كذلك المسجد، و كما أنّ الإنسان يقف القرية مثلا على الأولاد فيملكون منافعها ملكا طلقا يتصرّفون فيها ما شاءوا كذلك هنا أيضا وضع المسجد موضع الأولاد فكما أفاد الانتزاع من النفس و الإضافة إلى الأولاد ملكهم فكذلك هنا أيضا يفيد ذلك الانتزاع ملك المسجد للقرية، فيصير منافعه ملكا طلقا له، غاية الأمر أنّه لما ليس من ذوي الشعور فيحتاج إلى المتولّي الناظر في مصالحه، فإذا اشترى المتولّي من غلّة ملك القرية حصيرا للمسجد ثمّ رأى المصلحة في تبديله بحصير آخر جاز فلا يتوقّف البيع على وجود أحد المسوّغات، غاية الأمر يوقفه على رعاية الصرفة.

و هذا بخلاف ما إذا اشترى الرجل الحصير للمسجد و وقفه عليه، فهذا أيضا يفيد ملكه لكن ملكا غير طلق لا يباع و لا يوهب، فهذا يحتاج بيعه إلى أحد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 92

المسوّغات، هذا حال حصير المسجد، و أمّا الجذع و الأخشاب و الأحجار و سائر أجزاء البناء، فإن كان إجراء الوقف بعد تمام البناء فحالها حال الأرض، و إن كانت الأرض وقفت أوّلا مسجدا ثمّ وقف هذه عليه فحالها حال الحصير، هذا حال أموال المسجد، و أمّا حال نفس المسجد فقد مرّ أنّ مالكه نفس الجهة، أعني:

الصلاة لا المسلمون.

لا يقال: فعلى هذا يجوز للمتولّي إجارة المسجد في غير أوقات الصلاة و صرف الأجرة في توسعة المسجد، لأنّ المفروض أنّ المنفعة حينئذ ملك للجهة طلقا، نعم نفس الرقبة غير طلق، فعدم جواز الإجارة كاشف عن صحّة ما ذكروه من كون وقفه بمعنى فكّ الملك و المسلمون مالكون للانتفاع دون المنفعة.

لأنّا نقول: صحّة الإجارة مبنيّة على ملك المنافع الممكنة الاستيفاء من العين و المفروض حصر الملكيّة في المنفعة الخاصّة على نحو المباشرة، فالرقبة ملك مع هذه المنفعة بنحو المباشرة، و سائر المنافع لا مالك لها، و بهذا يندفع الإشكال عن الشيخ المرتضى- طاب ثراه- القائل في القسم الثالث بالملكيّة الطلقة للمسلمين بأنّه يلزم جواز صرفهم غلّة القرية الموقوف على هذا الوجه في مطعمهم و ملبسهم و سائر منافعهم. و الجواب: أنّ الملكيّة الطلقة لا تنافي مع الاختصاص بالجهة الخاصّة فالغلّة ملكهم الطلق لكن على أن يصرفوا نفسها أو بدلها في منافع مسجدهم لا غير.

ثمّ إنّه حكى الأستاذ- دام أيام إفاضاته- عن السيّد المحقّق الطباطبائي اليزدي- طاب ثراه- في كتاب الوقف من العروة الوثقى أنّه أنكر الإجماع على عدم جواز بيع المسجد عند السقوط عن الانتفاع في المسجديّة، بل أثبت الضمان على من حبس المسجد عن الصلاة فيه و كذا على متلف الرقبة.

كتاب

البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 93

و استشكل شيخنا الأستاذ- دام أيّام بقاه- على الضمان كأجرة مثل المنافع في صورة الحبس بأنّه سواء قلنا بملكيّة المسجد للمسلمين كما هو مذهب السيّد- قدّس سرّه-، أم للجهة كما اخترناه فالمنافع الأخر غير إيقاع الصلاة غير مملوكة للموقوف عليه، و معنى ضمان أجرة مثل منافع الرقبة أنّه يلاحظ جميع مالها من المنافع بحسب الذات و يقدّر بحسب ذلك ماليّة فيحكم بضمان تلك الماليّة، و العين حسب الفرض لها منافع كثيرة بحسب الذات غير منحصرة في إيقاع الصلاة، فيكون ما يقدّر لها من القيمة و الماليّة أكثر من العين التي بحسب الذات و الخلقة تنحصر فائدتها في إيقاع الصلاة، فالمقدار الزائد عمّا يقابل منفعة إيقاع الصلاة يكون الحكم بضمانها بلا جهة، لفرض كون سائر المنافع بلا مالك.

نعم الحكم بضمان التلف له وجه سواء كان المدرك قاعدة من أتلف، أم قاعدة اليد، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ المسجد و نحوه غير ملك أصلا، فإنّ موضوع القاعدة الأولى الإضافة إلى الغير، لأنّه مال الغير، و كذلك الثانية بملاحظة الغاية.

[صور جواز بيع الوقف المؤبد]
[الصورة الأولى أن يخرب بحيث لا ينتفع به]
اشارة

إذا عرفت جميع ما ذكرنا، فاعلم أنّ الكلام في جواز بيع الوقف يقع في صور:

الصورة الأولى أن يخرب الوقف بحيث لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالحيوان المذبوح و الجذع البالي و الحصير الخلق

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاضاته الشريفة-:

هنا بحسب التصوّر ثلاثة مبان لا بدّ من التكلّم عليها و أنّ مقتضى اختيار كلّ منهما ماذا؟

الأوّل: أن نقول: إنّ عنوان ذي الفائدة ملحوظ في إنشاء الواقف على وجه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 94

التقييد، و لا يتوهّم أنّه من قبيل منقطع الآخر، إذ لا فرق بين وقف الحيوان على حمل الماء

للمسجد مثلا فمات، و بين وقف الشجر المثمر بقيد كونه مثمرا فسقط عن إعطاء الثمر، فإنّ كليهما من فوات الوقف بفوات الموضوع، و ليس من التوقيت بمدّة معيّنة فيصير من الوقف المزبور.

الثاني: أن نقول: إنّه غير ملحوظ له كسائر العناوين من البستانيّة و الداريّة و غيرهما، فالموضوع في إنشائه إنّما هو الذات بلا تقييد بقيد و لكن قد أخذ في حقيقة الوقف حيث كونه لا يباع و لا يوهب.

و الثالث: أن نقول بعدم لحاظ العنوان المذكور قيدا و لا دخل قيد كونه لا يباع و لا يوهب في حقيقة الوقف.

فإن قلنا بالأوّل، فلا شبهة في زوال لون الوقفيّة بزوال الموضوع، أعني:

الخروج عن قابليّة الانتفاع في المنفعة المقصودة، إذ لا فرق بين زوال الموضوع بذاته و بين زواله بقيده، في أنّ كلّا منهما موجب لزوال الحكم المفروض تعلّقه بالمقيّد، و تخصيص الجاعل إيّاه به بنحو وحدة المطلوب، فلا فرق بين الوقف على هذا العنوان و بين إنشاء إيجاب الإكرام في موضوع العالم، فكما ينتفي الوجوب بانتفاء وصف العلم و لو بقي الذات فكذلك هنا أيضا.

و ما ذكرناه في نفس الوقف من إمكان أن يزول فصله الذي هو الحبس و يبقى أصل الاختصاص موجودا بوجود آخر غير جار هنا، إذ المدّعى هناك أنّ زوال الفصل من حقيقة لا يوجب زوال الجنس و عدم وجوده بوجود آخر، و أين هذا من زوال الغرض بزوال القيد الذي كان متقوّما به، ألا ترى أنّه مع أنّ الإنسان إذا مات يبقى جسمه جامدا لكنّ الخواص و الآثار المتقوّمة بحد الإنسانية أو الحيوانية قد زالت عنه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 95

ثمّ بعد زوال لون الوقفيّة هنا بحسب مقام الثبوت احتمالات، الأوّل:

أن يرجع الملك إلى الواقف، الثاني: أن يصير من المباحات الأصليّة، و الثالث: أن يبقى ملكا للموقوف عليهم.

و الأوّل خلاف الأصل؛ إذ بعد ما انقطعت علاقة المالك بالمرّة عن العين في حال وجود العنوان و صيرورته كأحد من الناس بالنسبة إليها، فالعود إليه بعد فقد العنوان يحتاج إلى دليل جديد، فإنّ دليل ثبوت الملك السابق له ليس عامّا استغراقيّا بالنسبة إلى أجزاء الزمان و إنّما مقتضاه إثبات أصل الملك و دوامه بمقتضى طبعه إلى أن يزيله مزيل.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب البيع (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

كتاب البيع (للأراكي)؛ ج 2، ص: 95

و كذلك الاحتمال الثاني؛ لأنّه خلاف استصحاب ملكيّة الموقوف عليه، لا يقال: كما أنّ الوقفيّة في لحاظ المنشئ مقيّد بحال وجود المنفعة كذلك التمليك الذي في ضمنه، فكما زال الأوّل بزوال الموضوع لا بدّ من زوال الثاني أيضا.

لأنّا نقول: لا نسلّم كون الملكيّة بإنشاء المنشئ و أنّ إنشاء الوقف متضمّن لإنشاء التمليك، بل نقول: إنّ العرف ينتزعون من إنشاء الوقف الملكيّة في الموقوف، و حينئذ فمن المحتمل أن يكون إنشاء الوقف في موضوع ذي المنفعة بنحو التقييد علّة محدثة لانتزاع الملكيّة في موضوع الذات و لا يكون باقيا ببقائها، و هذا بخلاف أصل الوقف حيث إنّ المفروض معلوميّة حال الجاعل في موطن الثبوت و أنّه قيّده بحال وجود المنفعة، و الشارع أيضا لم يتعبّدنا بما وراء ما جعله الواقف، بل: «الوقوف [عنده] تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاء اللّٰه» «1».

______________________________

(1)- الوسائل: ج 13، الباب 2، في أحكام الوقوف و الصدقات، ص 295، ح 1 و 2، و الباب 7، في أحكام الوقوف و

الصدقات، ص 308، ح 2.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 96

لا يقال: قد تعرّضوا في البيع أنّه لو قال: بعتك هذا الفرس العربي بشرط كونه عربيّا فانكشف عدم عربيّته فالبيع صحيح و الخيار ثابت لأجل تخلّف الشرط، و على ما ذكرت هنا يلزم الحكم هناك بالبطلان؛ لانكشاف تخلّف المبيع.

لأنّا نقول: كلامهم مبنيّ على حمل ذلك على الالتزام في ضمن الالتزام على نحو تعدّد المطلوب، و إلّا فلو فرض في مقام الثبوت أنّ البائع أراد التقييد كان من تخلّف المبيع لا محالة.

ثمّ إذا حكم بملكيّة الموقوف عليهم فالمانع من البيع من ناحية الوقف قد ارتفع فينحصر المانع في تعلّق حقّ البطون المتأخّرة، فإذا فرضنا أنّ البيع جمع بين حقوق البطن الحاضر و المتأخّر لأنّ الأمر دائر بين تركه حتّى يتلف، و بين صرف البطن الحاضر في مصالحهم بإتلافه، و بين بيعه و تبديله لينتفع بالبدل البطن الموجود و المتأخّر كان المانع من هذه الجهة أيضا مرتفعا، إلّا أن يتمسّك في منع البيع باستصحاب كونه لا يباع في حال الوقفيّة.

و لكنّه مخدوش بأنّه بعد ما ثبت ملكيّة الموقوف عليه مع زوال الوقفيّة فالمرجع في الشكّ في نفوذ التصرّفات الناقلة هو عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» و أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ «1» و نحوهما، لأنّ القدر المتيقّن تقييدها بحال الوقف، فيرجع في غيره لو احتمل كون العنوان علّة محدثة إلى العموم، و ذلك لأنّ المرجع في المقيّد المنفصل المردّد بين الأقلّ و الأكثر مفهوما إلى إطلاق المطلق و عموم العام.

و ليس هذا من موارد التمسّك في الشبهة المصداقيّة بدعوى تقييدها بعنوان الطلق و نشكّ في انطباقه في المقام؛ إذ لم يرد باعتبار هذا العنوان دليل و إنّما هو

______________________________

(1)-

البقرة/ 275.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 97

شي ء انتزعناه من الموارد الخاصّة المتعلّق فيها الحكم بالعناوين الخاصّة، و لا من موارد استصحاب حكم الخاص بدعوى أنّ شخص هذا المال قد خرج عن عموم «الناس إلخ» في قطعة من الزمان و نشكّ بعدها، و لا عموم أزماني في المقام، و قد تقرّر أنّ المرجع في مثله الاستصحاب، و ذلك لأنّ هذا مختص بما إذا لم يكن خروج الشخص بعنوان من العناوين كعنوان الوقفيّة في المقام، كما إذا علم أنّ زيدا في يوم الجمعة لا يجب إكرامه، حيث إنّ يوم الجمعة ليس من عناوين الموضوع و إنّما هو طرف للحكم.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ كلّا من الملكيّة و وصف المنع عن البيع يتمّ فيه أركان الاستصحاب، و لكنّ الأوّل لا دليل اجتهادي يقتضي خلافه بخلاف الثاني، هذا و يمكن إثبات الملكيّة بوجه آخر غير الاستصحاب، و هو أن يقال: إنّ مفهوم الوقف مركّب إمّا خارجا و إمّا تحليلا عقليّا من جزئين، أحدهما: حبس العين، و الآخر: تسبيل المنفعة، فمتعلّق الحبس، أعني: حبس الواقف نفسه عن التصرّفات، نفس العين الخالية عن المنفعة.

و حينئذ فإذا زال أحد الجزئين و هو التسبيل بواسطة زوال موضوعه و هو المنفعة، فالجزء الآخر لا يحتاج في البقاء على حدّ النقص إلى تأثير مستقلّ كما تقدّم بيان ذلك. هذا بالنسبة إلى أصل الملكيّة، و أمّا جواز البيع فيتمسّك فيه بالعمومات كما تقدم.

و إن قلنا بالمبنى الثاني، أعني: أنّ عنوان ذي المنفعة لم يوجد قيدا في الموضوع و إنّما هو الذات المجرّدة، و ليس من جزء الوقف أيضا تسبيل المنفعة، و لكن أخذ في حقيقة الوقف كون المتعلّق لا يباع و لا يوهب، فحينئذ من الممكن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 98

ورود التعبّد على خلاف القاعدة بجواز البيع، لكنّ الكلام في إمكان إثباته على القواعد.

فنقول: يظهر من كلام شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- إمكانه،

قال- قدّس سرّه-: و لو سلّم أنّ المأخوذ في الوقف إبقاء العين فإنّما هو مأخوذ فيه من حيث كون المقصود انتفاع البطون به مع بقاء العين و المفروض تعذّره هنا، انتهى.

و الظاهر أنّه- قدّس سرّه- أراد إتمام المطلب على نحو المطلوبين المترتّبين، فأخذ التقييد بالمنع في الرتبة الأولى فقط، فإذا تعذّر الانتفاع الذي هو الشرط في المطلوب الأوّل فهنا مطلوب آخر و هو وقف متعلّق بأصل الماليّة غير مأخوذ فيها شخص المال، و على هذا لا إشكال في إمكان الإتمام على القاعدة، و لكن الشأن في استظهار ذلك من مقام الوقف، فإنّ طروّ حالة الخراب و السقوط عن الانتفاع غالبا مغفول عنه في نظر الواقف.

فإن قلت: كيف ذلك و المنظور هو الثبات و الدوام، و مع فرض كون العين غالبا معرضا للآفات و الخراب و السقوط عن الانتفاع كيف يصير ذلك مغفولا عنه في نظره؟

قلت: كما أنّ انتفاء أصل الموضوع رأسا مثل موت الحيوان لا يمنع عن ملاحظة التأبيد فيكون تأبيدا في طرف الموضوع، كذلك الحال بالنسبة إلى انتفاء وصف الانتفاع.

قال شيخنا الأستاذ- أطال اللّٰه تعالى أيّام إفاضاته الشريفة-: يمكن اختيار وجه آخر للتطبيق على القاعدة و هو أن يقال: إنّ الواقف قد أنشأ الوقف معلّلا بغرض انتفاع البطون، فالتقييد مأخوذ في داعيه لا في مرحلة إنشائه، كما أنّ المشتري للدواء مثلا إنّما ينشئ المعاملة بعليّة تسكين دائه لكن في الثاني لا يوجب

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 99

تخلّف هذا الداعي، كما لو فرض عدم تسكين دائه

بشرب الدواء، بطلان البيع، و ذلك لأنّ المفروض أنّه أنشأ المعاملة مطلقة، و الشارع في دليل صحّة المعاملة قد أمضى نفس إنشائه من دون مدخليّة لغرضه في إمضاء الشارع.

و هذا بخلاف الحال في الوقف فإنّ إمضاء الشرع قد تعلّق بفعل المنشئ مع كونه معلّلا بمثل غرضه، فإنّ الشارع إنّما يمضي الوقف لكونه من سبل الخيرات و الصدقة الجارية التي ينتفع به الواقف حيّا و ميّتا، فإذا انسلخ عنه هذا العنوان انفكّ إنشاء المنشئ عن الإمضاء و ليس هذا تقييدا في الإمضاء و إنّما هو التعليل و قد بيّن الفرق بينهما في محلّه.

و الفرق بين التعليل في إنشاء الشرع و التعليل في إنشاء غيره أنّ غيره ربّما يتوهّم جهلا مركّبا فاقدا لعلّة واجدا لها فينشأ فيه المعلول من البيع مثلا مبنيّا على هذا الاعتقاد الخطائي، و لكنّ الشارع حيث إنّه عالم بالغيب يختصّ إنشاؤه بموارد وجود العلّة لا غير، فلو فرض أنّ العلّة التي صارت في البيع علّة لإنشاء البائع كانت علّة لإمضاء الشارع بأن كان الشارع متابعا لأغراض المعاملين، لكان اللازم هو الحكم بالبطلان عند تخلّف الداعي فيها أيضا، و لكنّ ثبت فيها أنّ الشارع إنّما يلاحظ إنشاءهم دون أغراضهم، و المفروض أنّ الإنشاء مطلق، غاية الأمر مبنيّا على الاعتقاد الخطائي.

و بالجملة: لا إشكال في إمكان هذا الوجه و تماميّته ثبوتا، إنّما الكلام في مرحلة الإثبات و أنّ إمضاء الشرع معلّل بغرض الواقف على وجه يستكشف من عدمه عدم الإمضاء لا على سبيل الحكمة، و لم يستبعد شيخنا الأستاذ- دام أيّام بقاه- استظهاره بملاحظة تسميته في الأخبار بالصدقة الجارية و أنّ الشارع إنّما يراعي نفع عباده فتأمّل و أمّا قوله- عليه السلام-: الوقوف على حسب

ما يوقفها أهلها

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 100

فالمقصود إمضاء الكيفية المرسومة بعد الفراغ عن خيرية أصل موضوع الوقف، ثمّ بعد زوال لون الوقفيّة فبقاء ملكيّة الموقوف عليه و جواز التصرّفات الناقلة يكون الكلام فيهما ما تقدّم حرفا بحرف.

و إن قلنا: بالمبنى الأخير من عدم أخذ المنفعة لا في الموضوع و لا في المحمول و عدم أخذ المنع عن المعاملة في مفهوم الوقف و إنشائه، فالمانع عن البيع حينئذ منحصر في الأدلّة المانعة مثل لا يجوز شراء الوقف، و يمكن دعوى انصرافها عن هذه الصورة فيكون جواز البيع فيها على طبق القاعدة، هذا بحسب مقام الثبوت و التصوّر.

و أمّا مقام الإثبات فقال شيخنا الأستاذ- أطال اللّٰه أيّام إفاداته الشريفة-:

الظاهر مأخوذيّة قيد الانتفاع و الحبس بمعنى المنع عن التصرّفات الناقلة كليهما في حقيقة الوقف، أمّا الثاني فقد اتّضح ممّا تقدّم، و أمّا الأوّل فلأنّ الظاهر أنّ الوقف عبارة عن فعلين تحليليين يوجدان بإنشاء واحد، أحدهما ملحوظ مقدّمة و توطئة للآخر، أحدهما: حبس العين، و الثاني: إطلاق المنفعة، فالأوّل، أعني: الحبس، إنّما هو ملحوظ تبعا و مقدمة لأن تصل المنفعة إلى جميع البطون، فالجزء الأعظم فيه هو تسبيل المنفعة لا أن يكون حاله كالبيع فتكون ملكيّة المنافع تبعا لملكيّة العين.

و من هنا لو كانت العين مسلوبة المنفعة إلى مدّة لكونها مستأجرة يشكل صحّة وقفه إلّا مشروطا، و هذان الجزءان مندمجان و موجودان بإنشاء واحد، و لازم ذلك أن يكون الموضوع هو العين المقيّدة بكونها ذات منفعة، إذ هو القابل لهذا المحمول الإنشائي البسيط المنحل إلى جزئين، فتصير العين التي في ضمن هذا المقيّد متّصفة بالحبس، و المنفعة متّصفة بالإطلاق.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 101

و إن

شئت قلت: العين المقيّدة بالمنفعة تصير عينها محبوسة و منفعتها مطلقة، و من هنا إذا زال التسبيل بالخراب و السقوط عن الانتفاع لم يبق الحبس، إذ المفروض أنّه ليس الفعلان منحازين في الإنشاء فليست القضيّة الإنشائيّة عبارة عن حبّست العين و سبّلت الثمرة، بل هي عبارة عن قوله: وقفت هذه العين، فكلّ من الجزئين المندمجين في وقفت، وارد على العين المقيّدة، فبارتفاع القيد يرتفع الوقف بكلا جزئية.

و هذا بخلاف الحال في باب البيع حيث إنّ نقل المنفعة تبع لنقل العين و ليس فعلا مستقلّا بإنشاء مستقل، فالعين في حال المنفعة تقع موضوعا لا بقيدها، بل و كذا الحال في وصف الماليّة التي هي صفة منتزعة للعين من ملاحظة المنافع، فلا يلزم بطلان البيع بزوال الماليّة، فإنّ المبيع إنّما هو الدار و الكتاب و الفرس و سائر الأشياء بعناوينها الأوّليّة لا بما هي مال، و معنى تفسيره بمبادلة مال بمال: لزوم كون مورده مالا لا أن يكون وصف الماليّة ملحوظا في ينظر المنشئ قيدا، نعم وصف الماليّة و المنافع ملحوظ في الداعي و الغرض.

و أمّا كيفيّة ملك البطون للمنفعة، فهي أنّ المنفعة الحاصلة في مدّة عمر كلّ طائفة جعلت مسبّلة على هذه الطائفة، فالمنافع المقسطة على الأزمان جعلت كلّ قطعة منها مقدّرة بقدر عمر كلّ طائفة ملكا لتلك الطائفة، و من هنا ليس لها إجارة العين في مدّة تزيد عادة عن عمرها.

و أمّا ملك العين، فحيث إنّه غير قابل للتقسيط و التبعيض بحسب أجزاء الزمان، فلا يمكن إنشاء ملكيّة الرقبة في مدّة عشرة أيّام مثلا، فنقول: الملك هنا أيضا كسائر الأبواب غير مقدّرة بزمان، بل الملكيّة مطلقة و لكنّ المنشئ جعل وصف انتقاله بموت الطائفة الأولى

إلى الثانية في منشئه، فكما أنّ ملك الأب غير

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 102

مقدّر بزمان و مع ذلك بالموت ينتقل إلى الابن بالجعل الشارعي، كذلك هنا، غاية الأمر أنّ الانتقال و التلقّي في كلّ بطن من سابقه يكون بالجعل المالكي.

و حينئذ فكلّ ما كان مجعولا بإنشاء المنشئ فاللازم- حيث إنّ الفرض تقييد إنشائه بالمنفعة بل كونها جزءا رئيسا فيه- هو أن يزول بزوال المنفعة و هو المجعول الواحد الذي هو الوقف المنحلّ إلى حبس العين بمعنى المنع عن التصرّفات الناقلة و التسبيل، و ما كان هذا الإنشاء علّة لانتزاعه و حدوثه، و هو الإضافة الملكيّة إلى العين و إلى المنفعة فهو مستصحب البقاء، حيث إنّ الملكيّة و إن كانت غير الماليّة و لهذا ليس حطب الصحراء ملكا مع كونه مالا، لكنّها ليست منتزعة إلّا عن إضافة تامّة شخصيّة إلى المال، فإذا صار المال مضافا إلى شخص خاص فهذا منشأ لانتزاع الملكيّة.

فنقول: الواقف أوّلا نزع الإضافة عن نفسه بالكليّة، لأنّ هذا حال من صار بصدد وقف ماله مؤبّدا فلهذا لا يعود إليه بعد بطلان الوقف بواسطة الأدلّة الاجتهاديّة بأن يقال: القدر المتيقّن تقييدها بحال الوقف، بل قد عرفت أنّه لا يمكن نزع الملكيّة المادامي و إعطائها، فتقطيع الملكيّة بالأدلّة بعد نزع المالك لها رأسا لا وجه له.

ثمّ بعد هذا النزع أعطاها في العين و المنفعة على النحو الذي مرّ للموقوف عليهم، فالعرف من هذا النزع و الإلصاق ينتزع الملكيّة في العين و المنفعة لا أنّ إحداث ملكيّتهما من فعل المنشئ و بإنشائه حتى يقال يلزم ارتفاعها بارتفاع ما جعله قيدا في موضوعهما من المنفعة و لا مجال مع هذا لاستصحابهما كما في أصل الوقفيّة.

و

حينئذ فحيث إنّ من الممكن بقاء هذا المنتزع و لو كان منشأ انتزاعه زائلا،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 103

بأن كان حال المنشأ هنا حال الماء المتغيّر بالنسبة إلى عرض النجاسة حيث إنّ قيد التغيّر علّة محدثة لا مبقية، فكذلك هنا أيضا العين الموقوفة صارت ملكا بالطريق المتقدّم، فمن الممكن كون قيد الموقوفيّة علّة محدثة لا مبقية، فإذا جاء هذا الاحتمال كان المجرى للاستصحاب.

لا يقال: على ما ذكرت من أنّ المنشأ هو الإضافة المطلقة بالنسبة إلى العين لا المقيّدة بمدّة العمر، فما دامت العين معمورة لم يجز للبطن الأوّل البيع، لمنافاته مع الحبس الذي فرض في مدلول الوقف. و أمّا إذا صارت خربة و بطل الوقف و الحبس الذي في ضمنه فما المانع حينئذ من بيع هذه الطائفة الأولى لأنفسهم و أكلهم ثمنه، كما أنّ الأب يجوز له البيع و لا يلزم عليه رعاية الابن.

لأنّا نقول: لإنشاء الواقف أثران: سلطنة قويّة للبطن الأوّل تسمّى ملكا، و ضعيفة للبطن اللاحق تسمّى حقّا، و هي حقّ أن يبقى العين فيتلقّاها من البطن الأوّل، إذ هذا أيضا شي ء ينتزعه أهل العرف، و به يمتاز عن مسألة الأب و الابن، فكما نستصحب الملكيّة للبطن الأولى كذلك نستصحب الحقّ للطائفة اللاحقة، و ليس هذا الاستصحاب محكوما للأدلّة الاجتهادية المقتضية لتسلّط الملّاك على أموالهم و نفوذ تصرّفاتهم في أموالهم، فإنّ الموضوع فيها أموال أنفس الملّاك لا حقوق سائر الناس ممّن عداهم، فالمنع عن التصرّف لكونه في متعلّق حقّ الغير ليس تخصيصا في تلك القواعد بل خروج موضوعي.

و على فرض التنزّل و كون ذلك تخصيصا فيها بواسطة قوله: «لا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال الغير إلّا بإذنه» و ما يشابهه، فالاستصحاب

أيضا جار لكونه منقّحا لموضوع الدليل المخصص. و بالجملة: الاستصحاب إمّا مخرج للموضوع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 104

عن أفراد العام، و إمّا مدخل له في أفراد الخاص، و على كلّ حال ليس محكوما بالعام.

ثمّ إنّك عرفت أنّ العين بعد الخراب تصير بواسطة الاستصحاب كما قبل الخراب في كون رقبتها ملكا لهذه الطائفة و منتقلة بعد الموت إلى اللاحقة و المنفعة ملكا طلقا للطائفة الأولى تصرفها في منافع نفسها، و كذلك منافع زمان الطبقة الثانية ملك طلق لهم، و هكذا، فلا بدّ أن يكون البدل في المعاوضة عينا ذات منفعة حتّى يصير بهذا المنوال من ملكيّة الرقبة و طلقية المنفعة، إذ ليس النقد قابلًا لذلك، لعدم المنفعة له، إذ كلّ نماء حصل من الاتّجار به فلا بدّ من احتسابه من رأس المال و لا يجوز صرف البطن الموجود له في مصالحهم، لأنّ فيه حقّ جميع البطون كالمبدل، لأنّه عوض للمبدل الذي هو كان كذلك، فلا بدّ من تبديل النقد على فرض المعاوضة به بالعين ذات المنفعة، نعم يمكن أن يكون الصلاح في البيع بالنقد و إبقائه مدّة و الاتّجار به و احتساب النماء من رأس المال إلى أن يتمكّن من شراء العين ذات المنفعة.

ثمّ العين المشتراة- كما عرفت- تصير بنفس الشراء ملكا للبطون على نحو كان الثمن ملكا لهم، و على هذا فما قاله بعض من إجراء صيغة الوقف على هذه العين لا وجه له، إذ يصير من قبيل الوقف على النفس الذي ادّعي الإجماع على بطلانه، و الأصل فيه قبله أنّ من المسلّم كون الوقف صدقة و لا معنى لصدقة الشخص على نفسه، فلا تتحقّق حقيقة الصدقة إلّا مع تعذّر المعطي و المعطى

له.

ثمّ إنّ المتصدّي لهذا البيع لا يجوز أن يكون هو متولّي الوقف، إذ المفروض

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 105

أنّ متعلّق توليته أمور مخصوصة من إيصال الموقوف عليهم و ليس منها البيع و نحوه فهو كالوكيل في جهة خاصّة ليس له تصدّي غير تلك الجهة.

نعم لو فرض الجزم بالمراتب في الوقف بأن يكون المنشئ أنشأ الوقف في فرض وجود المنفعة و أنشأ الاختصاص في أصل المالية بعد انتفائها أمكن القول بأنّ وظيفة المتولّي ثلاثة أمور: إيصال المنافع، و البيع، ثمّ إيصال المنافع، لكنّ الجزم بهذا مشكل بل لا يبعد الجزم بخلافه.

فرع لو خرب بعض الوقف و خرج عن الانتفاع و بقي بعضه محتاجا إلى عمارة لا يمكن بدونها انتفاع البطون اللاحقة

فهل يصرف ثمن المخروب إلى عمارة الباقي و إن لم يرضى البطن الموجود؟

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف-:

وجهان آتيان في ما إذا احتاج إصلاح الوقف بحيث لا يخرج عن قابلية انتفاع البطون اللاحقة إلى صرف منفعته الحاضرة التي يستحقّها البطن الموجود إذا لم يشترط الواقف إخراج مؤنة الوقف عن منفعته قبل قسمته في الموقوف عليهم انتهى.

قال شيخنا الأستاذ- أطال اللّٰه أيّام إفاضاته الشريفة-: في المسألة صور:

الأولى: أن يكون ما يعطى بثمن البعض المخروب مساويا للبعض الباقي في المنفعة، كما لو كان كلّ منهما يؤجر كلّ سنة خمسين تومانا، و حينئذ فالأمر دائر بين صرف الثمن في عمارة البعض الثاني ليطول بقاؤه حتّى تنتفع به البطون اللاحقة من دون أن تزيد منفعته كأن كانت قنواته قريبة من الانطماس فصرف الثمن ليطول بقائها من دون ازدياد مائها و غلّة الأراضي، فيصل على هذا التقدير إلى كلّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 106

من البطن الحاضر و الغائب كلّ سنة خمسين تومانا، و بين صرفه في شراء ما يؤجر كلّ سنة بالأجرة المذكورة فيصل إلى البطن

الحاضر كلّ سنة مائة تومان، خمسين من أجرة البعض القريب الانطماس، و خمسين من أجرة الجديد الابتياع، و يصل إلى الغائب كلّ سنة خمسين تومانا من أجرة الثاني لفرض انطماس الأوّل على تقدير عدم العمارة و عدم بقائه إلى زمانهم، فالصرف في التعمير المذكور إخراج لخمسين تومانا من كيس الموجودين مع عدم تفاوت بحال المعدومين لفرض كون الواصل إليهم على كلّ تقدير خمسين تومانا.

الثانية: أن يكون ما يبتاع بالثمن المذكور أكثر منفعة من الباقي كأن كان أجرة الباقي على تقدير التعمير بالنسبة إلى كلّ من الحاضر و الغائب كلّ سنة عشرة توأمين و ما يبتاع خمسين تومانا، فعلى تقدير الابتياع يصل كلّ سنة إلى الحاضرين ستّين تومانا و إلى الغائبين خمسين تومانا كما هو واضح، و على تقدير التعمير يصل إلى كلّ منهم ستّة عشر تومانا فهذا تفويت لخمسين تومانا من الحاضرين و لأربعين من غيرهم، و الظاهر فيها بين الصورتين عدم مجال لاحتمال جواز التعمير مع عدم رضي الموجودين، و مجرّد صيرورة البعض الباقي- على تقدير التعمير طويل البقاء بعنوان الوقفيّة بخلاف البعض المبتاع حيث إنّه مسلوب عنه العنوان المذكور- لا يصير مجوّزا، فإنّ ما على عهدة المتولّي للوقف حفظه من التخريب لا من الخراب و لو بصرف مال من كيسه أو كيس الغير في تعميره.

الثالثة: أن يكون ما يبتاع أقلّ منفعة من الباقي كأن كان أجرة الباقي على فرض التعمير لكلّ طبقة في كلّ عام مائة تومان و أجرة ما يبتاع عشرة توأمين،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 107

فيدور الأمر بين أن يفوت من الحاضرين كلّ سنة عشرة توأمين ليزيد على منفعة الغائبين تسعون، و بين أن يفوت من الغائبين كلّ سنة تسعون

ليزيد على منفعة الحاضرين عشرة، و الظاهر في هذه الصورة لزوم الصرف في التعمير، و ذلك لأنّ هذا من كبرى ما أستفيد من نفي الضرر من أنّه متى دار الأمر بين ضرر شخص و ضرر آخر و كان أحد الضررين أخفّ كان المتعيّن اختياره، نعم لو كان متوجّها إلى شخص لا يجب على غيره دفعه عنه بإيراده على نفسه بملاك أنّ العباد كلّهم في نظر الشارع كالعبد الواحد.

فنقول في المقام: مجموع الجزء الصحيح و بدل الجزء البائر متعلّق لحقّ مجموع السلسلة الطوليّة المركّبة من البطن الحاضر و من يتأخّر عنهم و قد دار الأمر بين أن يورد الضرر المقدّر بعشرة على هذه السلسلة، و بين أن يورد الضرر المقدّر بالتسعين عليها، فمقتضى مطلوبيّة نفي الضرر عن هذه السلسلة على قدر الإمكان لزوم اختيار الأقلّ، فيلزم على الحاكم القائم مقام المعدومين إلزام الموجودين بصرف الثمن في الجزء الصحيح، و ليس هذا من أشراف حائط إنسان على الخراب حيث لا يلزم إنسان آخر بدفع المال لترميمه، لأنّ الضرر هناك متوجّه إلى الأوّل و لا مساس له بالثاني بخلاف المقام، فإنّ الجزء الصحيح و إن كان لو خلّي و طبعه يخرب و تضرّر به المعدومون فقط.

لكنّ الفرض أنّ هنا مالا موجودا في الخارج و هو بدل الجزء البائر و هو و إن كان ملكا للموجود بلا شركة المعدوم و إنّما يتلقّى منه المعدوم كباب الإرث و لكن ليس أجنبيا صرفا عنه، بل متعلّق لحقوقهم، فتوجّه الضرر إليهم إنّما هو بعد عدم صرف هذا المال الذي فيه لهم حقّ في تعميره و إلّا كان متوجّها إلى الموجود.

و من هنا يتوجّه الإشكال على شيخ أساتيدنا العظام الميرزا الشيرازي

كتاب البيع

(للأراكي)، ج 2، ص: 108

- قدّس سرّه اللطيف- حيث جعل المقام أخيرا في حاشيته على مكاسب شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- من باب توجّه الضرر إلى المعدومين فقط، كما أنّه يتوجّه عليه- قدّس سرّه- في جعله المقام أوّلا من باب دوران الأمر بين محروميّة الطبقة اللاحقة من منافع الجزء الصحيح أو الأولى من بدل الجزء البائر، فلا ترجيح لإحدى الطبقتين على الأخرى فللحاكم القائم مقام الطبقة الثانية اختيار انتفاعهم بمنافع الأولى.

إذ يرد عليه- قدّس سرّه- أوّلا: أنّه ليس المقام من دوران محروميّة إحدى الطائفتين، بل من دوران الأمر بين محروميّة المعدومين فقط أو محروميّتهم و محروميّة الموجودين معا في جميع الصور الثلاث.

اللّهم إلّا أن يفرض أنّ ما يشترى بثمن البائر لا يقبل الإثمار إلّا بعد انقراض الموجودين ثمّ يوازي ثمرته مع ثمرة الجزء الصحيح الموجود حال حياة الموجودين البائر بانقراضهم، إذ حينئذ يتساوى ضرر كلتا الطائفتين، و لكن يرد حينئذ إشكال آخر و هو أنّ ظاهر عبارة شيخنا العلّامة المرتضى أنّ أحد الوجهين لزوم إلزام الحاكم الطبقة الموجودة مع عدم رضاهم و مقتضى ما ذكره جواز ذلك، و ظاهره توجيه أحد الوجهين في هذه الصورة.

ثمّ إنّه لم يعلم وجه لما ذكره شيخنا المرتضى في الفرع الآخر، أعني: ما إذا توقّف انتفاع اللاحقين على صرف المنفعة الحاضرة في تعمير الموقوفة من جريان الوجهين فيه، إذ بعد كون المنفعة ملكا طلقا للموجودين كيف يصحّ إلزامهم بالصرف لأجل أن ينتفع اللّاحقون، و أيّ فرق بين هذا و سائر أموالهم؟ نعم لو شرط الواقف أن يكون أصل تملّك البطون في كلّ زمان للمنافع بعد موته العين فهو مطلب آخر، و حينئذ لا ملكيّة للموجودين أصلا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 109

الصورة الثانية من صور بيع الوقف أن يخرب بحيث يقلّ انتفاعه
اشارة

فإن كان بمثابة يعدّ معدوما فالكلام كما تقدّم حرفا بحرف، و إن كان لا يعدّ معدوما لكن لا يعتدّ به كمزرعة خربت و لكن ما خرجت عن عنوان المزرعيّة، أو دار كذلك لكن فرض قلّة منافعهما بحيث لا يعدّ شيئا معتدا به عرفا، فمع العلم بثبوت التقييد بالمنفعة المعتدّ بها يكون كما تقدّم، و مع العلم بالعدم الموضوع محفوظ و الوقفيّة باقية و لا وجه للجواز، و مع الشكّ نستصحب الوقفيّة لوجود الموضوع العرفي و هذا لا كلام فيه.

إنّما الكلام في ما إذا انعدم عنوان الوقف كما إذا وقف بستانا مثلا ملاحظا في عنوان وقفه البستانيّة فخربت حتّى خرجت عن قابليّة ذلك فإنّه و إن لم تبطل منفعتها أصلا لإمكان الانتفاع بها دارا مثلا لكن ليس من عنوان الوقف، فاختار صاحب الجواهر- قدّس سرّه الشريف- تقوية البطلان في هذا الفرض.

و أورد عليه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بعد مخالفته للإجماع بما لفظه:

أنّه إن أريد بالعنوان ما جعل مفعولا في قوله: وقفت هذا البستان فلا شكّ أنّه ليس إلّا كقوله: بعت هذا البستان أو وهبته، فإنّ التمليك المتعلّق بعنوان لا يقتضي دوران الملك مدار العنوان، فالبستان إذا صار ملكا فقد ملك منه كلّ جزء خارجي و إن لم يكن في ضمن عنوان البستان، و ليس التمليك من قبيل الأحكام الجعليّة المتعلّقة بالعناوين. و إن أريد بالعنوان شي ء آخر فهو خارج عن مصطلح أهل العرف و العلم، و لا بدّ من بيان المراد منه. انتهى المقصود من كلامه- زيد في علوّ مقامه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 110

و حاول السيّد المحقّق الطباطبائي اليزدي في باب الوقف من العروة الوثقى الفرق بين باب البيع و أمثاله- فالعنوان فيها

مأخوذ موردا، فقوله: بعت هذا البستان في قوّة بعت هذا الشي ء- و بين باب الوقف، فالعنوان مأخوذ قيدا و عنوانا للموضوع.

و فيه: أنّه ليس في باب البيع أيضا موردا و إلّا لزم فيما إذا قال: بعتك هذا الفرس، و كان المشار إليه كتابا، أن يصحّ البيع لكونه في قوّة: بعتك هذا الشي ء، فلا فرق بين هذا و بين قوله: بعتك هذا البستان، فظهر كونه عرصة، فإنّه أيضا كالأوّل من تخلّف المبيع.

قال شيخنا الأستاذ- أطال اللّٰه تعالى أيّام إفاداته الشريفة-: إنّ الحقّ مع صاحب الجواهر من أنّه إن علم أنّه أراد وقف البستان على وجه المورديّة كما إذا قال وقفته لينتفع به على حسب ما يصله من المنفعة في كل زمان فلا يضرّ تغير العنوان و إن علم أنّه أراد ذلك على وجه التقييد كما إذا قال: وقفته لينتفع بثمره، فتغيّره موجب لبطلان الوقف، و العنوان في البيع و إن كان قيدا لا على وجه المورديّة و لكن مع ذلك انتفائه لا يوجب بطلان الملكيّة هناك و يوجب الخروج عن الوقفيّة هنا.

توضيح الفرق: أنّ الملكيّة المنشأة في البيع غير قابلة للتأبيد و لا التوقيت بغاية معيّنة، فإنّ المنشئ إنّما ينشئ الملكيّة في الخارج كما يسوّد الجسم، و أمّا كونها دائما أو موقّتا إلى زمان كذا، فليس يتأثّر من قبل إنشائه، و حينئذ فما هو الوظيفة في ذاك الباب إنّما هو إحداث أصل الملك فإذا علّق على عنوان فاللازم تحقّق هذا العنوان في زمان الإحداث فقط.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 111

فإن قلت: كما يمكن في طرف المالكيّة تعليقها بالعنوان مع عدم قابليّتها للتأبيد و التوقيت كما في ملك الفقير أو العالم في الوقف بحيث إذا انسلب

العنوان انسلبت المالكيّة، فأيّ مانع من أن يكون الحال في طرف المملوكيّة كذلك؟

قلت: لا بدّ من مراجعة أهل العرف و نحن نراهم يعتبرون المملوكيّة المنشأة في أبواب العقود كالمالكيّة فيها كالأعراض القائمة بالجسم كالسواد و البياض حيث إنّ إحداثها و لو كان بملاك عنوان خاص، مع ذلك يبقى بعد زوال ذلك العنوان، و يعتبرون المالكيّة و المملوكيّة في غير تلك الأبواب، أعني: ما كان بتعبّد من الشرع أو بانتزاع من العرف عقيب إنشاء شي ء آخر كالوجوب و سائر الأحكام في القابليّة للقيام بالعنوان، فكما أنّ وجوب الإكرام قابل للقيام بعنوان العالم، كذلك وصف المالكيّة و المملوكيّة المذكورتين في نظرهم و اعتبارهم.

هذا حال البيع، و أمّا الوقف فهو قابل للتأبيد و للتوقيت بناء على صحّة الوقف المنقطع الآخر، فالمنشئ إنّما ينشئ تحبيسا مطوّلا بطول الزمان بحيث يكون استمراره في كلّ آن من تأثير إنشائه، فحال تمام أزمنة وجود الوقفيّة هنا حال زمان حدوث الملكيّة هناك، فكما كان اللازم ثبوت العنوان في ذلك الجزء هناك يلزم هنا في جميع الأجزاء.

فإن قلت: يمكن كون الوقفيّة و الحبسيّة كالملكيّة غير قابلة للقيام بالعنوان و إنّما يقوم بالأجزاء الخارجيّة للمعنون.

قلت: المدّعى عدم كونها بحسب الخارج و اعتبار العقلاء كالملكيّة و قبولها للقيام بالعنوان كوجوب الإكرام، و حاصل المقام أنّ البابين مشتركان في لزوم ثبوت العنوان حال فعل المنشئ، لكنّ الفرق أنّ فعل المنشئ هناك فعل واحد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 112

كالتسويد و هنا بمنزلة أفعال عديدة بعدد أبعاض الزمان، و من هنا يكون الشكّ في الملكيّة المنشأة في العقود أبدا منحصرا في الشكّ في المزيل و الرافع بخلاف الحبسيّة، فإنّ الشكّ فيها ممكن من جهة المقتضي و من

جهة الرافع.

و حاصل ما ذكر هو الفرق بين أخذ الانتفاع في الموضوع- كما في الصورة الأولى فإنّه لا يقع إلّا على وجه واحد-، و بين أخذ العنوان الآخر كالبستانيّة مثلا فيه كما في هذه الصورة، فإنّه يقع على وجهين:

أمّا الأوّل: فلأنّ الوقف كما عرفت تحبيس العين و تسبيل الثمرة دائما و هذا المحمول لا يحمل إلّا على المعنون بالانتفاع بما هو معنون دون الذات المجرّدة، و حينئذ فإذا زال كلا الجزئين فزال التحبيس لأجل جواز البيع، و كذا التسبيل لأجل ارتفاع المنفعة فكيف يبقى المعنى المذكور، أعني: التحبيس و التسبيل الدائمين الموجودين في كلّ وقت.

و أمّا الثاني: فلأنّ عنوان البستانيّة يمكن أن يلاحظه الواقف موردا كما قال:

وقفت هذا البستان حسب ما يقبله من الانتفاع في كلّ زمان، و يمكن أن يلاحظه موضوعا و على وجه القيديّة كما قال: وقفته ليأكلوا من ثمره.

أمّا القسم الأوّل فلا كلام فيه، و أمّا الثاني فحاصل الفرق بينه و بين البيع حيث إنّ العنوان فيه إذا أخذ قيدا لا يبطل بزواله، ألا ترى أنّه لو أشار إلى جزئي خارجيّ و قال: بعتك هذه الحنطة فبان دقيقا كان باطلا، و هذا دليل كونه قيدا لا موردا كما في المقام، و مع ذلك لا تخرج الحنطة بصيرورتها دقيقا و خبزا عن ملكيّة المشتري بخلاف المقام، حيث إنّه هنا يوجب زوال الوقفيّة أنّ الملكيّة التي هي المنشأة هناك مطلقة و بلا قيد من الدوام و التوقيت، فالذي يوجد باختيار المنشئ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 113

و ينشأ بإنشائه إنّما هو حدوث الملك، فالمعتبر وجود العنوان حال الحدوث، و أمّا بعده فانسلاب العنوان و إن كان يوجب صيرورته موضوعا آخر كحال الحدوث لكن

لا يوجب ارتفاع الملكيّة؛ لأنّها في البقاء لا يدور مدار إنشاء المنشئ حتّى يلاحظ القيد الذي اعتبره. بل إنشائه المتعلّق بالمقيّد علّة عرفا لعروض الملكيّة على ذات المقيّد فمع انتفاء القيد حال الحدوث لا يتقيّد حتّى تعرض الملكيّة ذاته و بعد وجوده في هذا الحال و معروضيّة الذات يصير القيد في مرحلة البقاء ملغى.

فإن قلت: على هذا لو صرّح المنشئ بالدوام و قال: ملّكتك هذا البستان مثلا دائما يلزم بطلان التملّك بزوال البستانيّة.

قلت: نعم و لكن قيد الدوام غير ممضى للشرع. و الحاصل: أنّ الملكيّة في جميع أبواب العقود التي مضمونها إنشاء الملك ليست إلّا مطلقة، و ليس بقاؤها من فعل المنشئ، فلهذا زوال العنوان في مرحلة البقاء لا يضرّ، فلو قال: بعتك هذا العباء أيّها العالم، على وجه كانت العالميّة قيدا فليس المعتبر إلّا العالميّة في ذاك الحين.

نعم في غير أبواب العقود المنشأة للملك، أعني: ما إذا حصل بتعبّد من الشرع كحصولها بالإحياء أو بانتزاع من العرف عقيب إنشاء المنشئ أمرا آخر كما اخترناه في باب الوقف حيث إنّه ليس إنشاء التمليك و إنّما هو إنشاء الحبس و التسبيل، و هو منشأ لانتزاع الملكيّة لا مانع من الملكيّة الموقّتة المغيّاة بزوال العنوان، فيمكن كون الأرض المحياة بوصف المحيائيّة ملكا للمحيي، كما أنّ العالم في باب الوقف أو الحيّ، بما هما كذلك معروضان للتملّك، ففي غير باب العقود يمكن الشكّ في الملكيّة من جهة المقتضي و أمّا في ذاك فمنحصر في الشك من جهة المزيل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 114

هذا حال البيع، و أمّا الوقف فبعد اشتراكه معه في قيديّة العنوان كما هو المفروض في هذا القسم يفترق معه في أنّ الدوام هنا أيضا

جزء من المنشأ و داخل فيه، فحال البقاء و الحدوث كليهما هنا حال الحدوث وحده هناك، فكما كان المعتبر ثبوت العنوان في مرحلة الحدوث فقط هنا- لأنّ المقدار الذي كان الأمر تابعا لإنشاء المنشئ إنّما هو الحدوث فقط- يكون المعتبر هنا ثبوته في كلتي مرحلتي الثبوت و البقاء، لأنّ البقاء هنا أيضا كالحدوث تابع للإنشاء.

فقول القائل: وقفت هذا البستان، في هذا القسم ينحلّ إلى إنشاءات بعدد أجزاء الزمان كلّ منها معلّق بعنوان البستانيّة، نعم لو قيّد العنوان بالحاصل منه حال الإنشاء بأن قال: وقفت هذا البستان، أعني: المتّصف بالبستانيّة حال الوقف و سبّلت منفعته دائما، فتغيير العنوان لا يضرّ، لأنّ عنوان البقاء أيضا هو العنوان الحدوثي.

و أمّا لو جعل الوقف و الدوام على موضوع البستان فالمعتبر بقاء البستانيّة في جميع الأزمان، و لا فرق في ذلك بين اعتبار الدوام قيدا للربط أو للحبس الذي هو المربوط، أعني قال: جعلت البستان دائما حبسا، أو قال: جعلته حبسا مخلّدا دائميّا.

أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فلأنّه مثل قولنا: الضرب الدائمي أو المغيّى بعشرة أيّام لهذا العالم واجب على وجه كانت العالميّة قيدا، فكما لا شبهة أنّ الحكم الإيجابي يزول بزوال العالميّة في أثناء المدّة فكذلك قولنا: الحبس الدائمي جعلته و أنشأته في هذه الأرض معلّقا بعنوان البستان.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 115

و ما ربّما يتوهّم أنّ هذا النحو من الوقف مناف مع التأبيد المعتبر فيه، ففيه:

أنّ المعتبر عدم التوقيت لا التأبيد و إلّا فيلزم بطلان وقف ما لا يقبل الأبديّة، كالحيوان، و إن شئت قلت: المعتبر هو التأبيد في فرض وجود الموضوع و هذا المعنى موجود هنا كما هو واضح.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر- قدّس سرّه الشريف-

بعد ما ذكر ذلك قايس المقام بالوصيّة قبل موت الموصي و قبول الموصى له، فكما أنّه لو زال عنوان الوصيّة كالبستانيّة يوجب بطلان الوصيّة كذلك في المقام، فأورد عليه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه اللطيف- بأنّ المناسب أن يقايس المقام بالوصيّة بعد تمامها بموت الموصي و قبول الموصى له، فكما لا يوجب زوال العنوان هناك زوال الوصيّة فكذلك في المقام.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاضاته العالية-: إنّ المناسب لتأييد مرامه هو الوصيّة قبل التمام، و ذلك لأنّ الإيجاب ما لم يلحقه القبول يعتبر بقاء العنوان المعتبر فيه إلى حين حصول القبول ليتوافق القبول مع الإيجاب و يتواردا على موضوع واحد، فباب الوصيّة بين إيجابها و قبولها في الدوران مدار الإنشاء و المتابعة له حاله حال المقام في جميع الأزمان، و أمّا بعد تمام القبول فيخرج الإنشاء عن المؤثّرية في ذاك الباب، فلهذا لا يؤثّر زوال العنوان شيئا، فحينئذ يصير أجنبيّا عن المقام، فالمناسب بالمقام منها إنّما هو ما بين إيجابها و قبولها، و تخصيص الوصيّة من بين سائر العقود مع جريان ذلك في الجميع هو ما تعارف فيها دون سائر العقود من الفصل الطويل غالبا في ما بين إيجابها و قبولها، فتدبّر.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 116

و هنا فروع
الأوّل: لو كثر في الطبقات المتأخّرة عدد الموقوف عليهم

كالأولاد، إلى حدّ يكون الواصل إلى الواحد منهم من غلّة الموقوفة مثلا في القلّة إلى حدّ لا يعدّ مالا كحبة حنطة، و أقلّ كما لو كان تمام غلّة الموقوفة عشرين منّا مثلا و بلغ عدد الأولاد إلى آلاف ألوف، فهل يلحق هذا بصور سقوط الأرض عن القابلية للانتفاع أو لا؟

الظاهر الأوّل، فإنّ نظر الواقف إلى انتفاع الأولاد المفقود في الفرضين، فالوقفيّة زائلة بزوال الموضوع.

و أمّا جواز البيع و

الانتفاع بالثمن و أكل الطبقة الحاضرة إيّاه فيمكن أن يقال: إنّه ما لم يصل إلى حدّ كان حاله حال المثمن في كثرة القلّة عند التوزيع يجوز ذلك فيبادرون بالبيع قبل بلوغ عدد الأولاد إلى حدّ كان حال الثمن أيضا كذلك، أو يقال: إنّ ترجيح هذه الطبقة على من لحقهم ممّن حالهم كحالهم في ما ذكر ليس بأولى من العكس، و إذن فيؤخّر البيع إلى طبقة تغلب على الظن صيرورة الثمن بعد انقراضهم في القلّة كالمثمن.

أمّا أصل الجواز، فلأنّه مقتضى الملكيّة و عدم الوقفيّة، و أمّا صرفهم الثمن في حوائجهم، فلأنّ المانع منه كان تعلّق حقّ البطون اللاحقة و المفروض انتفائه بانتفاء المتعلّق، فإنّ حقّهم كان متعلّقا بالانتفاع من الموقوفة عينا أو بدلا و المفروض انتفاء ذلك في حقّهم، و يمكن أن يجعل هذا محملا لروايتي جعفر بن حنان و الاحتجاج الآتيتين فيخرجا بذلك عن مخالفة الإجماع و القواعد فتأمّل.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّه لا ينافي بقاء حقّ أن يصيروا ذوي حقّ الاختصاص؛ إذ لا شبهة في أنّه لو لم يبع العين إلى زمانهم ليسوا كسائر الناس بالنسبة إليها، بل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 117

لهم حقّ اختصاص، فإنّه حينئذ كما إذا كان تركة الميّت درهما واحدا و كان عدد الورثة إلى ما شاء اللّٰه.

الثاني: لو غصب العين غاصب و لم يمكن الاستيفاء منه إلّا بالبيع منه فهل يجوز أو لا؟

الظاهر الثاني، لعدم المجوّز سوى توهّم أنّه مع عدم البيع تبقى العين في يده لا يمكن انتزاع نفسها و لا أجرة منافعها من يده، فينحصر انتفاع الموقوف عليهم في الحكم الشرعي بضمان الغاصب لأجرة المنافع، و هذا ليس انتفاعا و لكن لا يصلح هذا مجوّزا بعد فرض قابليّة نفس العين للانتفاع و قابليّة الموقوف عليهم أيضا لذلك، و إنّما المانع

عن الانتفاع حصل بقسر خارجي.

الثالث: لو خربت العين بحيث سقطت عن انتفاع الموقوف عليه بالمرّة،

كمزرعة انطمست قنواتها بالمرّة و لم يكن من يقدم بتعميرها فغصبها غاصب، و أحياها بإجراء ماء له من مكان بعيد إليها ثمّ امتنع إلّا من البيع منه، فهل هذه الصورة أيضا كالسابقة في عدم المجوّز، أو يجوز البيع منه هنا بملاحظة سبق الخراب و الخروج بسببه عن الوقفيّة؟ الظاهر الأوّل؛ فإنّ الأرض بعد ما كانت خربة و لا يتعلّق بها أجرة، صارت بفعل الغاصب متعلّقة للأجرة، فقد عادت إلى صفة الانتفاع بعد السقوط عنها و تعود الوقفيّة بعود ذلك كما تعود الزوجيّة بحياة أحد الزوجين أو كليهما بعد الموت بالإعجاز، و كحياة الحيوان المملوك بعد الموت كذلك، فإنّ هذا بنظر العرف يعدّ من إعادة المعدوم، فيقولون: هذا عين الذي كان لها في السابق ذاتا و خاصيّة و أثرا.

الصورة الرابعة أن يكون بيع الوقف أنفع و أعود للموقوف عليه

و ظاهر المراد منه أن يكون

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 118

ثمن الوقف أزيد نفعا من المنفعة الحاصلة تدريجا مدّة وجود الموقوف عليه، و زيادة النفع قد تلاحظ بالنسبة إلى البطن الموجود بأن يأكلوا الثمن، و قد يلاحظ بالنسبة إلى جميع البطون إذا قيل بوجوب شراء بدل الوقف بثمنه.

و الأقوى- وفاقا لشيخنا المرتضى قدّس سرّه الشريف- المنع في كلتا الصورتين، لوجود المقتضي و هو الوقفيّة و عدم ما يصلح للمنع عدا رواية الحسن ابن محبوب عن عليّ بن رئاب عن جعفر بن حنان «قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السلام- عن رجل وقف غلّة له على قرابته من أبيه و قرابته من أمّه، و أوصى لرجل و لعقبه ليس بينه و بينه قرابة بثلاثمائة درهم في كلّ سنة و يقسم الباقي على قرابته من أبيه و قرابته من أمّه؟ فقال: جائز للذي أوصى له بذلك، قلت:

أ رأيت إن لم يخرج من غلّة الأرض التي وقفها إلّا خمسمائة درهم؟ فقال: أ ليس في وصيّته أن يعطي الذي أوصى له من الغلّة ثلاثمائة درهم، و يقسّم الباقي على قرابته من أبيه و قرابته من أمّه؟ قلت: نعم، قال: ليس لقرابته أن يأخذوا من الغلّة شيئا حتى يوفوا الموصى له ثلاثمائة درهم، ثمّ لهم ما يبقى بعد ذلك، قلت: أ رأيت إن مات الذي أوصى له؟ قال: إن مات كانت الثلاثمائة درهم لورثته يتوارثونها بينهم، فأمّا إذا انقطع ورثته فلم يبق منهم أحد كانت الثلاثمائة درهم لقرابة الميّت يردّ ما يخرج من الوقف، ثمّ يقسّم بينهم، يتوارثون ذلك ما بقوا و بقيت الغلّة، قلت:

فللورثة من قرابة الميّت أن يبيعوا الأرض إن احتاجوا و لم يكفهم ما يخرج من الغلّة؟ قال: نعم إذا رضوا كلّهم و كان البيع خيرا لهم باعوا «1».

و الخبر المروي عن الاحتجاج أنّ الحميري كتب إلى صاحب الزمان- عليه السلام

______________________________

(1)- الوسائل: ج 13، الباب 6، في أحكام الوقوف و الصدقات، ص 306، ح 8.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 119

و عجّل اللّٰه فرجه-: روي عن الصادق- عليه السلام- خبر مأثور: إذا كان الوقف على قوم بأعيانهم و أعقابهم فاجتمع أهل الوقف على بيعه و كان ذلك أصلح لهم أن يبيعوه فهل يجوز أن يشتري من بعضهم إن لم يجتمعوا كلّهم على البيع أم لا يجوز إلّا أن يجتمعوا كلّهم على ذلك، و عن الوقف الذي لا يجوز بيعه؟ فأجاب- عليه السلام-: إذا كان الوقف على إمام المسلمين فلا يجوز بيعه و إذا كان على قوم من المسلمين فليبع كلّ قوم ما يقدرون على بيعه مجتمعين و متفرّقين إن شاء

اللّٰه تعالى «1».

بناء على أنّ الجواب بواسطة الاحتفاف بالسؤال عن صورة الأصلحيّة لا يعمّ غيرها، نظير قوله- عليه السلام-: «اعزل فمك عن موضع الفضّة» عقيب السؤال عن الشرب من الإناء المفضّض «2».

و ليس هذا من باب القدر المتيقّن في مقام التخاطب الذي قلنا في الأصول بعدم مضرّيته بالأخذ بالإطلاق و أنّ خصوصيّة المورد لا يخصّص الوارد كما إذا قال: أكرم العالم، عقيب السؤال عن زيد مع إحراز شرائط الأخذ بالإطلاق، بل إمّا من باب القرينة أو ما يصلح للقرينيّة.

ثمّ على فرض عموم الجواب يتقيّد بمفهوم رواية جعفر بالأصلحيّة، و اعتبار رضي الكلّ في رواية جعفر إنّما هو في صورة بيع تمام الوقف لا من باب اعتباره في بيع كل واحد بقرينة رواية الاحتجاج، فتحصّل من الروايتين اشتراط الخيريّة و الأصلحيّة فقط دون أمر زائد من وصف الاجتماع و غيره، فينطبق على المدّعى من الجواز مشروطا بزيادة نفع الثمن على المنفعة التدريجية الحاصلة مدّة وجود الموقوف عليه، هذا.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 13، الباب 6، في أحكام الوقوف و الصدقات، ص 306، ح 9.

(2)- المصدر نفسه: ج 2، الباب 66، من أبواب النجاسات، ص 1086، ح 5.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 120

و حاصل ما أجاب عن هذا الاستدلال إمام الفنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف- أنّه أوّلا: سلّمنا أنّ المراد من الخيريّة في الأولى و الأصلحيّة في الثانية زيادة النفع على الوجه الذي ادّعيت، لكن في رواية جعفر زيادة قيد آخر و هو الاحتياج و عدم كفاية الغلّة لمئونة سنة الموقوف عليه، لأنّ السائل قال: لهم أن يبيعوا إن احتاجوا و لم يكفهم إلخ؟ فقال الإمام- عليه السلام-: نعم، يعني لهم ذلك إن احتاجوا و لم يكفهم

و زاد- عليه السلام- على ما فرضه السائل شرطا آخر و هو الخيريّة، فالمتحصّل أنّ الجواز مشروط بأمرين، و بهذا يتقيّد رواية الحميري أيضا فتباين مدلول الروايتين مع المدّعى بالعموم و الخصوص.

و ثانيا: ليس المراد من الخير ما ذكرت من زيادة نفع الثمن من المنفعة التدريجية للمثمن، بل المراد منه:

إمّا مطلق النفع و الصلاح الذي يلاحظه الفاعل عند إرادة الفعل و لو لم يكن نفعا ماليّا، و حينئذ فليس مراد الإمام- عليه السلام- بيان اعتبار ذلك تعبّدا، بل المقصود بيان الواقع الذي فرضه السائل، فجعل- عليه السلام- خصوصيّة الحاجة و عدم الكفاية ملغاة و ملحوظة من باب كونها أحد مصاديق مطلق النفع بالمعنى المذكور، و حينئذ فمعين الرواية ممّا لا يقول به أحد، و هذه الدعوى جارية في الأصلح الواقع في رواية الاحتجاج أيضا كما هو واضح.

و إمّا النفع الخاص الذي فرضه السائل، أعني: رفع الحاجة فيكون الأصلح في الأخرى أيضا متقيّدا بهذه الرواية بالفرد الخاص من الأصلح، أعني: ما كان أصلح لأجل رفع الحاجة لا لأغراض أخر يتصوّر للبائعين، فعلى هذين يباين مدلول الروايتين مع مقصود المستدل بالمرّة كما هو واضح، هذا حال الاستدلال

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 121

بالروايتين للدعوى المذكورة.

و أمّا الاستدلال برواية جعفر لدعوى جواز البيع لو لحق الموقوف عليه ضرورة شديدة إلخ، و هذا الاستدلال مبنيّ على المعنى الثالث، أعني: أن يراد بالخير النفع الخاص الذي هو رفع الحاجة التي فرضها السائل، فأجاب- قدّس سرّه- بأنّ مفاد الرواية على هذا اعتبار الفقر الشرعي و هو عدم مالكيّة قوت السنة و هو غير الضرورة الشديدة، و النسبة بينهما عموم من وجه، إذ ربّ فقير شرعي يكون في السعة لوجدانه من

الزكاة أو الخمس أو غير ذلك من مال الفقراء، و ربّ غنيّ شرعي يتّفق له في بعض الأوقات الضرورة و الحاجة الشديدة، كما إذا أكرهه الظالم بدفع مال خطير لا يتمكّن فعلا منه إلّا ببيع مال الوقف و كان الظالم أوعده بالقتل مثلا.

هذا مع أنّه قد يقال: إنّ ظاهر الجواب كفاية مطلق النفع الذي هو المعنى الثاني بإلغاء خصوصيّة الاحتياج فتباين المدّعى رأسا.

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- نقل عن المختلف و جماعة الجواب عن الاستدلال برواية جعفر للمدّعي الأوّل، أعني: البيع بشرط الأنفعيّة بالمعنى المتقدّم بعد تسليم انطباق مفاد الرواية على المدّعى المذكور بأنّه لا ظهور فيها في المؤبّد، بل يمكن حملها على المنقطع بملاحظة ذكر القرابة بدون ذكر أعقابها.

فأجاب- قدّس سرّه-: بأنّ الاقتصار في مقام الحكاية لا يدلّ على الانقطاع، و حينئذ فترك استفصال الإمام- عليه السلام- مع قابليّة السؤال و احتماله لكلّ من التأبيد و الانقطاع دليل على اشتراكهما في الحكم، هذا جملة ما أفاده شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف- في المقام.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 122

و قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته العالية-: إنّ التكلّم في الرواية في مقامين، أحدهما: في دفع ما يتوهّم من الإشكال على صورة الوقف فيها، و الثاني:

في تطبيق الحكم فيها على وجه يخرج عن الإجماع على الخلاف.

أمّا المقام الأوّل: فقد يستشكل في ما فرضه السائل من الوقف على القرابة، ثمّ الوصيّة للرجل الأجنبي بثلاثمائة درهم بأنّ الوصيّة المذكورة لا يصحّ جعلها من الوصيّة المصطلحة و لا من الوقف، إذ يلزم على الأوّل أن يكون مقدار من الأرض يحصل منه ثلاثمائة درهم باقيا على ملك الواقف حتّى تتعلّق الوصيّة به و يكون الوقف متعلّقا بما عداه، و هذا

المقدار أمر كلّي قد ينطبق على كلّ الأرض إذا كان تمام المحصول ثلاثمائة درهم، و قد ينطبق على النصف إذا كان ستّمائة، و قد ينطبق على الثلث إذا كان تسعمائة، و هكذا يختلف بزيادة المحصول و نقصانه، و لازم كلّية المستثنى كلّية المستثنى منه الذي هو الموقوف، و هذا مناف مع ما اشترطوا في الوقف من كون متعلّقه عينا، و احترزوا بذلك عن أمور ثلاثة: الدين و الكلّي و الجزئي المردّد، و بعين هذا يستشكل لو جعلت الوصيّة المذكورة من باب الوقف و الجواب بالتزام كونها شرطا على الموقوف عليهم و الوقف متعلّق بتمام الأرض، إلّا أنّه قد اشترط عليهم إعطاء المقدار المذكور للأجنبي.

أمّا المقام الثاني: فنقول تارة بكون قول السائل «و لم يكفهم» معطوفا على قوله: «احتاجوا» بالواو فيكون لبيان حدّ الاحتياج، و ينطبق على ما فهمه الشيخ المرتضى- قدّس سرّه الشريف- من عدم الكفاية لمئونة السنة الذي هو حدّ الفقر الشرعي، و حينئذ فيجي ء في الرواية جميع ما ذكره- قدّس سرّه- في قبال كلتا الدعويين، و أخرى يكون معطوفة بكلمة «أو» كما هو الموجود في بعض النسخ.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 123

و حينئذ فيمكن أن يقال: إنّ المراد من قوله: «احتاجوا» هو مطلق الحاجة و هو غير الفقر الشرعي، فإنّه كما أفاده- قدّس سرّه- يجتمع مع إمكان التوسّل لرفع الحاجة بل إلى التوسعة بمال الفقراء، و معنى الحاجة على وجه الإطلاق أن لا يكون محيص و مخلص سوى بيع مال الوقف و هذا ينطبق على الضرورة الشديدة، فإنّه يقال في من لا يملك شيئا ينفقه في قوته و سدّ رمقه و ليس له وسيلة إلى تحصيله بوجه من الوجوه إلّا بيع الوقف

و صرف الثمن في شراء ذلك: إنّه محتاج إلى البيع بقول مطلق، و لو فرض أنّ له طريقا آخر للتخلّص لا تصدق الحاجة إلى خصوص البيع كذلك حتى لو كان الطريق الآخر بيع ما يستثني في الدين من الدار و أثاث البيت و غير ذلك.

و هكذا يقال لمن شدّد الأمر عليه دائنه أو الظالم و لم يمهلاه، و لا هو قادر على الاستقراض و انحصر طريق الخلاص في بيع الوقف، و منه يعلم استفادة قيد الشدّة أيضا، فإنّ الحاجة الجزئيّة لا يحوج الإنسان و لا يلجئه إلى البيع لأنّه يقدر على تركها و الإغماض عنها أيضا، فالإلجاء إنّما يتحقّق مع عدم إمكان الإغماض عنها و لا وجدان طريق آخر لرفعها و إنجاحها، هذا هو الكلام في الفقرة الأولى.

و أمّا الثانية، أعني: قوله: «لم يكفهم ما يخرج من الغلّة» فيمكن أن يقال: إنّه حيث لم يذكر متعلّق عدم الكفاية فإنّه قد يضاف إلى مؤنة السنة فيقال: هذا المال لا يكفي لمئونة السنة، فلا ينافيه كفايته لمئونة ستّة أشهر مثلا، و قد يضاف إلى مؤنة شهر فلا ينافي الكفاية لما دونها، و هكذا إلى أن يصل إلى أقل مراتب الكفاية و هو الكفاية لإطعام الشخص في مجلس واحد، فالسلب الكلّي للكفاية إنّما يصدق إذا انتفى جميع هذه المراتب، ضرورة عدم صدق السلب الكلّي مع الإيجاب

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 124

الجزئي، و هذا منحصر في ما إذا لم تسقط الأرض عن قابليّة الانتفاع في حدّ ذاتها كما هو مفروض السؤال في ما إذا تعدّد أفراد القرابة الموقوف عليهم في بعض الطبقات المتأخّرة إلى حد صار سهم كلّ إنسان منهم مثقالا من الحنطة مثلا.

فلو فرض أنّ أبانا

آدم- على نبيّنا و آله و عليه السلام- وقف على أولاده نسلا بعد نسل قرية مثلا فغلّة تلك القرية في أمثال هذه الأزمنة التي بلغ عدد أولاده إلى آلاف ألوف كيف يكفيهم؟ فيصدق أنّه بقول مطلق مسلوب الكفاية، فإنّ ما يصل إلى كلّ شخص منهم لا يفي بشي ء من حوائجه حتى أكله واحدة، و على هذا فالرواية مشتملة على ذكر مجوّزين لبيع الطبقة الموجودة و أكلهم الثمن، أحدهما الضرورة الشديدة و الآخر عدم الكفاية بالنحو المذكور.

فيكون المراد بالخيريّة في الرواية ما هو المعروف من معناه من عدم ملاحظة معنى التفصيل فيه أو ملاحظته بالنسبة إلى الترك، و يكون المعنى أنّ خيرهم منحصر في البيع و لا خير آخر سواه فيكون بيانا لما يفرضه السائل من الفرضين، فيكون إطلاق الأصلح في رواية الاحتجاج أيضا متقيّدا بهذا المعنى، و لهذا فصل في الجواب بين الوقف على إمام المسلمين- حيث إنّ واحدا من الأمرين لا يتّفق في حقّه- و بين الوقف على قوم من المسلمين بأعيانهم و أعقابهم، و يكون رضي الكلّ في الرواية الأولى كما أفاده- قدّس سرّه- محمولا على فرض الاجتماع في البيع لا من باب اعتباره في بيع كلّ واحد بقرينة رواية الحميري، فإنّها ناظرة و شارحة للمراد منها، و حيث إنّ بيع المال الموقوف و أكل ثمنه مناف مع تعلّق حقّ اللاحقين فيستكشف انتقاله و صيرورته ملكا طلقا للبائعين آنا ما قبل البيع هذا.

بقي في المقام ما حكاه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- عن المختلف و جماعة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 125

من حمل الرواية على الوقف المنقطع، فإن كان المقصود منه الوقف على خصوص الطبقة الموجودة، فيردّه أنّه خلاف نصّ الإمام- عليه السلام-

في قوله: «فأمّا إذا انقطع ورثته» إلى قوله- عليه السلام-: «يرد ما يخرج من الوقف ثمّ يقسّم بينهم يتوارثون ذلك ما بقوا و بقيت الغلّة» فإنّ معناه أنّ الجميع حينئذ وقف و ذلك لارتفاع الشرط بارتفاع موضوعه، و التقسيم بينهم إنّما هو في مال الوقف، و قوله: «يتوارثون ذلك» معناه توارث هذا الذي ذكره من تقسيم الوقف مع حفظ الوقفيّة و ليس المراد هو الإرث الشرعي كما هو واضح.

الصورة الخامسة أن يشترط الواقف بيعه عند الحاجة

أن يشترط الواقف بيعه عند الحاجة أو إذا كان فيه مصلحة البطن الموجود أو جميع البطون، أو عند مصلحة خاصّة على حسب ما يشترط

قال في الإيضاح في وجه المنع: إنّ الوقف للتأبيد و البيع ينافيه، قال: و الأصحّ أنّه لا يجوز بيع الوقف بحال، و عن المحقّق الكركي- قدّس سرّه اللطيف- أنّ كلّ موضع قلنا بجواز بيع الوقف يجوز اشتراط البيع في الوقف إذا بلغ تلك الحالة؛ لأنّه شرط مؤكّد و ليس بمناف للتأبيد المعتبر في الوقف لأنّه مقيّد واقعا بعدم حصول أحد أسباب البيع، و إلّا فلا للمنافاة فلا يصلح حينئذ حبسا، لأنّ اشتراط شراء شي ء بثمنه يكون وقفا مناف لذلك، لاقتضائه الخروج عن المالك فلا يكون وقفا و لا حبسا.

و قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه اللطيف- ما حاصله: إنّه يمكن التمسّك بجواز البيع في هذه الصورة بعموم «الوقوف» و عموم «المؤمنون»

أمّا أوّلا: فلأنّ التحقيق أنّ جواز البيع لا يبطل الوقف بل هو وقف يجوز بيعه، فإذا بيع خرج عن الوقفيّة، فهذا الشرط ممّا يجتمع مع مفهوم الوقف و حقيقته،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 126

فالعمومان شاملان له.

و أمّا ثانيا: فلأنّه لو سلّم منافاة الجواز لمقتضى عقد الوقف فإنّما المنافي بيعه للبطن الموجود و أكل

ثمنه و أمّا تبديله بوقف آخر فلا تنافي بينه و بين مفهوم الوقف، فمعنى كونه حبسا كونه محبوسا من أن يتصرّف فيه بعض طبقات الملّاك على نحو الملك الطلق، و أمّا حبس شخص الوقف فهو لازم لإطلاقه و تجرّده عن مسوّغات الإبدال شرعيّة كانت كخوف الخراب، أو بجعل الواقف كالاشتراط في متن العقد فتأمّل.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته العالية-: إنّ الكلام هنا في مقامين:

الأوّل في تتميمه على حسب القواعد، و الآخر في حكمه حسب الدليل الخاص، أمّا الأوّل فنقول: تارة يعتبر في الوقف الحبس و أخرى التمليك، و على كلّ تقدير إمّا مؤبّد و إمّا موقّت، فإن قيل بالأوّل فإن كان الملحوظ في الإنشاء التأبيد فالشرط المذكور، أعني: شرط البيع عند حصول كذا، الراجع إلى عدم الحبسيّة عنده يعدّ مع إنشاء أصل الحبس المؤبّد من المتناقضين في القصد و لا يمكن اجتماعهما في عالم الإنشاء؛ إذ يمتنع توجّه القصد نحو الحبس في جميع الأزمان و نحو عدمه في زمان كذا بدون رجوع الثاني إلى الاستثناء من الأوّل.

و إن كان مرجع الشرط إلى الاستثناء لبّا فمعناه إنشاء الحبس للبطون إلى حصول الحاجة مثلا، و على تقدير الحصول إنشاء عدمه فهذان الإنشاءان فرضيّان و ليسا من الشرط الاصطلاحي الذي هو الالتزام المندرج تحت التزام آخر و المنضمّ معه كالالتزام بالخياطة في عقد البيع و إنّما هما نظير الالتزام بالبيع في تقدير، و الالتزام باللابيع في تقدير آخر.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 127

و حينئذ فيسقط كلّ من دليلي الوقوف و الشروط عن قابليّة الاستدلال لنفوذ هذا الشرط، أمّا الأوّل، فلأنّه من الاستدلال بدليل نفوذ الوقف على نفوذ اللاوقف و دليل نفوذ البيع على نفوذ اللابيع، و

أمّا الثاني فلأنّه مبنيّ على الاستدلال به في نفوذ الشروط الابتدائيّة، لأنّ هذا الشرط على ما عرفت ليس شرطا ضمنيّا، لأنّه عبارة عن الالتزام باللاوقفيّة في تقدير قبال تقدير الالتزام بالوقفيّة فلم يجتمع الالتزامان في تقدير كالالتزام بالبيع أو الخياطة.

و من هنا يظهر الكلام إن قيل بالثاني، لأنّه إمّا أن ينشأ ملكيّة الطبقات في ظرف وجودهم و ما اعتبر فيهم من الأوصاف كالعلم و الفقر و نحو ذلك، و بعبارة أخرى يجعل الملازمة بين تحقّق الوجود مع الأوصاف و بين ملكيّتهم، فإنشاء لا ملكيّتهم في فرض الوجود و الأوصاف إن لم يرجع إلى الاستثناء يعدّ مع الأوّل من المتناقضين في الإنشاء لا يمكن توجّه القصد إليهما، و إن رجع إلى الاستثناء فمعناه تشقيق فرض الوجود و الأوصاف إلى حالة حصول الحاجة لمن يقدم و حالة عدمه، فجعل الملازمة في الأولى و ما جعلها في الثانية، فيجي ء فيه ما تقدّم من عدم إمكان التمسّك لنفوذه بشي ء من دليلي الوقف و الشرط.

فإن قلت: يتمسّك لنفوذ حدّ الوقف و الانتهاء إلى حصول الحاجة بدليل الوقف أو الشرط.

قلت: إن كان المقصود أنّ المنشأ هو الوقفيّة المقيّدة، فهذا خلاف الفرض حيث لم يتعلّق الإنشاء بالحبس أو التمليك الموقّت، بل هنا إنشاءان، أحدهما تعلّق بمطلق الحبس أو التمليك، و الآخر بنقيضهما في تقدير خاص، و مرجع الثاني على أحد الوجهين إلى الاستثناء لبّا، و معنى ذلك أنّه لاحظ تقدير وجود البطون

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 128

المعدومة و سائر ما اعتبر فيهم من الأوصاف فجعل الملازمة في تقدير و نقيضها في تقدير، لا أنّه جعل الملازمة الخاصّة مع أنّه على ما فرضت من كون المنشأ مقيّدا لا وجه للتمسّك بدليل

الشرط، لأنّه وقف موقّت ابتدائي و لا ربط له بدليل الشرط.

بقي الكلام في أمرين الأوّل: في ما ذكره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف-، قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته العالية-: ليس مراده- قدّس سرّه- التفرقة بين حبس الجامع و هو أصل الماليّة و حبس الفرد، ضرورة أنّ متعلّق الحبس هو التصرّفات الناقلة من البيع و الصلح و غيرهما، و لا يردّ ذلك إلّا على العين الخاصّة دون الجامع بينها و بين إبدالها، بل الظاهر أنّه أراد التفكيك بين التصرّفات في العين الخاصّة بعد الفراغ عن تعلّق الحبس بها.

فتارة يقصد بحبس هذه العين محبوسيّتها عن جميع التصرّفات الناقلة حتّى مثل تبديلها بشي ء آخر مثلها يقوم مقامها، و أخرى يراد حبسها عن خصوص التصرّفات المالكيّة في الأملاك الطلقة بأن يباع و يؤكل ثمنه، فإذا تعلّق الحبس بالعين فقيل جعلت هذه العين محبوسة، فمقتضى إطلاق الحبس هو المحبوسيّة عن جميع أنحاء التصرّف، و إذا قيّد عند حصول الحاجة مثلا بيعه، فهذا تقييد للحبسيّة بخصوص القسم الثاني، و يكون هذا الشرط منافيا لإطلاق الحبس لا لأصله، فإطلاقه بالنسبة إلى غير تقدير الحاجة مراد و بالنسبة إلى هذا التقدير يقصد الحبسيّة الخاصّة فيحتاج هذا إلى إنشائين.

و هذا يرد عليه أنّ اللازم منه جواز الحبس بهذا النحو من ابتداء الأمر و الظاهر أنّهم لا يلتزمون به، لأنّ الوقف عندهم حبس الأصل و تسبيل الثمر و ليس

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 129

الربح و لا ثمر البدل ثمرا للأصل و إلّا لجاز وقف النقود، نعم عند العرف يعدّ ربح النقود مثلا فائدة و منفعة لها و لكنّ التعبّد الشرعي على خلافه.

فإن قلت: كيف يعدّ الربح منفعة و يجوز معاملة المنفعة معه

بأن يتصرّف فيه الطبقة الموجودة و ينتفعون به و الحال أنّ قضيّة المبادلة مقابلة كلّ جزء من المبدل بالبدل و بالعكس، فكما كان المبدل ملكا للموجودين و حقّا للآخرين كذلك البدل بجميع أجزائه فلا يصير الربح ملكا طلقا للموجودين، حتّى أنّه لما لم يتصوّر في باب المبادلة غير ذلك نلتزم في باب المضاربة بأنّ الربح بتمامه ينتقل إلى المالك ثمّ مقدار الشرط يتلقّاه العامل من المالك لا أنّه من الابتداء ينتقل من المشتري إليه؟

قلت: يمكن لرفع هذا المحذور العقلي الالتزام بأنّ الواقف قد جعل في إنشائه حقّ الآخرين، بحيث بعد ما تعلّق بتمام البدل قضيّة للمبادلة كان في مقدار الزائد عن القيمة الواقعيّة للمبدل ساقطا و يصير ذلك المقدار ملكا طلقا للموجودين.

و بالجملة: هذا المعنى لا بأس في تصويره لكنّ الشرع منع منه و لم يجوّز هذا النحو من الوقف و اعتبر تسبيل المنافع الحاصلة من نفس الأصل مع بقاء عينه، و هذا يكشف عن أنّ حقيقة الوقف هو الحبس المطلق أو ملزوم له، اللّهم إلّا أن يفرّق بين الابتداء و الاستدامة و يقال: حيث إنّ الدليل على ذلك ليس إلّا الإجماع فالمتيقّن منه الوقف الابتدائي، و لكن يبعده أنّه إذا فرض أنّ حقيقة الوقف عند الشارع تسبيل المنفعة الحاصلة من شخص الأصل، فمن البعيد أن يختلف ذلك في الابتداء و الاستدامة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 130

الثاني: في الرواية الظاهرة في جواز اشتراط البيع في الوقف لنفس البطن الموجود فضلا عن البيع لجميع البطون و صرف ثمنه في ما ينتفعون به،

و قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-: السند صحيح و التأويل مشكل و العمل أشكل.

و محلّ الاستشهاد فقرتان، الأولى: «فإن أراد- يعني الحسن- عليه السلام-

أن يبيع نصيبا من المال فيقضي به الدين فليفعل إن شاء لا حرج عليه فيه» و الثانية:

«و إن كان دار الحسن بن علي- عليهما السلام- غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها فليبعها إن شاء لا حرج عليه فيه، فإن باع فإنّه يقسّم ثمنها ثلاثة أثلاث فيجعل ثلثا في سبيل اللّٰه و يجعل ثلثا في بني هاشم و بني المطلب و يجعل ثلثا في آل أبي طالب- عليه السلام- و أنّه يضعه فيهم حيث يراه اللّٰه» الرواية «1». فإنّ احتمال كون ذلك على وجه الوصيّة لا الوقف خلاف قوله- عليه السلام-: و أنّ الذي كتبت من أموالي هذه صدقة واجبة بتلة حيّا أنا أو ميّتا.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: أمّا الفقرة الأولى: فليس بذلك البعيد أن نحملها على المنفعة، يعني يبيع شيئا من المنفعة كما أنّ قوله- عليه السلام-: «و ليأكل منه بالمعروف» ظاهر في المنفعة، فيكون هذا الشرط لأجل أنّه يجوز له مزاحمة الشركاء في هذين الموضعين، أعني: الأكل منه بالمعروف و البيع لأداء الدين، و لولا هذا الشرط لما كان له- عليه السلام- التجاوز عن قاعدة الشركة.

و أمّا الثانية: فأوّلا ظاهر ذكر الاسم الظاهر عقيب أداة الشرط ثمّ ذكر الضمير في الجزاء أن يكون هذا الضمير راجعا إلى تلو الشرط لا إلى تلو تلوه، مثلا

______________________________

(1)- الوسائل: ج 13، الباب 10، في أحكام الوقوف و الصدقات، ص 312، ح 4.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 131

لو قال: إن جاءك زيد بن عمرو فأكرمه، الظاهر رجوع الضمير في «أكرمه» إلى زيد لا عمرو، و هكذا إن قال: إن كانت دارا لزيد جنب دار عمرو فخرّبوها، فالظاهر رجوعه إلى دار زيد لا دار

عمرو، و هكذا في مقامنا قوله- عليه السلام-: «و إن كان دار الحسن بن علي- عليهما السلام- غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها فليبعها إن شاء لا حرج عليه فيه» ظاهر في رجوع ضمير أن يبيعها إلى دار الحسن- عليه السلام- لا إلى دار الصدقة، غاية الأمر أنّ لهذا مبعدين:

أحدهما: أنّه من قبيل توضيح الواضح، الثاني: قوله: «فإن باع فإنّه يقسّم ثمنها ثلاثة أثلاث إلخ»؛ فإنّ دار الحسن- عليه السلام- يصير ثمنها ملكا لنفسه- عليه السلام-، و يمكن رفع كليهما.

أمّا الأوّل: فلأنّ الكلام ليس مسوقا لإفادة صرف بيع الدار، بل لما هو الغالب في مثل هذا المورد من أنّ الإنسان إذا كان له دار مملوكة و كان هنا دار صدقة كان هو أحد الموقوف عليهم، فإذا باع داره المملوكة لا محالة ينتقل إلى تلك الدار الموقوفة و لا يشتري دارا آخر مع وجودها، فالكلام منزّل على هذا الغالب، فكأنّه قال: إن أراد بيع داره و ينتقل إلى دار الصدقة فلا حرج عليه، فرفع الحرج، إنّما هو بالنسبة إلى الجزء الثاني الذي يكون البيع توطئة له، أعني: الانتقال لدفع توهّم أنّ دار الصدقة مخصوصة بمن لا دار له.

و أمّا الثاني: فلأنّ من الممكن حمل ذلك على الاشتراط، يعني: أنّ جواز انتقاله إلى دار الصدقة بعد بيع الدار مشروط ببذله ثمن داره في المصارف الثلاثة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 132

الصورة السادسة أن يؤدّي بقاؤه إلى خرابه علما أو ظنّا و الخراب قد يكون للتخلّف بين الأرباب و قد يكون لغيره

و أيضا قد يكون بمعنى التلف و انعدام كلّية المنفعة، و قد يكون بمعنى زوال المنفعة المعتدّ بها، و قد يكون بمعنى نقص المنفعة، و قد يكون بمعين زوال المنفعة المقصودة من الوقف مع جواز الانتفاع على غير ذلك الوجه، إمّا مساويا معه، و إمّا

أزيد، فهل يجوز البيع في جميع هذه الصور، أو لا في جميعها، أو أنّ هنا تفصيلا بين الصور المذكورة؟

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف-: الأقوى الجواز مع تأدية البقاء إلى الخراب على وجه لا ينتفع به نفعا معتدّا به عرفا سواء كان لأجل الاختلاف أو غيره و المنع في غيره من جميع الصور، أمّا الجواز في الأوّل فلما مرّ من الدليل على جواز بيع ما سقط عن الانتفاع، فإنّ الغرض من عدم البيع عدم انقطاع شخصه، فإذا فرض العلم أو الظنّ بانقطاع شخصه، فدار الأمر بين انقطاع شخصه و نوعه و بين انقطاع شخصه لا نوعه، كان الثاني أولى فليس فيه منافاة لغرض الواقف أصلا.

و أمّا الأدلّة الشرعيّة فغير ناهضة لاختصاص الإجماع و انصراف النصوص إلى غير هذه الصورة، و أمّا الموقوف عليهم فالمفروض إذن الموجود منهم و قيام الناظر العام أو الخاص مقام غير الموجود.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته العالية-: قد نتكلّم في المسألة على مبني شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في المسألة السابقة و قد نتكلّم على ما اخترناه، أمّا على الأوّل أعني: عدم منافاة جواز البيع مع عنوان الوقف فنقول: إن كانت

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 133

الأولوية التي أشار إليها هنا و في ما تقدّم في مسألة السقوط عن الانتفاع أولويّة قطعيّة، نقطع بعدم رضي الشارع بخلافها.

فيرد عليه- قدّس سرّه- أنّه لا يفرق الحال بين عموم الأدلّة المانعة عن بيع الوقف للمقامين و انصرافها، إذ على فرض العموم كانت مقطوعة التخصيص بواسطة هذا الأمر المقطوع به، و إن كانت غير قطعيّة يحتمل خلافها تعبّدا فمع عدم عموم الأدلّة المذكورة نرجع إلى استصحاب عدم جواز البيع، فما ذكر- قدّس سرّه- سابقا

من قوله: و به يعني بهذا الدوران يندفع استصحاب المنع محلّ منع على هذا التقدير و على التقدير الآخر صحيح، و لكن تمسّكه بانصراف الأدلّة محلّ الخدشة لما ذكر.

و أمّا نحن، فقد اخترنا هناك أنّ لون الوقفيّة يرتفع بحدوث الجواز فلا موقع للأدلة لارتفاع الموضوع، نعم الاستصحاب المذكور متحقّق الأركان، و لكن أجبنا عنه بأنّ العمومات الاجتهادية من قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ «1» و نحوه قاضية بالجواز و لا يرد الإشكال بأنّه فرع العموم الأزماني و هو محلّ منع في هذه العمومات.

وجه عدم الورود أمران: الأوّل: أنّ الرجوع إلى الاستصحاب في صورة عدم العموم الأزماني إنّما هو في صورة عدم كون إخراج الفرد الخارج عن تحت العام بعنوان التقييد، كما لو قال: أكرم العلماء، و قيّد ذلك في كلام آخر بالعدول فخرج زيد في يوم الجمعة عن العام الأوّل للفسق ثمّ صار عادلا يوم السبت، فلا يشكّ أحد في الرجوع إلى العام حينئذ من غير ابتناء على العموم الأزماني، و مقامنا من هذا القبيل، لأنّ الخارج عن أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ هو المال الموقوف و قد خرج المال

______________________________

(1)- البقرة/ 275.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 134

عن هذا العنوان حسب الفرض بواسطة السقوط عن الانتفاع و ارتفاع الموضوع الذي هو العين المنتفع بها.

و الثاني: أنّ المقام من قبيل تخصيص فرد و التمسّك بالعام في دخول فرد آخر، و بعبارة أخرى التمسّك إنّما هو بالعموم الأفرادي لا الأزماني، و ذلك لأنّ فرد البيع الصادر حال بقاء الوقفيّة غير فرده الصادر بعد زوالها، و هما فردان من العام الذي هو البيع في قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ. هذا هو الكلام على مبنانا في المسألة السابقة.

و أمّا في

هذه المسألة التي تكون العين باقية على الانتفاع مشرفة على السقوط، فلون الوقفيّة أمّا مقطوع البقاء و معنى الوقفيّة عدم جواز البيع كما عرفت، و إمّا مشكوكة فيرجع إلى استصحابها، و لا يرد على هذا الاستصحاب ما ورد على ما تقدّم، لأنّ هذا من استصحاب عنوان المخصّص مثل استصحاب عنوان الفاسق في المثال المتقدّم و لا شبهة في أنّه لا مجال معه للرجوع إلى العام، فينحصر الوجه على هذا المبنى لتصحيح البيع في صورة بطلان الوقفيّة، و هو منحصر في دعوى القطع بأنّ الأولويّة المتقدّمة لا يرضى الشارع بخلافها الكاشفة عن أنّ حدّ إمضاء الشارع إنّما هو العلم أو الظنّ بالتأدية المذكورة، بالتقريب المتقدّم من الفرق بين البيع و الوقف، بعدم متابعة غرض الشارع في الأوّل لغرض البائع و متابعته في الثاني لغرض الواقف بقرينة كونه صدقة جارية، فإن أمكن هذه الدعوى جرى جميع ما تقدّم من الكلام حرفا بحرف و إلّا فلا محيص عن الاستصحاب المذكور.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 135

الصورة السابعة أن يؤدّي بقاء إلى خرابه علما أو ظنّا، و الأداء إلى الخراب قد يكون للخلف بين أربابه و قد يكون لا له

و الخراب المعلوم أو المخوف قد يكون على حدّ سقوطه من الانتفاع نفعا معتدّا به و قد يكون على وجه نقص المنفعة، و أمّا إذا فرض جواز الانتفاع به بعد الخراب بوجه آخر كانتفاعه السابق أو أزيد فجواز بيعه مبنيّ على ما تقدّم من أنّ تغيّر عنوان الوقف مسوّغ، و عن عبائر جماعة تجويز البيع في صورة التأدية إلى الخراب و لو لغير الاختلاف و عن أخرى تقييدهم به.

الصورة الثامنة أن يقع بين الموقوف عليهم اختلاف لا يؤمّن معه تلف المال أو النفس

و ان لم يعلم أن يظنّ بذلك، و استظهر من بعض العبائر جوازه لذلك خصوصا من عبّر بالاختلاف الموجب لخوف الخراب.

الصورة التاسعة أن يؤدّي الاختلاف بينهم إلى ضرر عظيم

من غير تقييد بتلف المال فضلا عن خصوص الوقف.

الصورة العاشرة أن يلزم فساد يستباح منه الأنفس

و الكلام هنا في مقامين، الأوّل في مقتضى القواعد مع قطع النظر عن النصّ الخاص، و الثاني في ما هو مقتضى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 136

النصّ الخاص.

أمّا الأوّل: فاختار شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف- التفصيل بين القسم الأوّل من الصورة السابعة، أعني: التأدية علما أو ظنّا إلى خراب الوقف بسقوطه عن الانتفاع المعتدّ به سواء كان للاختلاف أم لغيره، فالجواز، و بين القسم الثاني أعني: التأدية إلى خرابه بنقصان منفعته، و جميع الصور الثلاثة الأخيرة فالمنع.

أمّا الجواز في الأوّل: فلما مرّ من الدليل على جواز بيع ما سقط عن الانتفاع و هو عدم كون الجواز منافيا لحقّ اللّه و لا حقّ الواقف و لا حقّ الموقوف عليه، أمّا الأوّل؛ فلعدم نهوض الأدلّة الشرعيّة على المنع في هذه الصورة لاختصاص الإجماع و انصراف العمومات إلى غير هذه الصورة، و أمّا الثاني؛ فلأنّ غرض الواقف من عدم البيع عدم انقطاع شخص الوقف، فإذا فرض العلم أو الظن بانقطاع شخصه فدار الأمر بين انقطاع شخصه و نوعه و بين انقطاع شخصه لا نوعه، كان الثاني أولى و أقرب بغرض الواقف، و أمّا الثالث؛ فلأنّ المفروض إذن الموجودين منهم و قيام الناظر العام أو الخاصّ مقام المعدوم منهم، ثمّ ذكر بعض فروع مزاحمة حقّ الموجود و حقّ المعدوم.

و أمّا المنع في الثاني فأوّلا: لاستصحاب المنع الثابت قبل طروّ هذه الحالة، و ثانيا: لعموم الأدلّة الشرعيّة من قوله- عليه السلام-: «لا يجوز شراء الوقف» و غيره.

و أورد عليه شيخنا الأستاذ- دام ظلّه- بالنسبة إلى ما أفاد في تقريب الجواز في القسم الأوّل أوّلا: أنّ مقتضى ما مرّ من الدليل

هو دوران الجواز مدار واقع التأدية إلى الخراب و لو لم يعلم أو يظن، و ظاهر المشهور كون الوصفين موضوعين كما في الخوف في الصوم و في باب التيمّم. و ثانيا: ما الدليل على حجّية هذا الظنّ؟

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 137

إلّا أن يقال: إنّه من باب الانسداد الصغير حيث إنّ المقام ممّا يتعسّر حصول العلم فيه، فلو اقتصر عليه لزم الوقوع في المخالفة كثيرا، و ثالثا: كما كان استصحاب المنع جاريا في القسم الأخير لو لا إطلاق الأدلّة فما المانع من جريانه في هذا القسم بعد أن سلّم عدم إطلاق الأدلّة فيه.

و الحاصل: أنّ الترديد و الدوران المذكور في كلامه- قدّس سرّه- في تقريب عدم المنافاة مع فرض الواقف إن كان في حدّ ذاته يورث القطع كما ربّما يشعر قوله- قدّس سرّه- في ما تقدّم بعد ذكره، و به يندفع استصحاب المنع بأنّ انقطاع الاستصحاب حسنا و لا وجه للتمسّك بانصراف الأدلّة؛ إذ لو فرض إطلاقها أيضا كانت مقطوع التخصيص، و إن لم يكن بهذه المثابة كما ينادى بذلك ما أورده على استدلال المختلف و التذكرة و المهذّب و غاية المرام حيث ذكر: إنّه ليس دليلا في حدّ ذاته.

و العمدة منع جريان أدلّة المنع فلا وجه لعدم العمل بالاستصحاب مع تسليم قصور إطلاق أدلّة المنع، هذا هو الكلام على مبني شيخنا المرتضى من عدم كون المنع داخلا في حقيقة الوقف.

و أمّا على هذا المبنى الذي تقدّم اختياره فالمتّبع هو استصحاب الوقفيّة الملزومة لعدم جواز البيع في جميع الصور المذكورة، و هذا على خلاف الحال في مسألة ما إذا سقط عن الانتفاع، فإنّ الوقف هناك بطل ببطلان الموضوع و لم يبق إلّا استصحاب عدم

الجواز و قد كان محكوما لعمومات الجواز و لا حكومة لها على الاستصحاب هنا؛ لأنّه من باب استصحاب عنوان المخصّص و ذاك من استصحاب حكمه، فلهذا كان المرجع هناك العمومات و هنا الاستصحاب.

المقام الثاني: في الكلام في مكاتبة ابن مهزيار المنقولة في الكتب الأربعة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 138

قال: «كتبت إلى أبي جعفر الثاني- عليه السلام- أنّ فلانا ابتاع ضيعة فأوقفها و جعل لك في الوقف الخمس و يسأل عن رأيك في بيع خصّتك من الأرض أو تقويمه على نفسه بما اشتراها به أو يدعها موقوفة؟ فكتب إليّ: أعلم فلانا أنّي آمره ببيع حصّتي من الضيعة و إيصال ثمن ذلك إليّ و أنّ ذلك رأيي إن شاء اللّه تعالى أو يقوّمها على نفسه إن كان ذلك ارفق له «1».

قال و كتبت إليه: أنّ الرجل ذكر أنّ بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافا شديدا و أنّه ليس يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم بعده، فإن كان ترى أن يبيع هذا الوقف و يدفع إلى كلّ إنسان منهم ما وقف له من ذلك أمرته؟ فكتب بخطّه- عليه السلام- إليّ و أعلمه أنّ رأيي له إن كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف أن يبيع الوقف أمثل فليبع فإنّه ربّما جاء في الاختلاف تلف الأموال و النفوس» «2».

و يمكن حمل السؤال الأوّل على جعل الخمس الاصطلاحي بأن كان في المال الذي اشترى الضيعة به حقّ الخمس فما جعله في الذمّة بل بدّله في الضيعة بناء على تعيينه بمجرّد تعيين المالك و لو لم يقبض، أو كان مفروغا عنه قبول الإمام- عليه السلام- بناء على عدمه، و لا شهادة في قوله: «أو يدعها موقوفة» على الوقف

الاصطلاحي، لاحتمال إرادة المعنى اللغوي، و ربّما يشهد لما ذكرنا التعبير بقوله:

«أوقفها و جعل لك في الوقف الخمس» الظاهر في أنّ الخمس المفروغ عن أصل ثبوته اختار محلّه في الوقف، و لو كان المقصود هو الوقف لكان حقّ التعبير أن يقال: فأوقف خمسها عليك و أربعة أخماسها على غيرك، مضافا إلى استبعاد جعل

______________________________

(1)- الوسائل: ج 13، الباب 6، في أحكام الوقوف و الصدقات، ص 305، ح 5.

(2)- المصدر نفسه: ح 6.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 139

الوقف لشخص الإمام، بل ظاهر من يتصدّى للوقف أنّه يجعله لإمام المسلمين، و بالجملة الفقرة الأولى أجنبيّة عن المقام.

و أمّا الفقرة الثانية: فلا محيص لإنكار كون موردها الوقف، لكن هل العبرة بصرف وقوع الاختلاف و إن لم يخش الأداء إلى خراب الوقف و لا غيره بناء على الاعتبار بالشرطيّة، و جعل قوله- عليه السلام-: فإنّه ربّما إلخ مبنيّا على التقريب و الحكمة، أو بالاختلاف الموجب للخشية بناء على تقييد الذيل الصدر أو بأداء البقاء إلى الفساد أو فساد خاص بناء على الاعتبار بالذيل فقط؛ لأنّه علّة و العلّة هي المناط، كما في لا تأكل الرمّان لأنّه حامض، اختلف أنظار العلماء- رضوان اللّٰه عليهم- في تعيين هذه الوجوه و بذلك اختلف فتاويهم.

و قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف-: الأظهر في مدلولها هو إناطة الجواز بالاختلاف الذي ربّما جاء فيه تلف الأموال و النفوس، لا مطلق الاختلاف؛ لأنّ الذيل مقيّد، و لا خصوص المؤدّى علما أو ظنّا؛ لأنّ موارد استعمال لفظة ربّما أعمّ من ذلك، و لا مطلق ما يؤدّي إلى المحذور المذكور؛ لعدم ظهور الذيل في التعليل بحيث يتعدّى عن مورد النص و إن كان فيه إشارة إلى التعليل.

ثمّ

ذكر بعد كلام طويل: لكن في النفس شي ء من الجزم بظهوره، فلو اقتصر على المتيقّن من بين المحتملات و هو الاختلاف المؤدّى علما أو ظنّا إلى تلف خصوص مال الوقف و نفوس الموقوف عليهم كان أولى.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته العالية-: إنّ مراده- قدّس سرّه- بعدم ظهور الذيل في التعليل كونه مجملا لا ظاهرا في التقريب و الحكمة و إلّا لما كان وجه للتقييد كما اعترف هو- قدّس سرّه- في ما تقدّم على هذا الكلام، و معلوم أنّه على فرض الإجمال يسقط الصدر عن الظهور في الإطلاق لاحتفافه بما يصلح

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 140

للقرينيّة، فمعنى التقييد كونه القدر المتيقّن لا التقييد الاصطلاحي حتّى يرد عليه- قدّس سرّه- أنّه مبنيّ على ظهور التعليل الذي أنكره، و معه لا بدّ من إهمال قيد الاختلاف رأسا، إذ كما أنّ من شأن العلّة التضييق يكون من شأنها التوسعة أيضا هذا.

و لكن يرد عليه- قدّس سرّه- أنّه ما وجه رفع اليد عن ظهور كلمة «فإنّه» في التعليل كما في نظائره، و لا يلزم من هذا أن يجوز بيع الوقف لإصلاح كلّ فتنة، لأنّ مفروض الكلام الاختلاف الناشئ من الوقفيّة و بعد إهمال قيد الاختلاف تكون العلّة مطلق الفتنة المحتملة الناشئة من الوقفيّة، فلا يشمل ما إذا كان حدوث الفتنة من سبب خارجي و كان بيع الوقف و إعطاء الثمن للمتخاصمين مصلحا للفتنة، فيصير المحصّل أنّه كلّما كان البقاء على الوقفيّة معرضا- و لو على وجه الاحتمال- للسببيّة لحدوث فتنة مالية سواء في مال الوقف أو غيره، أو نفسيّة سواء في نفس الموقوف عليهم أو غيرهم، و سواء كان الاختلاف من الموقوف عليهم أو من غيرهم إذا

فرض سببيّة الوقفيّة للاختلاف، أو لم يكن حدوث الفتنة بتوسّط الاختلاف أصلا فالبيع جائز و ليس هذا مجمعا على بطلانه، هذا هو الكلام في مدلول الرواية.

و أمّا سندها فعمل المشهور جابر لضعف السند لو كان، و عدم الاعراض و لو لم يصل إلى حدّ الشهرة كاف لجبر ضعف الجهة كذلك و هما حاصلان في المقام.

فإن قلت: لو كان للفظ الخبر معنى ظاهره و أنكره المشهور و لم يفتوا بطبقة فهذا يوهن دلالة الخبر من حيث قوّة احتمال قرينة كانت و خفيت علينا، كما لو كان لفظه مجملا مردّدا بين معنيين لا شاهد على أحدهما، فحمله المشهور على

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 141

أحدهما كان جابرا للدلالة لقوّة احتمال أن يكون قرينة معيّنة و خفيت علينا.

و بالجملة الشهرة كما أنّها في المقام جابرة للصدور وجهته كذلك جابرة لما فهموه من المعنى.

قلت: ليس ما استفدناه من عليّة الفقرة الأخيرة و إهمال الأولى بمثابة من الظهور التي لا ينكر، كيف و مثل شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- قد سمعت منه إنكار الظهور و أنّه مجرّد الإشارة و الاشعار، و بالجملة نحن بعد الاطمئنان بالصدور و الجهة من عمل المشهور لا نتعبّد بفتاويهم و استنباطاتهم من مدلول الرواية بل نتّبع ما هو الظاهر عندنا.

نعم هنا جهات أخرى ربّما يقال بالاحتياج إلى الانجبار بالشهرة من جهة إجمال الرواية من هذه الجهات، و مع ذلك حملها المشهور على تلك الجهات.

منها: كون مورد السؤال وقفا مؤبّدا أو منقطعا؛ فإنّه لا دلالة في السؤال على شي ء منهما، و مع ذلك فهموا منه حكم المؤبّد.

و منها: عدم إشعار في السؤال على كون ذلك الاختلاف و إرادة البيع بعد إقباض الوقف، فمن المحتمل كونه قبله،

فيكون الحكم بالجواز من جهة عدم تمام الوقف و مع ذلك حملوها على ما بعد الإقباض.

و منها: أنّ مقتضى القاعدة اشتراك البطون من الموجود و المعدوم في ثمن الوقف مع تصريح السائل بتقسيمه بين الموجودين على حسب سهامهم و ظهور الرواية في تقريره، و هذا قرينة على الوقف المنقطع، و مع ذلك تعدّوا إلى المؤبّد.

و منها: تصدّي الواقف للبيع، و هذا أمارة عدم تمام الوقف، إذ مع صحّته و تمامه ينقطع هذا الوقف، و لو جاز بيعه فإنّما المتصدّي هو الموقوف عليهم و الناظر العام و مع ذلك حملوها على الوقف التام، هذا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 142

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: الإنصاف عدم الاحتياج في شي ء من هذه الوجوه إلى الانجبار، بل في نفس الرواية دلالة على ما فهموه.

أمّا الجهة الأولى: فبعد احتمال السؤال و قابليّته للأمرين إذا ساق الإمام- عليه السلام- الجواب بقول مطلق بدون الاستفصال، فهذا دليل على أنّ حكم المؤبّد أيضا كذلك، و إلّا لوجب الاستفصال.

و أمّا الثانية: فلأنّ السائل إذا حكى وقوع وقف على مال فالقاعدة عدم السؤال عنه من شرائط صحّة الوقف من العربية و الموالاة و غير ذلك الذي منها القبض، كما لو قال لك أحد: بعت اليوم بيع صرف، فهذا الكلام محمول على الجامع للشرائط التي منها القبض في المجلس و هذا ظاهر.

و أمّا الثالثة: فلأنّه بعد أن كان وجود الوقف سببا للتشاجر و الاختلاف و الشارع أراد رفع هذا الأمر، و المفروض أنّ البدل لو كان وقفا كان التشاجر بحاله، فلا محيص لمريد قلع مادّة الفساد عن تقسيم الثمن على الموجودين، و لا يمكن ذلك بتقسيم نفس الوقف حتى تكون الوقفيّة محفوظة، و

ذلك لتوليد التشاجر في مقام القسمة، و هذا بخلاف تقسيم النقد، فإنّه لا تشاجر فيه، و أمّا كونه خلاف مقتضى المبادلة- لأنّه قضيّتها كون البدل متعلّقا لحقّ المعدومين كالمبدل فيقتضي منه بالتزام إسقاط الشارع حقّهم آنا ما قبل البيع ليصير الملك طلقا للموجودين- فلا ينافي قضيّة المبادلة.

و أمّا الرابعة: فكما كان إذن الإمام- عليه السلام- في الفقرة الأولى على ما حملناها عليه إذنا مالكيّا يمكن كونه في هذه الفقرة إذنا ولائيّا، و لا ظهور في كون قوله- عليه السلام-: «و أعلمه أنّ رأيي» في كونه فتوى و بيان الحكم، لأنّه مثل قوله- عليه السلام- في الأولى: «و أنّ ذلك رأيي إن شاء اللّٰه تعالى».

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 143

فإن قلت: فعلى هذا يشكل تصدّي الحكّام الشرعيّة في مثل هذا الزمان لعدم ثبوت الدليل على الولاية لهم على مثل هذه الأمور.

قلت: نعم لكن هذا من الأمور التي يعلم من الشارع عدم رضاه بتعطيلها كتعطيل أموال الصغير و وقوعها عرضة للضياع و الفساد، فإنّه لا يرضى أيضا بوقوع مثل هذه الفتنة التي هي مظنّة نهب الأموال و قتل النفوس، و قد مرّ أنّ مثل هذه الأمور يتكفّلها المجتهد الجامع للشرائط من باب القدر المتيقّن و لو لم يتمّ الدليل على الولاية.

[الكلام في القسم الثاني الوقف المنقطع]

و أمّا الوقف المنقطع فالمقرون منه بالمدّة كسنة و أزيد باطل في الجملة إجماعا، لكن هل يقع حبسا أو يبقى على ملك الواقف؟ فيه خلاف، و المقصود منه هنا ما إذا وقف على من ينقرض عادة كزيد، أو زيد و عقبه بلا واسطة، فهو محلّ الخلاف، فالمراد من الإجماع على اشتراط التأبيد و الدوام في الوقف إنّما هو مقابل التوقيت و التأجيل لا ما هو

الظاهر منه و إلّا ينافي مع الخلاف في هذا القسم، فالمعروف هو الصحّة.

و هؤلاء بين من يقول ببقائه على ملك الواقف و بين من يقول بانتقاله إلى الموقوف عليهم، و هم أيضا بين من يقول بملكهم ملكا مستقرّا ينتقل منهم إلى ورثتهم عند انقراضهم، و بين من يقول بعوده إلى ملك الواقف، و من يقول بصيرورته في سبيل اللّٰه.

و الحقّ هو الصحّة، لصحيحة ابن الصفّار: «كتبت إلى أبي محمّد- عليه السلام- أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روي أنّ الوقف إذا كان غير موقّت فهو باطل مردود على الورثة، و إذا كان موقّتا فهو صحيح ممضى، و قال قوم: إنّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 144

الموقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان و عقبه فإذا انقرضوا فهو للفقراء و المساكين إلى أن يرث اللّٰه الأرض و من عليها قال و قال آخرون: هو موقّت إذا ذكر أنّه لفلان و عقبه ما بقوا و لم يذكر في آخره للفقراء و المساكين إلى أن يرث اللّٰه الأرض و من عليها، و الذي هو غير موقّت أن يقول: هذا وقف و لم يذكر أحدا، فما الذي يصحّ من ذلك و ما الذي يبطل؟ فوقّع- عليه السلام-: الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاء اللّه تعالى «1».

يظهر منها صحّة كلّ من القسمين اللذين في كلام السائل لوجود الحسب في كلّ منهما، و بطلان القسم الأخير فإنّه لعدم ذكر الموقوف عليه الذي هو أهمّ الكيفيّات، فلا يدخل تحت قوله: بحسب ما يوقفها أهلها.

و يظهر من هذه الصحيحة تفسير صحيحة ابن مهزيار «قال: قلت له- عليه السلام-: روى بعض مواليك عن آبائك- عليهم السلام-

أنّ كلّ وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة و كلّ وقف إلى غير وقت جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة، و أنت أعلم بقول آبائك- عليهم السلام- فكتب- عليه السلام-: هكذا هو عندي» «2».

فالموقّت إلى وقت معلوم عبارة عمّا ذكر فيه الموقوف عليه إمّا ممّن ينقرض و إمّا ممّن لا ينقرض، و غير الموقّت الذي وصفه بكونه جهلا مجهولا و حكم بكونه باطلا عبارة عمّا أهمل فيه ذكر الموقوف عليه، و على كلّ حال فالكلام في بيع هذا الوقف تارة على المبنى المختار في كلّ الوقف من كون الحبس و عدم التعدّي إلى الغير مأخوذا في مفهومه و إنشائه، و أخرى على كلّ واحد واحد من الأقوال الأربعة المذكورة بناء على عدم مأخوذيّة الحبس في الإنشاء.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 13، الباب 2، في أحكام الوقوف و الصدقات، ص 295، ح 1 و 2.

(2)- المصدر نفسه: الباب 7، في أحكام الوقوف و الصدقات، ص 307، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 145

أمّا على الأوّل، فالظاهر عدم الفرق بين المؤبّد و المنقطع في الجهة المذكورة أعني: مأخوذيّة الحبس في الإنشاء، لوضوح اتّحاد حقيقته فيهما، و حينئذ فلا يجوز البيع، و إن قلنا ببقائه على ملك الواقف و قلنا بصحّة البيع على المبنى الآتي- لكونه منافيا مع الحبس المعتبر فيه الممضى شرعا لقوله- عليه السلام-:

«الوقوف على حسب إلخ» و هو و إن كان بغرض تسبيل المنفعة، و البيع لا ينافيه، لأنّه متعلّق بالعين المسلوبة المنفعة- و لكنّه- أعني حبس الرقبة- مانع عن وقوع البيع، و لا اعتبار بالغرض بعد صيرورة الإنشاء ممضى.

و أمّا على مبني شيخنا المرتضى من عدم دخالة الحبس في إنشاء الوقف فإن

اخترنا القول الأوّل، أعني: بقاء هذا الوقف على ملك الواقف فعدم جواز بيع الموقوف عليه واضح، لعدم الملك، و أمّا بيع الواقف فلا مانع منه من جهة الأدلّة المانعة عن شراء الوقف لانصرافها إلى البيع الناقل للعين المستتبع للمنافع، و البيع هنا إنّما يرد على العين مسلوبة المنفعة كبيع العين المستأجرة.

نعم قد استشكل فيه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف- من حيث لزوم الغرر بجهالة وقت استحقاق التسليم التام على وجه ينتفع به، قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: قد يقايس المقام بباب الكلّي في السلم، حيث إنّه لو جعل زمان التسليم مردّدا بين أجلين كرأس الستّة أشهر أو السنة يبطل.

و القياس مع الفارق، و ذلك لأنّ ماليّة الكلّي متقوّمة بالإضافة إلى شخص الوجود، و لا يكفي جامع الوجود، ألا ترى أنّه لا يعتبر الماليّة في ما إذا جعل في عهدته الحنطة في أيّ زمان شاء تسليمه، فإنّ هذا مع مفهوم الحنطة الغير المضافة إلى ذمّة أحد مشترك في عدم المعدوديّة من الأموال، و الفرق بين الجامع الأوسع و الأضيق لا محصّل له، فيرجع الحاصل إلى أنّ الجهل بزمان التسليم يوجب الجهل بأصل المبيع و تردّده بين شخصين، فإنّ الكلّي المقدّر بستّة أشهر شخص من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 146

المال غير الكلّي المقدّر بسنة نظير العبدين، فيصير بيع الواحد المردّد بينهما نظير بيع أحد العبدين، و هذا بخلاف المقام حيث لا تردّد في المبيع، فإنّه مثلا هذه الدار الشخصيّة الخارجيّة المعيّنة بحدودها و جميع أوصافها الدخيلة في قيمتها و المشكوك زمان القدرة على تسليمها المبنيّ على انقضاء حياة زيد الموقوف عليه، فالقياس بذاك الباب في غير المحلّ.

و تحقيق المقام: أنّ الغرر المبطل للبيع

لا بدّ في تشخيص مقدار مفهومه من الرجوع إلى موارد الإجماعات، و ذلك لأنّ مفهومه العرفي غير مراد قطعا، لأنّه إمّا بمعنى الغرور و الخديعة الذي هو التدليس و الغش و إراءة صورة حسنة مع باطن سيّئ كما هو المراد في قاعدة الغرور، و هذا في المعاملات و إن كان محرّما لكنّه يوجب خيار التدليس و الغش لا البطلان، و أمّا بمعنى الخطر و هو الإقدام على أمر محتمل للضرر و هذا أيضا غير موجب للبطلان، فإنّ من يقدم على المعاملة مع الجهل بقيمته الواقعيّة لا يقول أحد ببطلان معاملته. نعم لو ظهر المغبونيّة كان له خيار الغبن، و الذي تحصل من ملاحظة موارد إجماعاتهم مضريّة الجهل في موردين:

أحدهما: الجهل بأوصاف المبيع الراجعة إلى كمّه أو كيفه التي تختلف باختلافها قيمته، فالجهل بماليّة الشي ء و قيمته المستند إلى الجهل بصفته مضرّ، و أمّا الجهل الغير المستند بذلك فغير مضرّ.

و الثاني: الجهل بأصل القدرة على التسليم كما في بيع السمك في الماء و الطير في الهواء، إذا عرفت ذلك فنقول: شي ء من الأمرين غير موجود في المقام.

أمّا الأوّل: فلأنّ الجهل في المقام راجع إلى الجهل بمقدار حياة زيد الموقوف عليه، و لا إشكال أنّ الذي يعدّ وصفا للدار هو حيث كونها موقوفة على زيد، فلو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 147

جهل كونها وقفا على زيد أو عمرو أو على زيد فقط أو مع عقبه كان من قبيل الجهل بالوصف الدخيل في القيمة، و أمّا الجهل بمقدار عمر زيد بعد الفراغ عن كون الدار موقوفة على زيد، فهو و إن كان منشأ للجهل بالقيمة و الماليّة لاختلافها باختلاف طول مدّة انسلاب المنفعة و قصرها، و لكنّه

ليس راجعا إلى الجهل بوصف الدار بل راجع إلى أنّ الوصف المعلوم ينطبق خارجا على أيّ مقدار من الزمان، و قد عرفت أنّ الجهل بالماليّة الغير المستند إلى الجهل بالوصف غير مضرّ.

و من هنا يتّضح الفرق بين المقام و باب بيع العين المستأجرة إذا لم يعلم مقدار مدّة الإجارة، و حاصل الفرق أنّ المدّة مأخوذة في إنشاء الإجارة، فالإجارة إلى سنة صفة للدار و إلى سنتين صفة أخرى، فإذا دار الأمر بينهما كان المجهول صفة الدار و هذا بخلاف المقام، فإنّ المنشئ إنّما أنشأ الوقف على زيد الموجود الحيّ، و هذا أمر مبيّن و الشكّ في المنطبق عليه.

و أمّا الثاني: فلأنّ المسلّم من كلماتهم الجهل بأصل القدرة كالمثالين لا الأعمّ منه و ممّا إذا علم أصل القدرة و شكّ في زمانه، و الشاهد على عدم المسلميّة أنّه قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف- في ذيل مسألة اعتبار القدرة على التسليم:

«و لو كان مدّة التعذّر غير مضبوطة عادة كالعبد المنفذ إلى هند لأجل حاجة لا يعلم زمان قضائها ففي الصحّة إشكال»

و جعل وجه الإشكال حكمهم بعدم جواز بيع مسكن المطلّقة المعتدّة بالأقراء، لجهالة وقت تسليم العين.

و أنت خبير بأنّه لو تمّ الإجماع في مسألة بيع مسكن المعتدّة لا يمكن فهم الكلّية منه، لاحتمال اختصاص بذلك المورد الخاص لنصّ وصل إليهم، و بالجملة ثبوت الإجماع بالنسبة إلى مورد الجهل بزمان القدرة مع معلوميّة أصلها قابل للدغدغة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 148

هذا مضافا إلى أنّ لنا طريق إثبات إلى أنّ مقامنا غير مندرج تحت مفهوم الغرر المضرّ و هو الصحيحة أو الحسنة الدالّة على صحّة البيع في السكنى الموقّتة بعمر أحدهما بناء على ما تقرّر في محلّه

من أنّه إذا علم حكم مخالف لحكم العام في موضوع معيّن و شكّ في أنّه من أفراد ذلك العام حتّى يكون تخصيصا أو لا حتّى يكون تخصّصا، فأصالة عدم التخصيص يعيّن الثاني، و به تشخص حال الموضوع، إذ على هذا يعلم أنّ بيع السكنى المذكورة ليس من أفراد بيع الغرر، و من المعلوم مساواته مع بيع الوقف المنقطع الذي هو محلّ الكلام.

ثمّ إنّه بناء على تسليم الغرر في ما نحن فيه لو وقعت المعاملة على مجموع العين و المنفعة بصيغة الصلح بأن يكون أصالة في الأوّل و نيابة عن الموقوف عليه في الثاني، فيكون العوض موزّعا عليهما، فلا إشكال حينئذ من حيث الغرر، و لكن يستشكل من جهة أخرى و هو عدم انصراف مطلقات المنع عن شراء الوقف المعلوم عدم اختصاصها بخصوص البيع و الشراء و جريانها في نوع النقل إلى الغير عن شمول هذه الصورة، فإنّ المنصرف عنه هو نقل العين المجرّدة بلا منفعة كما في ما تقدّم، و أمّا نقلها مع المنفعة و إن لم تكن المنفعة بتبع العين بل في عرضها فهو مشمول لها.

ألا ترى أنّ أصحاب هذا القول- أعني عدم دخالة الحبس في مفهوم الوقف- لا يلتزمون في الوقف المؤبّد لمثل هذا النقل أعني نقل كلّ من العين و المنفعة في عرض واحد و بصيغة المتكفّلة لهما، هذا.

و لو باع الواقف و رضي الموقوف عليهم،

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف-: مجرّد ذلك لا يجوّز البيع من الأجنبي، لأنّ المنفعة مال لهم فلا ينتقل إلى المشتري بلا عوض، اللّهم إلّا أن يكون على وجه الإسقاط لو صحّحناه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 149

منهم، إلى أن قال: و ممّا ذكرنا يظهر وجه التأمّل

في ما حكي عن التنقيح من أنّه لو اتفق الواقف و الموقوف عليه على البيع في المنقطع جاز سواء أراد بيع الواقف أو بيع الموقوف عليه، كما يدلّ كلامه عليه المحكيّ عنه في مسألة السكنى حيث أجاز استقلال مالك العين بالبيع و لو من دون رضي مالك الانتفاع أو المنفعة، نعم لو كان للموقوف عليه حقّ الانتفاع من دون تملّك للمنفعة كما في السكنى على قول صحّ ما ذكره، لإمكان سقوط الحقّ بالإسقاط بخلاف المال فتأمّل، انتهى كلامه- رفع في الخلد مقامه.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته- قوله- قدّس سرّه-: «كما يدلّ كلامه عليه» دفع لدخل مقدّر و هو أنّه كما فصّلتم أنتم بين البيع من أحد الطرفين و لحوق الرضى من الآخر فالمنع، و بين الصلح المشتمل على نقل كلّ من العين و المنفعة عن صاحبه فالجواز، لم ما حملتم كلام التنقيح على القسم الثاني حتى يكون خاليا عن التأمّل؟ فأجاب بأنّه يدلّ على إرادته القسم الأوّل الذي فيه التأمّل، كلامه في مسألة السكنى فإنّه هناك أجاز استقلال مالك العين و لو من دون رضي مالك الانتفاع أو المنفعة، و قرينة المقابلة بين المسألتين قاضية بأنّه في المقام منع ما أجازه هناك و هو استقلال مالك العين و لو بدون رضي الموقوف عليه، و أمّا بيعه مع اتّفاق الموقوف عليه معه بمعنى رضاه ببيعه كالعكس يعني بيع الموقوف عليه مع رضي الواقف ببيعه فجائز.

ثمّ قال شيخنا- دام ظلّه-: ما ذكره الشيخ- قدّس سرّه- من الفرق بين الحقّ و المال و أنّ رضي الموقوف عليه مفيد على التقدير الأوّل دون الثاني لإمكان سقوط الحق بخلاف المال، فيه: أنّه يمكن في المال أيضا ذلك بالإعراض عنه،

فإنّه إذا أعرض المالك عن ماله كان ذلك مؤثّرا في إعدام علاقة الملكيّة عمّا بينهما،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 150

و لهذا يفتون في نثار العرس بجواز التصرّفات الناقلة فيه، ثمّ بعد زوال العلاقة يصير المال على حسب ما يقتضيه طبعه الأوّلي، ففي الأعيان يصير من المباحات الأصليّة تملك بالحيازة، و في المنافع تصير تابعة للعين، و ذلك لاختلاف الطبع الأوّلي في المقامين و أنّ المنافع ليست حالها كالعين.

و من هنا نقول في ما إذا استأجر العين من مالكها ثمّ اشتراها منه قبل انقضاء مدّة الإجارة ثمّ باعها من غيره قبل الانقضاء أيضا بأنّه يمكن أن يكون هذا أيضا إعراضا عن تملّك المنافع بسبب مستقل فتعود إلى حالتها الأوّليّة من تبعيّة العين، ثمّ ينتقل إلى المشتري من دون انتظار لانقضاء المدّة.

و تحقيق المقام أنّ حال المنافع كالكلّي في باب السلم لا يعدّ مالا في قبال العين إلّا بعد تقطيعها في عالم الإنشاء من العين، فحينئذ يعتبر آنا ما ملكيتها لمالك العين، و حينئذ فما دام هذا التقطيع باقيا فهو، و إذا زال تصير المنفعة إلى أصله من الاندكاك في العين و عدم المحسوبيّة في قباله، فلا يرد أنّه يلزم الجمع بين العوض و المعوّض في ما إذا آجر المالك العين ثمّ باعها و رضي المستأجر أو رضي قبل بيعه، فإنّه يلزم جمع المنفعة مع عوضها لدى مالك العين، مع عدم كون الانتقال بسبب مستأنف من صلح أو هبة.

وجه عدم الورود: أنّ المعوّض إنّما هو المنفعة في حال التقطيع عن العين و المعدوديّة في عرضها، فلو عاد بعد الإعراض بهذه الحال لزم الجمع، و أمّا إذا عاد على مثل حالها قبل التقطيع من التبعية للعين فلا

اجتماع، هذا. اللّهمّ إلّا أن يمنع تأثير الإعراض مطلقا في قطع العلاقة، إذ لا دليل عليه غير السيرة و الارتكاز و هو قابل للتشكيك.

هذا كلّه بناء على اختيار المبنى الأوّل، و لو اخترنا الثاني أو الثالث

قال

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 151

شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف-: لا يجوز البيع للموقوف عليه، لاعتبار الواقف بقاء العين في يدهم إلى انقراضهم.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته العالية-: إن أراد- قدّس سرّه- أنّه اعتبر كون العين تحت يدهم و لو انتقل ملكها إلى غيرهم فهذا ينافي مع جواز صلحهم المنفعة مدّة العمر في حقّ غيرهم، فإنّه يوجب خلوّ يدهم عن العين، إذ يجب تسليمها للمصالح له حتى يستوفي المنافع، و إن أراد أنّه اعتبر عدم انتقال العين إلى غيرهم ملكا فهذا مشترك الورود بين هذين المبنيين و المبنى الأوّل و هو مالكيّة الواقف كما هو واضح.

هذا بحسب ما أفاده إنشاء الواقف بضميمة قوله- عليه السلام-: «الوقوف على حسب إلخ» و أمّا أدلّة المنع عن شراء الوقف فالحقّ أيضا عدم التفرقة حسب المباني في الاستدلال بها و عدمه، لأنّ الحال لا يخلو عن أمرين، إمّا أن نقول بأنّها منصرفة إلى الوقف المؤبّد فيسقط عن الاستدلال على جميع المباني، و إمّا أن نقول بأنّها شاملة لكلّ من المؤبّد و المنقطع و على هذا لا ينقدح في الذهن أبدا فرق في شمول الأدلّة حسب المباني المذكورة، فالتفصيل ليس له وجه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 152

[السبب الثاني من أسباب خروج الملك عن كونه طلقا صيرورة المملوكة أم ولد لسيدها و فيه أبحاث]
[البحث الأول التبرك بذكر أخبار أم الولد و مناقشتها]

بيع أم الولد

مسألة و من أسباب خروج الملك عن كونه طلقا صيرورة المملوكة أمّ ولد لسيّدها، فإنّ ذلك يوجب منع المالك عن بيعها بلا خلاف بين المسلمين على الظاهر المحكيّ عن مجمع الفائدة

و ينبغي

أوّلا التبرّك بأخبار المسألة فنقول:

منها: الصحيح على المحكي عن محمّد بن مارد عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- في الرجل يتزوّج الأمة فتلد منه أولادا ثمّ يشتريها فتمكث عنده ما شاء اللّٰه لم تلد منه شيئا بعد ما ملكها، ثمّ يبدو له في بيعها؟ قال: هي أمته إن شاء باع ما لم يحدث عنده حمل بعد ذلك و إن شاء أعتق «1».

و منها: رواية السكوني عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام-: أنّ أمير المؤمنين- عليه السلام- قال في مكاتبة: يطؤها مولاها فتحمل، قال: يرد عليها مهر مثلها و تسعى في قيمتها، فإن عجزت فهي من أمّهات الأولاد «2».

و منها: رواية عمر بن يزيد قال: قلت: لأبي إبراهيم- عليه السلام-: أسألك قال:

سل، قلت: لم باع أمير المؤمنين- عليه السلام- أمّهات الأولاد؟ قال: في فكاك رقابهنّ.

قلت: و كيف ذلك؟ قال: أيّما رجل اشترى جارية فأولدها ثمّ لم يؤدّ ثمنها و لم يدع

______________________________

(1)- الوسائل: ج 14، الباب 85، من أبواب نكاح العبيد و الإماء، ص 589، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ج 16، الباب 14، حكم ولاء مكاتب و ولده، ص 97 ح 3، و 115 ح 2.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 153

من المال ما يؤدّى عند أخذ ولدها منها فبيعت و أدّي ثمنها، قلت: فيبعن في ما سوى ذلك من دين؟ قال: لا «1».

و منها: رواية السكوني عن جعفر بن محمّد عن أبيه أنّ عليا- عليهم السلام- أتاه رجل فقال: إنّ أمتي أرضعت ولدي و قد أردت بيعها، فقال- عليه السلام-: خذ بيدها و قل من يشتري منّي أمّ ولدي.

إذا عرفت ذلك فلا بدّ أوّلا من التكلّم في أنّه هل يمكن استفادة الكلّية من هذه الأخبار

بحيث كانت هي المرجع عند الشك في قبال عمومات صحّة البيع، و على تقدير عدم الدلالة هل يمكن تحصيلها من كلمات العلماء على وجه علم اتّفاقهم على العموم المضروب للقانون ثمّ الكلّية المستفادة لا بدّ أن تكون فعليّة و إلّا فإن اشتملت على المنع الاقتضائي الغير الناظر للطوارئ فلا ينفع لموارد الشكّ كما هو واضح.

و حينئذ فنقول: أمّا الرواية الأولى فمحلّ استفادة الكلّية منها مفهوم الغاية في قوله: هي أمته إن شاء باع ما لم يحدث عنده حمل، يعني إن حدث عنده حمل فليس له البيع، و لكن استشكل شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته العالية- في عموم المفهوم نظرا إلى أنّ قيد الإطلاق إذا صار مصرّحا به في المنطوق فحاله حال العموم المأخوذ فيه في أنّ المفهوم في كليهما يكون انتفاء ذلك الإطلاق أو العموم المأخوذ في المنطوق و رفعهما لا ينتج إلّا قضيّة جزئيّة.

مثال الأوّل قولك: إن جاء زيد فأكرمه مطلقا، فإنّ المفهوم أنّه إن لم يجئك فيرتفع هذا الخطاب، و هذا يلائم مع إثبات الوجوب بنحو الإيجاب الجزئي.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 13، الباب 24، من أبواب الحيوان، ص 51، ح 1 و 2.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 154

و مثال الثاني: ما دمت معي فلا تخف أحدا، حيث إنّه ليس المفهوم أنّه إن لم تكن معي فلا بدّ أن تخاف من كلّ أحد، و على هذا فالرواية من هذا القبيل، لأنّ قوله- عليه السلام-: إن شاء باع، معناه كون المالك مطلق العنان، فكأنّه قال: يجوز بيعها مطلقا ما لم يحدث الحمل، فيصير المفهوم ارتفاع الجواز المطلق عند حدوثه و هو لا ينافي ثبوت الجواز الجزئي، نعم لو كان الإطلاق بمقدّمات الحكمة فنسبته إلى كلّ

من المنطوق و المفهوم على السواء، و قد قرّر ذلك في محلّه.

و أمّا الثانية: فالمذكور فيها ليس بأزيد من إلحاق المكاتبة الموطوءة الحاملة بعد السعي و العجز عن أداء مال الكتابة بأمّهات الأولاد من غير تعرّض لحكم أمّهات الأولاد و أنّه المنع عن البيع في كلّ مورد أو في مورد مخصوص.

و أمّا الثالثة: فمحلّ الاستشهاد منها فقرتان، الأولى: قول السائل: لم باع أمير المؤمنين- عليه السلام- أمّهات الأولاد؟ فإنّها كاشفة عن كون ممنوعيّة بيع أمّ الولد على سبيل الكلّيّة مرتكزة في ذهن السائل، حتّى سأل عن وجه جواز بيع الأمير- عليه السلام-، و الإمام- عليه السلام- قد قرّره على هذا، و الثانية: ذيل الرواية، حيث سأل عن بيعهنّ في ما سوى ثمن رقبتهنّ من سائر الديون، فأجاب- عليه السلام-: لا.

و الأخيرة لا يستفاد منها الكلّية إلّا في خصوص أداء الدين و أمّا في غير ذلك من الموارد فلا، و أمّا الأولى فيكفي في صحّة هذا السؤال من السائل كون قضيّة منع بيع أمّ الولد على نحو الاقتضاء مرتكزة في ذهنه، ألا ترى أنّك لو رأيت أحدا يحترز عن لحم الغنم يصحّ السؤال عنه: لم تحترز؟ بل ربما يقال إنّ قوله: «لم باع»، دليل على قابليّة المنع للمرخّص و هو لا يصحّ إلّا مع كونه اقتضائيا.

و أمّا الرابعة: فالمانع من التمسّك بها قوله: أرضعت ولدي فإنّ كونها كناية عن الأمّ غير ظاهر، إذ لا ملازمة بين الأمومة و الإرضاع، نعم لو لم تكن هذه الجهة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 155

كانت دلالتها على الكلّيّة على نحو الفعليّة بل كون البيع من المنكرات في صدر الإسلام واضحة و لكنّ الجهة المذكورة مانعة، و لا يبعد حملها

على الأمة المرضعة، و التعبير المذكور للدلالة على كراهة بيعها يعني أنّ حزازة ذلك بحدّ يدركها أهل السوق أيضا، فالمراد و إن كان الاستنكار العرفي لكن لمّا كان بداعي الإمضاء و تقريب الكراهة الشرعية إلى ذهن السائل لا يرد أنّ الدلالة على الاستنكار العرفي بعيد عن شأن الإمام مع كون السائل بصدد استفهام الحكم الشرعي.

ثمّ إنّه يمكن استفادة الكلّيّة على الوجه المقيّد بحال الشك من كلمات العلماء- رضوان اللّٰه عليهم-، فهذا نظير قاعدة: من أتلف مال الغير فهو له ضامن.

ثمّ إنّ عنوان أمّ الولد لا فرق في صدقه عرفا بين حدوث الولد في ملك المالك أو قبله لكن قد عرفت من الصحيحة الأولى اختصاص المنع بما إذا كان الولد من المولى في حال المولوية، فالممنوع أمّ الولد لمولاها كما تقدّم في العنوان، و أيضا هذا العنوان عرفا لا يصدق على الحمل فلا تصير المرأة أمّ الولد و ذات الولد إلّا بعد انفصال الولد لكنّ المنع شامل لذات الحمل أيضا بدلالة الصحيحة المذكورة لقوله فيها: ما لم يحدث عنده حمل بعد ذلك، و تشترك معها في هذه الدلالة الرواية الثانية حيث إنّ في كلام السائل قوله: «فتحمل».

و النظر في دلالتها بملاحظة أنّ زمان الحكم بعد تحقّق السعي و العجز عقيب الحمل، و الغالب ولوج الروح حينئذ فلا يدلّ على كفاية مسمّى الحمل، يمكن منعه أوّلا أنّ تعيين عجزها عن أداء مال الكتابة لا يحتاج إلى مضيّ مدّة دائما بل من الممكن أن يتبيّن ذلك لها في عرض أيّام قلائل بأن يعلم من حالها عدم وفائها إلّا للمكاسب اليسيرة الغير الوافية.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 156

و ثانيا: الرواية ظاهرة في أنّ وجه هذا التفصيل الذي ذكره

الإمام- عليه السلام- من أنّها تسعى في قيمتها إن كانت قادرة و إن كانت عاجزة فهي من أمّهات الأولاد ليس إلّا الحمل فيعلم أنّه المعيار لمنع البيع.

ثمّ بعد تبيّن أنّ الحمل كاف في المنع فهل معيار الحمل ماذا و مبدأ صدقه من أيّ زمان؟ فإنّ هنا مراتب من الجنين و المضغة و العلقة و النطفة المستقرّة في الرحم و النطفة الغير المستقرّة و هي مختلفة في الوضوح و الخفاء، فالجنين معلوم الصدق و النطفة الغير المستقرّة معلوم العدم، و الظاهر صدق الحمل على المضغة.

و يدلّ عليه مضافا إلى شهادة العرف حيث يسمّونها عند الإلقاء سقطا، لأنّ معناه إسقاط الحمل ما ورد في باب عدّة الحامل من صحيحة ابن الحجّاج «عن أبي الحسن- عليه السلام- قال: سألته عن الحبلى إذا طلّقها زوجها فوضعت سقطا تمّ أو لم يتمّ أو وضعته مضغة؟ فقال- عليه السلام-: كلّ شي ء يستبين أنّه حمل تمّ أو لم يتم فقد انقضت عدّتها، و إن كان مضغة» «1» فإنّ الرواية في مقام التفسير لقوله تعالى:

وَ أُولٰاتُ الْأَحْمٰالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ «2» و بعد ما استفدنا مفاد الحمل من الرواية نرتّب عليه جميع آثاره الشرعية، نظير إذا ما ورد خبر الواحد بتفسير معنى الصعيد فإنّه يوجب ترتيب آثار الصعيد بلا شبهة، و قيد الاستبانة ليس جزءا من الموضوع بأن يكون أوّل مراتب الحمل هو الاستبانة أعني الكون بحيث يفهمه كلّ أحد و يحكم بأنّه حمل و لا يكون ذلك مخصوصا بأهل الخبرويّة من القوابل و ذلك لاستلزامه الدور؛ لأنّ دخل الاستنابة في تحقّق متعلّقها، و مفهومه محال فهو مأخوذ طريقا محضا، و وجه ذكره أنّ المقام مع الشك يكون من موارد استصحاب بقاء

______________________________

(1)- الوسائل: ج 15، الباب 11، من أبواب العدد، ص 421، ح 1.

(2)- الطلاق/ 4.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 157

العدّة فاعتبر الاستنابة لانقطاع هذا الاستصحاب. و بالجملة لا يعلم من الرواية أنّ حدّ الحمل ماذا، و قوله- عليه السلام-: و إن كانت مضغة تقرير كلام السائل لا بيان أقلّ مراتب الحمل.

و أمّا العلقة و هي القطعة الجامدة من الدم فالظاهر أيضا صدق الحمل عليه عرفا و المعيار ظاهرا صدق اسم السقط عند الإسقاط، و هذا متحقّق في العلقة.

و أمّا النطفة المستقرّة التي هي مبدأ نشوء آدمي فالظاهر عدم صدق الحمل عليها لانتفاء المعيار المذكور فيها، لأنّه لا يصدق عليها اسم السقط و ما نرى من التعبير عن المرأة التي تأخّر حيضها شهرا مثلا أنّها صارت حبلى منذ شهر فهي مسامحة في التعبير، و المقصود أنّ أسباب صيرورتها حبلى قد تحقّقت فهو من باب المجاز بالمشارفة.

ثمّ إنّ المنع مختصّ بعدم هلاك الولد، فلو هلك جاز لارتفاع عنوان أمّ الولد عنه، كما أنّ ضرب العالم يرتفع بارتفاع وصف العالمية عن المضروب، و لو مات الولد و خلّف ولدا فالظاهر عدم إجراء حكم المنع، لعدم صدق الولد المضاف إلى هذه الأم عليه و كذا الأم المضافة إلى هذا الولد عليها، و على فرض الشك فلا مجال لاستصحاب عنوان أمّ الولد؛ لأنّ الشبهة مفهوميّة و لا شبهة في الخارج، و تقرّر في محلّه عدم جريان الاستصحاب في مثله، و لا لاستصحاب بقاء المنع بعد وجود الأدلّة الاجتهاديّة على الجواز، و هي عمومات صحّة البيع و العقود، فإنّ العقد الصادر بعد هلاك ولد الصلب فرد مغاير للصادر قبل الهلاك، فالشك في التخصيص الزائد و المرجع في إجمال المخصّص المنفصل

المردّد بين الأقلّ و الأكثر إلى عموم العام.

[البحث الثاني في ذكر بعض المستثنيات عن قاعدة عدم جواز بيع أمّ الولد]
اشارة

بقي الكلام في المستثنيات عن قاعدة عدم جواز بيع أمّ الولد،

فقال شيخنا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 158

المرتضى- قدّس سرّه الشريف-: هي صور يجمعها تعلّق حقّ للغير بها أو تعلّق حقّها بتعجيل العتق أو عدم تحقّق الحكمة المانعة عن النقل.

[موارد القسم الأول تعلق حق للغير بها]
فمن موارد القسم الأوّل ما إذا كان عن رقبتها دينا على مولاها و مات المولى و لم يكن له ما يؤدّي هذا الدين
اشارة

و الدليل على الجواز في هذه الصورة في مقابل القاعدة المانعة ما رواه المشايخ الثلاثة من صحيح عمر بن يزيد المتقدّم.

و في رواية أخرى لعمر بن يزيد عن أبي الحسن- عليه السلام- عن أمّ الولد تباع في الدين؟ قال: نعم في ثمن رقبتها، و الصحيح المتقدّم حكى رواية الفقيه له بهذا الوجه: أخذ من ولدها ثمنها منه بيعت، بدل قوله في رواية الكافي: أخذ ولدها منها، و قد يؤيّد الأوّل بأنّه واضح الانطباق على قوله- عليه السلام- في فكاك رقابهنّ، فإنّ البيع من ولدها يوجب انعتاقها عليه بخلاف ما في الرواية الثانية، فإنّ النقل من مالك إلى مالك آخر يستقرّ ملكه لها لا يوجب فكاك رقبتها.

و فيه: أنّ فكاك الرقبة بملاحظة تعلّق حقّ الديان بعد الموت بأعيان التركة فكأنّها مرهونة للدين، إن امتنع الوارث من فكّها تباع تلك الأعيان و يوفي الدين، و على هذا فإطلاق اسم الفكّ هنا كما في باب الرهن، هذا مع أنّ رواية الفقيه يبعّدها أمران.

الأوّل: أنّه لو كانت الرواية على هذا فلا شبهة أنّ بيع أمّ الولد على هذا الوجه أعني كونه مستعقبا للعتق ليس فيه استيحاش و كان خارجا عن الموضوع الذي استوحش منه السائل، و كان حقّ الجواب أن يقول: استهنت في اسناد البيع المستنكر إلى الأمير- عليه السلام-، و الظاهر من الجواب أنّه- عليه السلام- بصدد بيان المجوّز مع حفظ الموضوع كما يدلّ قول السائل عقيبه: فيبعن

في ما سوى ذلك، و الحاصل: أنّ المستوحش هو البيع الغير المستعقب للعتق، فإنّ المستعقب تعجيل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 159

العتق و هو غير المستوحش، و ظاهر الرواية بيان المجوّز للبيع الغير المستعقب.

الثاني: أنّ الغالب في ولد مثل هذه الأمّ الأمة و الأب الفاقد لما يؤدّي دينه عدم كونه ذا مال، و فرض كونه كبيرا و قد اكتسب المال بسعي نفسه فرض نادر، فكيف يصحّ سوق هذه الكلّيّة بملاحظة هذا الفرض النادر.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف- بعد ذكر صحيحة عمر بن يزيد و روايته قال:

و مقتضى إطلاقها بل إطلاق الصحيحة كما قيل ثبوت الجواز مع حياة المولى، كما هو مذهب الأكثر بل لم يعرف الخلاف فيه صريحا، نعم تردّد فيه الفاضلان، و عن نهاية المرام و الكفاية أنّ المنع نادر لكنّه لا يخلو عن قوّة.

و ربّما يتوهّم القوّة من حيث توهّم تقييدها بالصحيحة السابقة بناء على اختصاص الجواز فيها بصورة موت المولى كما يشهد به قوله فيها: «و لم يدع من المال إلى آخره» فيدلّ على نفي الجواز عمّا سوى هذا الفرد إمّا لورودها في جواب السؤال عن موارد بيع أمّهات الأولاد فيدلّ على الحصر، و إمّا لأنّ نفي الجواز في ذيلها في ما سوى هذه الصورة يشمل بيعه في الدين مع حياة المولى، و اندفاع التوهّم بكلا وجهيه واضح.

و الظاهر أنّ مراده- قدّس سرّه- أنّ السائل لم يسأل إلّا عن مجوّز خصوص البيع الصادر عن الأمير- عليه السلام-، و حيث كان جميع بيوعه- عليه السلام- في صورة موت المولى فالإتيان بكلمة «لم يدع» الظاهرة في الموت من باب المورديّة و ليس في مقام الضابط الكلّي لمطلق بيع

أمّ الولد حتّى يكون ظاهرا في القيديّة، و من هنا يظهر وجه ضعف الوجه الثاني؛ فإنّ الموت في الذيل أيضا ملحوظ على وجه المورديّة، و الحاصل: لا ظهور في شي ء من الفقرتين في أخذ قيد الموت المستفاد من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 160

كلمة «لم يدع» قيدا لا موردا.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته العالية-: قول السائل: «لم باع أمير المؤمنين- عليه السلام- أمّهات الأولاد» يحتمل وجهين، الأوّل: أن يكون لإضافة البيع إلى الأمير- عليه السلام- دخلا في السؤال، يعني أنّه- عليه السلام- لم أقدم؟ و الثاني: أن يكون السؤال ممحّضا في وجه جواز ذلك البيع من أيّ شخص صدر، و تخصيصه الأمير- عليه السلام- بالذكر من باب المورد.

فإن كان السؤال على الوجه الأوّل كان ما ذكره- قدّس سرّه- متينا؛ فإنّه من المحتمل حينئذ أن يكون- عليه السلام- في مقام الذبّ عن الأمير- عليه السلام- ذكر قيد «لم يدع» لكون الموت مورد بيعه- عليه السلام-، فإنّه حيث كان ولي أمور المسلمين كان تصدّيه في موارد عدم إقدام المالك التي منها موت المالك و صغارة ورثته أو كبارتها مع الامتناع عن الإقدام.

و أمّا إن كان على الوجه الثاني فكأنّه أشير إلى طائفة من البيوع الخارجيّة و قيل ما المجوّز في هذه البيوع من دون نظر إلى أنّ فاعلها أيّ شخص، و لا شبهة أنّه إذا ذكر في الجواب في مقام الضابط للجواز كلمة «لم يدع» الظاهرة في الموت كان ظاهرا في القيديّة، و هو نظير قولنا: أكرم الرجل العالم، فإنّه و إن كان لا يفهم منه حصر الوجوب في العالم- فلا يبقى احتمال قيام العادل مقامه- لكن لا شبهة في أنّه يفهم منه عدم وجود

ملاك الوجوب في ذات الرجل مع قطع النظر عن ضمّ صفة خارجيّة، فالاستظهار المذكور غير متين على القول بمفهوم الوصف.

و على هذا فنقول في المقام: إنّه لو كان نفس دينيّة ثمن الرقبة مع عدم ما بقي بالدين كافيا من غير فرق بين الموت و الحياة كان ذكر «لم يدع» مستدركا كذكر العالم في المثال لو كان الرجل تمام موضوع الوجوب؛ إذ لو فرض الاقتضاء

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 161

في الوصف أيضا كان المعلول مستندا إلى أسبق العلّتين، و بالجملة ينفي هذا المعنى ظاهر اللفظ فإنّه ينفي مساواة الحياة و الموت في الحكم هذا.

و الظاهر من هذين الوجهين هو الثاني، فإنّ الجهات الراجعة إلى تصدّي الأمير- عليه السلام- مفروغ عنها و موكولة إلى محلّها من كونه مثلا في مال من يحتاج إلى وليّ كالميّت و الصغير و الغائب و الممتنع، فالسؤال ممحّض في حكم أصل بيع أمّ الولد، و على هذا فإطلاق رواية عمر بن يزيد لا بد من تقييده بالصحيحة.

ثمّ على فرض الغضّ و تسليم عدم ظهور الصحيحة في القيديّة

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف-: يمكن أن يقال في وجه القوّة- أي قوة المنع عن البيع حال الحياة- بعد الغضّ عن دعوى ظهور قوله: يباع في الدين في كون البائع غير المولى في ما بعد الموت: إنّ النسبة بينها و بين رواية ابن مارد المتقدّمة عموم من وجه، فيرجع إلى أصالة المنع الثابتة بما تقدّم من القاعدة المنصوصة المجمع عليها، إلى أن قال- قدّس سرّه الشريف-: فالأولى في الانتصار لمذهب المشهور أن يقال برجحان إطلاق رواية عمر بن يزيد على إطلاق رواية ابن مارد الظاهرة في عدم كون بيعها في ثمن رقبتها

كما يشهد به قوله: «فيمكث عنده ما شاء اللّٰه لم تلد منه شيئا بعد ما ملكها ثمّ يبدو له في بيعها» مع أنّ ظاهر البداء في البيع ينافي الاضطرار إليه لأجل ثمنها.

و بالجملة فبعد منع ظهور سياق الرواية في ما بعد الموت لا إشكال في رجحان دلالتها على دلالة رواية ابن مارد على المنع كما يظهر بالتأمّل، مضافا إلى اعتضادها بالشهرة المحقّقة، و المسألة محلّ إشكال، انتهى المقصود من كلامه.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: وجه كون النسبة بين الروايتين عموما من وجه اختصاص رواية ابن مارد موردا بحال حياة المولى، فإنّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 162

مفهوم الغاية فيها أنّه إن حدث عند المولى حمل بعد ما ملك الأمة فليس له بيعها، و عمومها من حيث كون البيع الممنوع في ثمن رقبتها أو غيره، و اختصاص رواية عمر بن يزيد بالبيع في ثمن الرقبة و عمومها لحال الموت و غيره، فالبيع حال الحياة في ثمن الرقبة يصير موردا للتعارض، فمقتضى إطلاق المفهوم المذكور منعه، و مقتضى إطلاق الأخيرة جوازه.

و أمّا ما ذكره- قدّس سرّه- في وجه رجحان إطلاق رواية عمر بن يزيد على رواية ابن مارد فمعارض بالمثل؛ إذ كما أنّ إطلاق رواية ابن مارد كما أفاده بالنسبة إلى البيع في ثمن الرقبة ظهور ضعيف، كذلك إطلاق رواية عمر بن يزيد لحال الحياة ظهور ضعيف، لأنّه- قدّس سرّه- جعل هذا الظهور قابلًا للإنكار، بل دعوى ظهور سياق «يباع في الدين» في ما بعد الموت، و إذن فكلّ من الظهورين في الضعف بالنسبة إلى شمولها لمورد الاجتماع متماثلان، غاية الأمر أنّ ضعف أحدهما من جهة خصوصيّة البيع في ثمن الرقبة، و ضعف الآخر

من جهة خصوصيّة حال الحياة.

و هنا وجهان آخران لرجحان إطلاق رواية عمر بن يزيد خاليان عن الخدشة المذكورة.

أحدهما: ما ذكرناه سابقا في منع الكليّة من رواية ابن مارد من جهة أنّه إذا أخذ الإطلاق في المنطوق صريحا فالمفهوم المأخوذ منه ليس إلّا قضيّة جزئيّة، فمفهوم قوله- عليه السلام-: «هي أمته إن شاء باع و إن شاء أعتق ما لم يحدث عنده حمل بعد ذلك» أنّه إن حدث الحمل ترتفع هذه الكليّة فلا ينافي ثبوت الجزئيّة، و هذا الوجه إنكار لأصل إطلاق المفهوم المذكور.

و الثاني: سلّمنا استفادة الإطلاق و الكلّية من المفهوم لكنّ اللازم مع ذلك

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 163

تقديم إطلاق رواية عمر بن يزيد، و ذلك لأنّ قضيّة منع بيع أمّ الولد في كلتا الروايتين كانت مرتكزة للسائل مع تقرير الإمام- عليه السلام- له، لكن في أحدهما مورد التقرير هو الكليّة القابلة للتخصيص.

و بعبارة أخرى: العموم القانوني الأعمّ من الإنشائي و الجدّي، فعيّن- عليه السلام- محلّ هذه الكلّية و ضرب القانون في حال حدوث الحمل في ملكه، و في الآخر وقع السؤال عن مورد تخصيص هذه الكلّيّة و أنّ المورد الكذائي مراد جدّا أو إنشاء، فيكون للثاني لسان الحكومة بالنسبة إلى الأوّل، لأنّه بصدد تعيين كميّة تلك الكلّية بحسب المراد الجدّي، فشمول أحدهما للبيع حال الحياة في ثمن الرقبة بنحو العموم المضروب للقانون، و شمول الآخر بنحو الاستثناء و الشارحيّة.

و أمّا خروج حال الموت عن مدلول الأوّل فهو من باب السكوت و عدم التعرّض لا من باب الاستثناء، نعم لو كان مدلوله أنّ المنع عن بيع أمّ الولد مخصوص بحال الحياة دون الموت كانت المعارضة في محلّها لكون كلّ منهما بصدد الاستثناء

عن القضيّة الكلّية الارتكازية القانونيّة، هذا.

ثمّ على فرض الغضّ و تسليم عدم رجحان إحدى الدلالتين على الأخرى فلا شكّ أنّ المرجع حينئذ قاعدة المنع عن بيع أمّ الولد الثابتة بالنص و الإجماع إن قلنا بثبوتها، لأنّ المرجع في المخصّص المجمل المردّد بين الأقلّ و الأكثر هو العام و إن كان الإجمال من جهة تعارض الخاصّين في مورد الاجتماع بناء على أنّ العام ليس من أحد طرفي هذا التعارض كما هو المحقّق في محلّه، و إن لم نقل بثبوت هذه القاعدة فالمرجع قاعدة «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» لا قاعدة السلطنة، لعدم كونها مشرعة، و هذا كلّه واضح.

و إنّما الكلام في أنّه على فرض ثبوت قاعدة المنع و معارضتها بوجوب أداء

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 164

الدين كما توهّم- و إن كان التوهّم على خلاف التحقيق كما أفاده شيخنا المرتضى لعدم كون وجوب الأداء مشرعا و كونه متقيّدا بالقدرة العقليّة و الشرعيّة و قاعدة المنع تنفي القدرة الشرعيّة، و بعد الغضّ عن أنّ المرجع حينئذ عمومات صحّة البيع- هل الأصل العملي ماذا؟

الذي صرّح به شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- أنّ المرجع حينئذ أصالة بقاء جواز بيعها في ثمن رقبتها قبل الاستيلاد و لا يعارضها أصالة بقاء المنع حال الاستيلاد قبل العجز عن ثمنها، لأنّ بيعها قبل العجز ليس بيعا في الدين كما لا يخفى، انتهى.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: توجيه مرامه- قدّس سرّه- أن يقال: ظاهر قوله «يباع في الدين» أخذ «في الدين» قيدا للبيع، و قوله: «نعم في ثمن رقبتها» بمنزلة أنّ البيع في ثمن الرقبة جائز، و الحاصل أنّ قيد «في الدين» من القيود المفردة للبيع، فالبيع المضطرّ إليه لأجل ثمنها فرد، و البيع

الغير المضطرّ إليه فرد آخر، فالباقي تحت قاعدة المنع يصير معنونا بغير المضطرّ إليه، و أمّا المضطرّ إليه ففي حال الموت مقطوع التخصيص و في حال الحياة مشكوكة مع عدم جريان أصالة عدم التخصيص، و قاعدة صحّة البيع أيضا يصير معنونا بالمضطرّ إليه، لأنّ الخارج عنه غيره.

و إذن فقبل الاستيلاد كانت قاعدة الصحّة في الفرد المضطرّ إليه مفيدة للحكم الجدّي و بعدها قبل العجز كانت قاعدة المنع مفيدة للجدّي في غير المضطرّ إليه و للإنشائي المشكوك التخصيص الغير المجري لأصالة عدم التخصيص في المضطرّ إليه.

فبعد العجز إن استصحب هذا الحكم الإنشائي فهو مجامع مع ذلك

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 165

الحكم الجدّي الآتي من قبل قاعدة الصحّة، لأنّهما مع القطع بهما كانا مجتمعين فكذا مع استصحابهما، و إن استصحب الحكم الجدّي فهو في الفرد الغير المضطرّ إليه، و هو مغاير مع المضطرّ إليه هذا، و لكن جعل قيد «في الدين» مفرّدا محلّ منع، فإنّ البيع فرد واحد عرفا، و الاضطرار و عدمه من حالاته و المتّبع في الاستصحاب هو العرف، مع أنّ ظاهر الدليل أيضا جعله قيدا للنسبة لا للموضوع كما هو الظاهر في سائر القيود في القضايا، فإذن فاستصحاب المنع جار دون الجواز، لانقطاعه.

و هيهنا فروع
الأوّل: قد اشترط في جواز بيع أمّ الولد في ثمن رقبتها إعسار المولى، و عدم ملك شي ء غيرها

فإن كان المدرك قوله في رواية عمر بن يزيد: «يباع في ثمن رقبتها» بتقريب أنّه لا يصدق عنوان البيع في الدين و في ثمن الرقبة إلّا عند انحصار المخلص في البيع، ففيه: أنّه يصدق هذا العنوان في صورة عدم الانحصار لكن كان أمّ الولد بالبيع أقرب من غيرها، كما لو ملك قرية و أمّ ولد و دار الأمر بين بيع القرية أو أمّ الولد، فإنّه يصدق لو اختار الثاني

أنّه باعها في الدين و في ثمن رقبتها.

و إن كان المدرك قوله- عليه السلام- في صحيحة عمر بن يزيد: «و لم يدع من المال ما يؤدّي عنه» فمضافا إلى اختصاصها بحال الموت و المدّعى أعمّ- مقتضاها عدم شي ء غيرها حتّى من المستثنيات؛ لأنّها أيضا شي ء يؤدّي الدين عن صاحبها، غاية الأمر لا يجب عليه صرفها فيه، فما ذهب إليه المشهور من اعتبار عدم ما زاد على المستثنيات في حال الحياة لا يتمّ على كلّ حال.

اللّهمّ إلّا أن نتشبّث لإثبات أصل الإعسار بالمناسبة المقاميّة و هي معلوميّة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 166

ملاحظة الشارع الجمع بين الحقّين مهما أمكن، أعني حقّ الديّان و حقّ أمّ الولد، و تقديم الأوّل على الثاني عند الدوران و هو صورة الإعسار، و لإثبات عدم مضرّية المستثنيات بما هو المعلوم حسب الارتكاز من أنّ الشارع لاحظ حقّ الدائن في إسقاط حقّ أمّ الولد، و إذا كان حقّ الدائن مزاحما بحقّ المالك فكيف يزاحم حقّ المالك ما يزاحمه حقّ الدائن أعني حقّ أمّ الولد؟

الثاني: لا إشكال في ما إذا كان نفس الثمن دينا على المولى

و أمّا إذا استدان فاشتراها و أدّى ثمنها أو اشتراها في الذمّة ثم استدان و أدّاه فظاهر قوله في رواية عمر بن يزيد: «في ثمن رقبتها» شمول هذين القسمين أيضا؛ إذ يصدق فيها أنّ البيع لأجل الثمن، و مقتضى قوله- عليه السلام- في صحيحة عمر بن يزيد: «و لم يؤدّ ثمنها» عدم شمولهما؛ إذ يصدق فيهما أنّه أدّى الثمن، و لا يبعد أن يقال: إنّ ظهور الثاني أقوى و التصرّف في الأوّل أهون، هذا بالنسبة إلى حال الموت، و أمّا حال الحياة فإن ثبت عدم الفصل فكذلك و إلّا فالمتّبع هو الرواية لاختصاص الصحيحة بحال الموت، و

من هنا ظهر أنّ الفرق بين القسمين لا وجه له.

الثالث: لو أدّى بعض الثمن و بقي بعضه دينا عليه

فمقتضى قوله- عليه السلام- «لم يؤدّ ثمنها» عدم شمول هذه الصورة، فإنّ الثمن و إن كان اسما للمجموع و يصدق أنّه ما ادّى المجموع، و لكنّ المجموعيّة عند العرف في هذا المقام غير ملحوظة، ألا ترى أنّ من أكل بعض القرصة لا يصحّ أن يقال ما أكل القرصة؟

و مقتضى قوله: «في ثمن رقبتها» شمولها، و الظاهر هنا أظهريّة الأخير على الأوّل، و هذا بالنسبة إلى ما بعد الموت و أمّا قبله فكما تقدّم.

الرابع: لا إشكال في ما إذا تبرّع المتبرّع و أدّى الثمن

إنّما الكلام في ما إذا أدّى الولد ثمن نصيبه،

فقال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-: انعتق عليه و حكم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 167

الباقي يعلم من مسائل السراية.

و استشكل عليه بأنّه لو قصد بذلك شراء النصيب فلا معنى لشراء ما هو ملكه، نعم بناء على البقاء على ملك الميّت يصحّ لكنّه خلاف التحقيق، و لو قصد الفكّ فاللازم انفكاك مقدار نصيبه مشاعا في كلّ الأمة فينعتق مقدار نصيبه من هذا المقدار لا أنّه ينعتق تمام هذا المقدار؛ لأنّ الدين مقسط على العين، فالنصف المشاع منها متعلّق النصف و الثلث المشاع متعلّق الثلث و هكذا، و بعد كون المكسور مشاعة في الكلّ لا وجه لتعيّن بعضها في نصيب الولد بقصده، إذ هو نظير دفع أحد الشركاء مالا لاستخلاص مقدار حقّه من العين المغصوبة.

و التحقيق أن يقال: إنّ الموت سبب لورود أمرين في عرض واحد على العين أحدهما ملك الورثة و الآخر حقّ الديّان، فكما أنّ ملك الولد مثلا يتعلّق بالثلث من أصل الأمة كذلك حقّ الديّان أيضا وارد على عين هذا، فالمعروض للأمرين شي ء واحد، نعم لو كان ملك الوارث متقدّما في الورود على حقّ الديّان كان متعلّق ملك الولد مثلا ثلث الأصل و

متعلّق حقّهم هو الثلث المضاف إلى العين المملوكة، و لازم هذا هو الإشاعة في الإشاعة فيكون كلّ من أثلاث متعلّق الحق مشاعا في الأثلاث المملوكة مثلا لو كان هنا ثلاثة أبناء.

الخامس: لو امتنع المولى الموسر من دفع الثمن بغير عذر فهل للبائع بيع أمّ الولد مقاصّة مطلقا أو بإذن الحاكم؟

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- له وجه، و ربّما يستوجه خلافه، لأنّ المنع لحقّ أمّ الولد، فلا يسقط بامتناع المولى، و لظاهر الفتاوى و تغليب جانب الحرمة و في الجميع نظر انتهى.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: أمّا الوجه المقتضي للجواز فهو صدق عنوان كون البيع في ثمن رقبتها، إذ لا فرق بين عدم المال رأسا و وجوده

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 168

مع امتناع المالك عن الأداء، و أمّا وجه النظر في الوجه الأوّل من الوجوه الثلاثة للمنع فلم يعلم وجهه، إذ بعد ما علمنا أنّ منع الشارع لمراعاة حقّ أمّ الولد، فسقوط هذا الحقّ إن كان بواسطة قصور المولى و عدم إمكان دفع الثمن كان له وجه، لا ما إذا قصّر المولى و امتنع مع يساره بغير عذر، و الحاصل: أنّ الرواية بواسطة الاحتفاف بهذه القرينة منصرفة عن شمول هذه الصورة.

ثمّ إنّ هنا وجها آخر للمنع أقوى من هذا الوجه و هو أنّ المقاصّة حيث إنّها من باب الولاية كان مشروعيّتها في موارد جواز تصدّي نفس المالك، و في المقام لو فرض أنّ المولى أراد التصدّي بملاحظة كونه ممتنعا فلا يشكّ أحد في عدم استفادة جوازه من الرواية فكيف يجوز لغيره التصدّي بعنوان الولاية عليه في ما ليس له مباشرته.

السادس: قد علم حال البيع في ثمن رقبتها، و هل يجوز بيع أمّ الولد في الدين الآخر أو لا؟

قد نقل الإجماع على العدم مع حياة المولى، و أمّا مع موته فقد حكي عن شيخ الطائفة- قدّس سرّه- جوازه في الدين المستوعب، و المهمّ ملاحظة مقتضى أدلّة الباب.

فنقول و باللّٰه المستعان: لا إشكال في أنّ مقتضى روايتي عمر بن يزيد مفهوما و منطوقا نفي الجواز في الدين الآخر غير ثمن الرقبة، و ليس بإزائها إلّا عموم المفهوم في مقطوعة يونس

في «أمّ ولد ليس لها ولد مات ولدها و مات عنها صاحبها و لم يعتقها هل يجوز لأحد تزويجها؟ قال: لا هي أمة لا يحلّ لأحد تزويجها إلّا بعتق من الورثة فإن كان لها ولد و ليس على الميّت دين فهي للولد، و إذا ملكها الولد فقد عتقت بملك ولدها لها، و إن كانت بين شركاء فقد عتقت من نصيب ولدها و تستسعى في بقية ثمنها» «1».

______________________________

(1)- الوسائل: ج 16، الباب 5، باب أم الولد إذا مات ولدها قبل أبيه، ص 126، ح 3.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 169

لكنّ المعارضة إنّما هي لو جعل المفهوم أنّه إن كان على الميّت دين فليس للولد، يعني يكون للدائن بيعها، و لكن يمكن منع هذا و أنّه لا معارضة في البين أصلا، إذ الحكم الثابت في جانب المفهوم نقيض المذكور في جانب المنطوق و المذكور فيه أنّه يصير للولد و ينعتق عليه، فالثابت في المفهوم رفع هذا، يعني ليس له حتّى ينعتق عليه.

و الحاصل منه بقائها و عدم انعتقاها، و لا منافاة لهذا مع ممنوعيّة بيعها كما هو مقتضى الأوّلين، و حيث إنّ المنع عن الانعتاق معلوم أنّه لرعاية حال الديّان و عدم ذهاب حقّهم من البين رأسا يدور الأمر بحسب مقام الثبوت بين أمرين، أحدهما:

إلزام الولد لدفع القيمة ثمّ الانعتاق عليه، و الثاني: استسعاء الدائن أمّ الولد إلى أن استوفى دينه ثمّ ينعتق.

و الحاصل: أنّه لو لم يكن في البين إلّا عمومات المنع عن بيع أمّ الولد و أدلّة ملك الوارث للتركة، و أدلّة انعتاق الأمة على ولدها من نصيبه لقلنا بأنّ حال أمّ الولد كحال الكفن و سائر مؤن التجهيز في عدم وقوعها متعلّقا لحقّ

الديّان أصلا فيملك بالموت و ينعتق قهرا كما في صورة عدم الدين، أو قلنا بأنّها تنعتق بالضمان فيضمن الولد قيمتها للدائن، لكنّ الرواية نفت احتمال كونها كالكفن حتّى لا يقع موردا لحقّ الديّان، و كذا احتمال كونها منعتقة بالضمان على الولد، و الدليلان السابقان أيضا ينفيان البيع فيبقى الاحتمالان المذكوران.

و أمّا الترجيح بين هذين الاحتمالين فيمكن أن يقال: إنّ الأوّل منهما ليس مقتضى شي ء من القواعد، فمقتضى الأصل خلافه، و أمّا الثاني فهو من شئون كون الأمة باقية لرعاية حقّ الديّان، فإنّه إذا عرض على العرف هاتان القضيتان أعني قولنا: هذه الأمة لا ينعتق على الولد بواسطة استظهار الديان، و قولنا: لكنّها

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 170

لا يجوز بيعها، يفهمون منهما أنّ الديّان يأخذون دينهم من منافعها، فإنّ ذلك مقتضى حرمانهم من عينها و بقائها وثيقة لدينهم بخلاف إجبار الولد، فإنّه أجنبي عن كون أمّها وثيقة، فإنّ معناه ابتلاء الأمّ دون الولد، هذا.

و لكن هنا رواية ربّما يستظهر منها تعيين الوجه الأوّل أعني إجبار الولد بدفع القيمة. و هي ما رواه الشيخ في الموثّق عن أبي بصير «قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السلام- عن رجل اشترى جارية فولدت منه ولدا فمات؟ قال: إن شاء أن يبيعها باعها، و إن مات مولاها و عليه دين قوّمت على ابنها و إن كان ولدها صغيرا انتظر به حتى يكبر ثمّ يجبر على قيمتها، فإن مات ولدها بيعت في الميراث إن شاء الورثة» «1».

و ظاهر الانتظار بالصغير إلى حين الكبر أنّ هذا مجرّد تكليف بدون اشتماله على الضمان الوضعي و إلّا لما اختصّ بحال الكبر و كان المتصدّي وليّه و لكنّ التعبير بالإجبار يناسب الحقّية، فيكون

التأخير إلى زمان الكبر و عدم المطالبة قبله تعبّدي يكون تقيّد.

و الأولى التيمّن بذكر الأخبار المرويّة عن أبي بصير فإنّها أربع روايات، الأولى: ما ذكر، و الثانية: ما رواه الشيخ في الموثّق أيضا على المحكي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام-: قال بعد كلام لا يتعلّق بالمسألة: «و أي رجل اشترى جارية فولدت منه ولدا فمات إن شاء أن يبيعها في الدين الذي يكون على مولاها من ثمنها باعها، و إن كان لها ولد قوّمت على ابنها من نصيبه، و إن كان ابنها صغيرا انتظر به حتّى يكبر ثمّ يجبر على ثمنها، و إن مات ابنها قبل أمّه بيعت في

______________________________

(1)- الوسائل: ج 13، الباب 24، من أبواب بيع الحيوان، ص 52، ح 5.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 171

ميراثه إن شاء الورثة» «1».

و الثالثة: ما رواه أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- في رجل اشترى جارية يطأها فولدت له أولادا فمات ولدها قال: إن شاءوا باعوها في الدين الذي يكون على مولاها من ثمنها، و إن كان لها ولد قوّمت على ولدها من نصيبه» «2».

و له في هذه المضامين أيضا رواية أخرى و هي الرابعة و هي ما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي بصير أيضا: «قال: سئل أبو عبد اللّٰه- عليه السلام- و أنا حاضر عن رجل باع من رجل جارية بكرا إلى سنة فلمّا قبضها المشتري أعتقها من الغد و تزوّجها و جعل مهرها عتقها ثمّ مات بعد ذلك بشهر؟ فقال أبو عبد اللّٰه- عليه السلام-:

إن كان للذي اشتراها سنة مال أو عقده يوم اشتراها و أعتقها تحيط بقضاء ما عليه من الدين في رقبتها

فإنّ عتقه و تزوجيه جائز، و إن لم يكن للذي اشتراها و تزوّجها مال و لا عقده يوم مات تحيط بقضاء ما عليه من الدين في رقبتها، فإنّ عتقه و نكاحه باطل؛ لأنّه أعتق ما لا يملك و أرى أنّها رقّ لمولاها الأوّل. قيل له فإن كانت قد علقت من الذي أعتقها و تزوّجها ما حال ما في بطنها؟ فقال: الذي في بطنها مع أمّه كهيئتها» «3».

و هنا روايتان أخريان لمحمّد بن قيس واردتان في هذه المضامين، أولاهما ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد بن قيس «عن أبي جعفر- عليه السلام- قال: قضى عليّ- عليه السلام- أيّما رجل ترك سريّة لها ولد أو في بطنها ولد أو لا ولد لها فإن كان أعتقها ربّها عتقت و إن لم يعتقها حتّى توفّى فقد سبق فيها كتاب اللّه و كتاب اللّه

______________________________

(1)- المصدر نفسه: ج 16، الباب 6، باب حكم أمّ الولد إذا مات سيّدها، ص 108، ح 4.

(2)- الوسائل: ج 13، الباب 24، من أبواب بيع الحيوان، ص 52، ح 4 و 5.

(3)- المصدر نفسه: ج 14، الباب 71، أبواب نكاح العبيد و الإماء، ص 582، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 172

أحق فإن كان لها ولد و ترك مالا جعلت في نصيب ولدها و يمسكها أولياؤها حتّى يكبر الولد فيكون هو الذي يعتقها إن شاء و يكونون هم الذين يرثون ولدها ما دامت أمة، فإن أعتقها ولدها عتقت، و إن توفّى عنها ولدها و لم يعتقها فإن شاءوا أرقّوا و إن شاءوا أعتقوا» «1».

و لما ذكر الشيخ في الكتابين هذا الحديث حمله على ما إذا كان ثمن الجارية دينا على المولى و لم

يقض شيئا فإنّها توقف إلى أن يبلغ ولدها فإن أعتقها- بأن يقضي دين أبيه- انعتقت و إن لم يفعل و مات قبل البلوغ بيعت في ثمنها إن شاءوا و إن شاءوا اعتقوها و ضمنوا الدين و استدل على ذلك بالموثق و بما دلّ على انعتاق الأمّ بملك الولد مع الاستسعاء أو بدونه.

و ثانيهما: ما رواه الصدوق في الحسن كالصحيح عن محمّد بن قيس عنه- عليه السلام- قال: «قال أمير المؤمنين- عليه السلام-: أيّما رجل ترك سرية لها ولدا أو في بطنها ولد أو لا ولد لها فإن كان أعتقها ربّها عتقت و إن لم يعتقها حتّى توفّى فقد سبق فيها كتاب اللّٰه و كتاب اللّٰه عزّ و جلّ أحق، فإن كان لها ولد و ترك مالا جعلت في نصيب ولدها و يمسكها أولياؤها حتّى يكبر الولد فيكون هو الذي يعتقها إن شاء و يكونون هم يرثون ولدها ما دامت أمة، فإن أعتقها ولدها عتقت، و إن توفّى عنها ولدها و لم يعتقها فإن شاءوا أرقّوا و إن شاءوا أعتقوا، و قضى أمير المؤمنين- عليه السلام- في رجل ترك جارية و قد ولدت منه ابنة و هي صغيرة غير أنّها تبين الكلام فأعتقت أمّها فتخاصم فيها مولى أبي الجارية فأجاز عتقها لأمّها» «2».

و رواه الكليني و الشيخ في الحسن كالصحيح عن محمّد بن قيس عنه- عليه

______________________________

(1)- الوسائل: ج 16، الباب 6، أن أمّ الولد إذا كان ولدها حيّا، ص 107 ح 1 و 2 و ص 128 ح 2.

(2)- المصدر نفسه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 173

السلام- نحو ذلك و أسقطا قوله: و يمسكها إلى قوله و قضى.

ثمّ التكلّم في وجه الجمع بين هذه الأخبار

و رفع الاختلاف عمّا بينها على عهدة مقام آخر، و الذي على عهدة هذه المسألة هو التكلّم في الخبر الأوّل من أخبار أبي بصير الذي هو مستند ابن حمزة- قدّس سرّه الشريف- القائل بأنّه متى كان على الميّت دين في غير ثمن رقبتها و لم يخلف سواها قوّمت على ولدها، فإذا بلغ الزم أداءها، فإن لم يكن له مال استسعى فيه، فإن مات قبل البلوغ بيعت في الدين.

فنقول: أمّا سند الرواية فقد عرفت موثقيّتها، و أمّا دلالتها فواضحة، لكنّ الإشكال في أنّها غير معمول بها على ظاهرها، و ذلك لأنّه يلزم عليه- كما نبّه عليه صاحب المقابيس- قدّس سرّه الشريف- في الردّ على كلام صاحب المسالك أنّه متى كان نصيب الولد من أصل التركة بأجمعها يساوي قيمة الأمّ كما إذا كان تمام التركة من أمّ الولد و غيرها ثلاث مائة دينار و كان الورثة ثلاثة أبناء أحدهم من أمّ الولد فإنّ نصيب هذا الولد من المجموع مائة و فرض أنّ قيمة الأمّ أيضا مائة و فرض أنّ الدين أيضا مائة مثلا تقوّم عليه و الزم بأداء المائة إلى الدائن من ماله الآخر غير الإرث، فإنّه نصيبه من سائر الإرث أيضا يقع في الأمّ و ينعتق من نصيب ولدها من تمام التركة فيصير تمام ما بقي خالصا للابنين الآخرين بدون تعلّق دين بهما أصلا.

و هذا الولد علاوة على انعتاق أمّها قد لزمه تمام الدين في ماله، و كذلك لو فرض أنّ تمام نصيب الولد من تمام التركة يساوي نصف قيمة الأمة أو ثلثها أو غير ذلك، كما إذا فرض في المثال المتقدّم أنّ قيمة الأمة كانت مائتين و كذلك الدين، فإنّه يلزمه أداء المائة من ماله.

كتاب

البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 174

و لو فرض في المثال الأوّل أنّ الورثة ابنان فنصيب كلّ مائة و خمسون فتساوي قيمة الأمّ مع زيادة النصف فيسلّم هذا النصف الذي هو الخمسون إلى الدائن و يطالب الولد بالخمسين الباقية، هذا إن اقتصرنا في التقويم على الولد بمقدار قيمة نصيبه من أم الولد الذي هو مساوق مع نصيبه من مجموع التركة.

و إن بنينا على ما هو ظاهر الخبر من التقويم المطلق بدون التقييد بنصيبه فاللازم أشنع، إذ يلزم في المثال الوسط تحميل تمام المائتين على الولد في ماله إن كان له مال و إلّا ففي ذمّته، و هذه اللوازم ممّا نقطع بمخالفتها للواقع، و تخصيص الرواية بمورد وحدة الوارث تخصيص و إخراج للمورد، فإنّ ذيلها صريح في فرض تعدّد الورثة.

و إذن فاللازم طرح الرواية و التكلّم في الجمع بين عموم «لا تباع» لما بعد الموت بالنسبة إلى الدين غير ثمن الرقبة و بين مقطوعة يونس المتقدّمة، و قد عرفت أنّ مقتضى مفهوم الشرطيّة فيها- أعني قوله- عليه السلام-: «فإن كان لها ولد و ليس على الميّت دين فهي للولد، و إذا ملكها الولد فقد عتقت إلخ»- أنّه لو كان للميّت دين لم يثبت الحكم المذكور.

و حينئذ فإن قلنا- في صورة استغراق الدين- بعدم انتقال التركة إلى الورثة فالمعنى واضح، يعني لا يملكها الولد حتى ينعتق، و إن قلنا بمقتضى القواعد بالانتقال إليهم فالمعنى أنّه ليس على حدّ الملك المستقرّ الثابت الذي يقدر المالك على الاستنفاع به و يكون مطلق العنان فيه، و بواسطة انعدام ذلك لا يتحقّق الانعتاق لعدم الموضوع، إذا المفروض ترتّبه على هذا النحو من الملك في جانب المنطوق.

و بالجملة فعلى كلّ حال مفاد المفهوم

عدم انعتاق أمّ الولد في صورة وجود

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 175

الدين، و هذا و إن كان مخالفا للظاهر الأوّلي لدليل المنع عن بيع أمّ الولد- حيث إنّ ظاهره كون أمّ الولد كمئونة التجهيز لا يتعلّق به حقّ الديّان أصلا- لكن بعد ملاحظة حكم الشرع بعدم الانعتاق المعلم كونه لرعاية حال الديان يكون وجه الجمع استيفاء الدين من الأمة بغير وجه البيع و سائر النواقل الواردة على العين إمّا باستخدامها أو إجارتها في مدة طويلة يفي وجهها بالدين، أو يتعلّق ذلك في ذمّتها و رقبتها فتسعى في فكاك رقبتها.

لكن لا بدّ من المراجعة و ملاحظة أنّ هذا المعنى أعني عدم الانعتاق إلى أن يوفي الدين و تحقّقه بعد ذلك ليس على خلافه إجماع، هذا كلّه هو التكلّم في المسألة على ما هو المختار في الجمع بين أخبارها.

و أمّا على طريقة القوم- رضوان اللّٰه عليهم- حيث جعلوا المقطوعة معارضة لأخبار «لا تباع». فاعلم أنّ شيخ الطائفة- قدّس سرّه الشريف- في المبسوط جوّز البيع إذا كان الدين مستغرقا للتركة بحيث لا يفضل عنه شي ء يتعلّق به الإرث.

و حجّيته على ذلك- على ما حكي- ما دلّ على أنّها تعتق من نصيب ولدها كروايات أبي بصير و ابن قيس المتقدّمة، و كذا ما في بعض الأخبار أنّ عليا- عليه السلام- أوصى في أمّهات الأولاد التي كان يطوف عليهنّ من كان فيهنّ لها ولد فهي من نصيب ولدها، و هذا و إن ذكر في الوصيّة الخاصّة لكن معلوم أنّه من الأحكام العامّة، و قد أجمع الإماميّة على أنّها لا تتحرّر بموت المولى، و المعروف أنّها تعتق من نصيب ولدها كما دلّت عليه تلك الروايات، و من المعلوم أنّه

لا نصيب له أصلا مع استيعاب الدين للتركة بحيث لا يفضل منها شي ء للورثة، إذ لا ريب في تقدّم الدين على الإرث للإجماع، و للآية و للنصوص الكثيرة، فإذا انتفى العتق الذي كان هو الغرض من منع المولى و الورثة من التصرّفات، و ليس بعد موت المولى أمر يترقّب

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 176

للإعتاق تعيّن جواز البيع، إذ الواسطة بينهما غير معقولة هنا، و هذا هو المدّعى، و يؤيّد ذلك أيضا مقطوعة يونس المتقدّمة بعد حملها على صورة استغراق الدين.

و قد حاول الشهيد الثاني- قدّس سرّه الشريف- للجواب عن هذا الدليل و قال: إنّ الأقوى انتقال التركة إلى الوارث مطلقا و إن منع من التصرّف فيها على تقدير استغراق الدين فيعتق نصيب الولد منها، كما لو لم يكن دين و يلزمه أداء مقدار قيمة النصيب من ماله، انتهى.

و قد قدح في هذا الجواب صاحب المقابيس- قدّس سرّه الشريف- من وجوه أربعة:

أحدها: أنّ المستفاد ممّا دلّ على أنها تعتق من نصيب ولدها أنّ ذلك من جهة استحقاقه لذلك النصيب من غير أن تقوّم عليه أصلا، و إنّما الكلام في باقي الحصص إذا لم يف نصيبه من جميع التركة بقيمة أمّه هل تقوّم عليه أو تسعى هي في أداء قيمتها، و هذا مخالف لما ذكره.

ثانيها: أنّ النصيب إذا نسب إلى الوارث فلا يراد منه إلّا ما يفضل من التركة بعد أداء الدين و سائر ما يخرج من الأصل، و المقصود منه النصيب المستقرّ الثابت لا النصيب الذي يحكم بتملّك الوارث له تفصّيا من لزوم بقاء الملك بلا مالك.

و ثالثها: أنّ ما ادّعاه من الانعتاق على الولد بمثل هذا الملك ممّا لم ينصّ عليه الأصحاب و

لا دلّ عليه دليل معتبر، و ما يوهمه الأخبار و كلام الأصحاب من إطلاق الملك فالظاهر أنّ المراد به غير هذا القسم، و لذا لا يحكم بانعتاق العبد الموقوف على من ينعتق عليه بناء على صحّة الوقف و انتقال الموقوف إلى الموقوف عليه.

و رابعها: ما أشرنا إليه في الجواب عن التمسّك بخبر أبي بصير من لزوم ما لا يقول به أحد من الأصحاب.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 177

و قد ناقش في هذه الوجوه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف، أمّا في الوجه الأوّل: فبأنّ مقتضى دليل المنع عن بيع أمّ الولد ليس بأزيد من أنّه ليس للوارث دفعها وفاء عن دين مورّثه و لا للدائن أخذها و لو مع امتناع الوارث عن فكّها بالقيمة، و بالجملة مقطوعية يد الوارث و الدائن عن التصرّف العيني فيها، فيترتّب على هذا الملك الذي ثبت للوارث الانعتاق، لأنّ الفرض أنّه كلّما ثبت ملك غير مزاحم بحقّ الديّان يتعقّبه الانعتاق، و قد فرض هنا حصوله، فيكون الانعتاق على قاعدته من دون لزوم أحد من الوجه الثاني و الثالث. و الحاصل: دليل المنع بإطلاقه يصير منقّحا لموضوع دليل الانعتاق على الولد من نصيبه الثابت المستقرّ المملوك له بغير مزاحم.

ثمّ بعد ذلك إمّا أن نقول بأنّ الدائن كما صار محروما عن العين فهو محروم عن القيمة أيضا أمّا في ذمّة الولد أو في رقبتها فيكون حال أمّ الولد حال مؤنة التجهيز المنقطع عنها حقّ الدائن عينا و قيمة، و إمّا أن نقول بأنّه و إن كان محروما عن العين لكنّه مستحق للقيمة إمّا في ذمّة الولد لأنّه الذي تلفت العين في ملكه بالانعتاق عليه، و إمّا في ذمّة المملوكة فيكون حال الدائن

حال الزوجة حيث إنّها محرومة عن إرث عين البناء دون قيمتها.

أو نقول: إنّه و إن كان محروما عن التشبّث بالعين لكنّه مستحقّ للمنافع فلهم أن يؤجروها مدّة طويلة يفي أجرتها بدينهم فيكون حالهم حال الغرماء بالنسبة إلى أمّ ولد المفلس على ما قيل، فالوجه الأوّل طرح لما دلّ على بقاء حقّ الديّان متعلّقا بالتركة و عدم سقوطه بالمرّة كما في مؤنة التجهيز، فيدور الأمر بين الوجهين الأخيرين و هو التعلّق بالقيمة بأحد وجهيها و التعلّق بالمنافع، فتكون الأمة منعتقة على كلّ حال مع استحقاق قيمتها أو منفعتها، هذا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 178

و استشكل على هذا الكلام شيخنا الأستاذ- أطال اللّٰه أيّام أبحاثه الشريفة- بأنّ شيئا من الوجهين بعد فرض الانعتاق لا يجدي في العمل، بدليل بقاء حقّ الديّان متعلّقا بالتركة، بل هما مع الوجه الأوّل في طرحه مشتركان، نعم لو قيل بعدم الانعتاق و بقائها مملوكة كان القول باستحقاق منافعها أخذا بذلك الدليل.

أمّا وجه عدم الأخذ مع الانعتاق في كلتا صورتيه من مستحقيّة القيمة و مستحقيّة المنفعة أنّ التعلّق بشي ء يدخل تحت عنوان متروك الميّت عمل بذلك الدليل، و أمّا التعلّق بأمر أجنبي عن المتروك فلا، و مقامنا من الثاني، أمّا على تقدير التعلّق بالقيمة فلأنّ القيمة سواء اعتبرت في ذمّة الولد أم في ذمّة المملوكة ليست من متروكات الميّت حتّى يكون تعلّق حقّ الدائن بها تعلّقا بمتروك الميّت و هذا واضح.

و أمّا المنافع فهي و إن كانت مالا في حدّ نفسها لكن يمكن منع صدق المتروك عليها في المقام؛ لأنّ انتقال المنافع إلى الوارث إمّا يكون من باب التلقّي من الميّت فهو يتلقّى منه شيئين في عرض واحد، أحدهما العين و الآخر

المنفعة، أو يقال كما هو الظاهر أنّ المنفعة تابعة للعين، فبالإرث، لا ينتقل إلّا العين و ملك العين من حكمه عرفا و شرعا ملك المنافع كما هو الحال في النواقل الاختيارية الواردة على العين حيث إنّها مستقلّة بنقلها، و انتقال المنافع يكون حكما و أثرا لانتقال العين.

فإن قلنا بالأوّل فهنا ثلاثة آنات، آن الحياة و آن الموت و آن ملك الوارث، فإن اعتبر بالإضافة إلى آن الحياة يخرج عن عنوان كون المال منتقلا من الميّت إلى الحيّ، فيكون انتقالا من الحيّ إلى الحيّ، فلا بدّ من اعتبار الإضافة إلى آن الموت في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 179

صدق هذا العنوان، و لا يخفى أنّ الملكيّة المعتبرة آنا ما للميّت لتحقّق موضوع الإرث ملكيّة عارية عن ملك المنافع بل الملكيّة الآنية التي نقولها في كلّ مقام حفظا للقواعد كما في ملك من ينعتق عليه لحفظ «لا عتق إلّا في ملك» و غير ذلك كلّها ليست بملكيّة بالحقيقة؛ لأنّه اعتبار صرف في ذات الرقبة المسلوبة عن كلّ المنافع لا بمعنى ملاحظة سلبها، بل لعدم قابليّتها في الآن العقلي لشي ء من الانتفاعات فلا يليق حقيقة اسم الملكيّة بالنسبة إلى الذات أيضا، ففي الحقيقة يكون تخصيصا لأدلّة لا عتق إلّا في ملك و نحوه في اللبّ بلسان الحكومة.

و إن قلنا بالثاني: فالتلقّي من الميّت محتاج إلى استقرار ملك الوارث للعين المتلقّاة من الميّت، و أمّا إذا كانت هو أيضا ملكا آنا ما لحفظ قاعدة لا عتق إلّا في ملك فلا تصل النوبة إلى تحقّق ملك المنافع تبعا للعين بل يعدمها العتق المترتّب قهرا على ذلك الملك الآني.

نعم لو استقرّ ملك الوارث للعين صدق أنّ ملكه للمنافع من تبعة

متروكات الميّت يعني أنّه لما ملك العين من الميّت فقد ملك منافعها، فالمنافع و إن لم تكن متروكا استقلاليّا لكن يصدق عليه أنّه من شئونه و تبعاته، و من هنا يظهر صدق ما ادّعينا من حفظ قاعدة بقاء حقّ الديّان متعلّقا بالتركة مع فرض تأخّر الانعتاق و استقرار المملوكيّة، و لهذا يكون استنفاع الديّان لأعيان التركة مثل سكنى الدار و استخدام العبد أو إجارتهما وجها من وجوه أخذ دينهم من تركة الميّت «1».

و على هذا فقد تحقّق أنّا و لو أغمضنا عن المقطوعة إمّا للخدشة في سندها و إمّا في دلالتها فمجرّد ملاحظة الجمع بين دليل لاتباع و دليل بقاء حقّ الديّان لا يقتضي الانعتاق ثمّ القول بتعلّق حقّهم بأحد الأمرين لما عرفت من أنّ ذلك ليس

______________________________

(1)- و يأتي للمقام زيادة توضيح إن شاء اللّه تعالى فانتظر منه- دام ظلّه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 180

حفظ ظهور للدليل الثاني، فالجمع يقتضي تخصيص الأوّل للثاني و أنّ أمّ الولد بالنسبة إلى الديّان كمئونة التجهيز و لو كان هذا خلاف الإجماع و أنّ حقّ الديّان لا يسقط رأسا.

و بعبارة أخرى لم يخصّص عموم دليل حقّ الديّان في التركة، فهذا يكشف عن بقاء الأمة على المملوكية حتّى يستوفوا دينهم من منافعها بالاستخدام أو إجازتهم إيّاها، أو تكون الأمة تسعى في فكاك رقبتها، فيكون هذا وجه الجمع بين لاتباع و العموم المذكور، و لو كان تأخّر الانعتاق أيضا خلاف الإجماع و كان منعقدا على تعجيله فيكون حكما تعبّديّا خاصّا بمورده و ليس من باب العمل بأدلّة ثبوت حقّ الديّان في التركة.

ثمّ إنّه- قدّس سرّه الشريف- أجاب عن الإشكال الرابع و هو لزوم ما لا يلتزمه أحد

بأنّ ذلك

إنّما يلزم من الجزم بثبوت القيمة بعد الانعتاق متعلّقا بذمّة الولد، و أمّا إن قلنا باستسعائها فلا يلزم شي ء، ثمّ قال: فالضابط حينئذ أنّه ينعتق على الولد ما لم يتعقّبه ضمان من نصيبه، فإن كان مجموع نصيبه أو بعض نصيبه يملكه مع ضمان أداء ما قابله من الدين كان ذلك في رقبتها.

قال شيخنا الأستاذ- أدام اللّه أيّام إفاداته الشريفة-: أنّ مقصوده- قدّس سرّه- ليس رفع هذا الإشكال عن المسالك بل في مقام أنّ هذا الإشكال لا يصحّح ما ذهب إليه الشيخ- قدّس سرّه- كما كان المنتصر بمقام تصحيحه، فإنّه قال بعدم الانعتاق و لا يلزم من هذا الاشكال صحّته بل معه يصحّ قول المسالك بالانعتاق و إن كان يبقى عليه الإشكال في حرمة ثبوت القيمة على الولد.

فحاصل معنى العبارة أنّ القول بالانعتاق لازم على كلّ تقدير، غاية الأمر أنّ الضابط بعد هذا الإشكال يصير أنّ أمّ الولد تنعتق على ضرر الولد حيث لم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 181

يتعقّبه و لم يلزمه ضمان من نصيبه العائد إليه من مجموع التركة، و وجه ضرريّة الانعتاق أنّه لولا الانعتاق كان مالكا لملك بلا مزاحم.

و أمّا إذا تعقّبه و لزمه من ملك النصيب ضمان أداء ما قابله من الدين يعني أنّه لا يستقرّ له هذا الملك إلّا بالضمان و أداء ما قابل الدين، فحينئذ لا يكون الانعتاق ضرريّا عليه، فإنّه لو لا الانعتاق لم يكن له ملك بلا مقابل. فعلى كلّ حال لم يسلّم له ملك مقابل الدين بدون تفاوت بين صورة الانعتاق و عدمه؛ لأنّه في صورة عدمه إمّا يسلّم الأمة إلى الدائن أو يدفع قيمتها من ماله، و في صورة الانعتاق أيضا خرجت الأمة عن

ملكه بدون لزوم شي ء عليه؛ لأنّ حقّ الدائن إنّما انتقل إلى ذمّة المملوكة، فلم يتفاوت حال الولد في الصورتين، و على هذا يصير حال الولد كحال غيره لو كان غيره أيضا وارثا لشي ء منها بالإرث، فإنّه أيضا لا يملك نصيبه منها مجّانا، بل إمّا يدفع إلى الديّان ما قابل نصيبه من الدين من ماله فتصير أمّ الولد كما لو لم يكن دين فينعتق نصيب غير الولد عليه مع ضمان الولد أو ضمانها قيمة حصّته التي فكّها من الديّان على الخلاف المقرّر في محلّه، و إمّا كلّي بينها و بين الديّان فيتعيّن عليهم مع ضمان أحدهما، و إمّا حرمان الديّان عنها عينا و قيمة و إرث الورثة لها و أخذ غير ولدها قيمة حصّته منها أو من ولدها و صرفها في غير الدين، فمخالف لأدلّة ثبوت حقّ الديّان من غير أن يقتضي النهي عن التصرّف في أمّ الولد لذلك.

و من موارد القسم الأوّل أيضا تعلّق كفن مولاها بها

اعلم أنّ من الممكن ثبوتا مع قطع النظر عن مقام الإثبات أن يكون حقّ الكفن مقدّما على حقّ الاستيلاد في صورة و حقّ الاستيلاد عليه في غيرها، و ليس الدليل على تقديم حقّ الكفن في مورد خاص دليلا عليه بنحو الكليّة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 182

توضيح ذلك: أنّا علمنا من الشرع في صورة موت المولى و دين ثمن رقبتها و انحصار التركة فيها و في ما يقابل مؤنة التجهيز انّه حكم بصرف ما يقابل في التجهيز دون أداء الدين و صرف أمّ الولد في دين ثمن رقبتها، فقدّم حقّ الميّت على حقّ البائع، و حقّ البائع على حقّ أمّ الولد، و ليس لنا بمجرّد ذلك أن نحكم في صورة وجود دين ثمن رقبتها دون ما يقابل

مؤنة التجهيز بتقديم حقّ الميّت على حقّ البائع، إذا من الممكن لنا اختصاص تقديمه بصورة وجود ما يقابل، و كذلك ليس لنا أن نحكم في صورة عدم الدين رأسا و عدم ما يقابل مؤنة التجهيز بتقديم حقّ الميّت على حقّ أمّ الولد بأن نقول إنّه كان في الصورة الأولى مقدّما عليه برتبتين، فكيف لا يتقدّم عليه في هذه الصورة بلا واسطة.

و بعبارة أخرى: نرتّب قياس المساواة و نقول: المقدّم على المقدّم على الشي ء مقدّم على هذا الشي ء، فإنّ هذا لا يورث القطع لإمكان اختصاص ذلك بصورة وجود الدين و وجود ما يقابل مؤنة التجهيز.

هذا بحسب مقام الثبوت، و أمّا الكلام في مقام الإثبات فلا إشكال في صورة وجود دين ثمن الرقبة و عدم ما يقابل مؤنة التجهيز في تقديم الكفن على الدين بعموم أدلّة الكفن ثمّ الدين، لأنّ ذلك مقتضى الجمع بينها و بين الدليل السابق على تقديم دين ثمن أمّ الولد على حقّها، و أمّا صورة عدم الدين و تردّد الأمر بين حقّها و حقّ مولاها الميّت فعموم قاعدة المنع عن بيع أمّ الولد بناء على تسليمه يقتضي تقديم حقّها، و عموم قاعدة تعلّق حقّ الكفن بمال الميّت يقتضي تقديم حقّ الميّت فيتعارضان أو يتزاحمان.

لا يقال: لا محيص عن تقديم الأوّل؛ لعدم اقتضاء الثاني الحكم الوضعي و هو نفوذ البيع، ألا ترى أنّه لو انحصر تركة الميّت بالخمر لا يصحح قاعدة تعلّق

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 183

الكفن بالتركة نفوذ بيع الخمر؟ و كذلك لو انحصر الأمر ببيع التركة لتحصيل ثمن الكفن بالبيع الربوي أو الغرري أو القمار أو غير ذلك من التصرّفات الغير المشروعة، و ليس هذه الموارد تخصيصا في تلك القاعدة

كما لا يخفى، فيستكشف من ذلك أنّه لا اقتضاء لها إلّا في الموارد القابل من دون نظر إلى مقام التشريع فيكون الدليل الدال على عدم المشروعيّة واردا عليها.

لأنّا نقول: إذا فرضنا دخول أمّ الولد تحت عموم التركة في دليل تعلّق الكفن بالتركة فلا بدّ أن يكون نقل أمّ الولد بوجه من وجوهه مجوّزا شرعا، و حينئذ فلا يرد شي ء من النقوض المذكورة، و أمّا الخمر فلأنّها ليست بمال شرعا فليست من التركة، و أمّا البيع الربوي و غيره من الأسباب الغير الشرعيّة، فالمال في تلك الموارد مشمول للتركة، و الشرع أيضا جعل له طريق نقل صحيح، غاية الأمر لم يقدر المكلّف على إعماله فهو كما إذا لم يوجد من يشتري المتاع رأسا في عدم منافاة ذلك مع عموم الدليل المذكور.

نعم يبقى الفرق بين المقام و المال المرهون حيث يقال هناك بتقدّم حقّ المرتهن، و لعلّه لأجل أنّ حقّ المرتهن كان ثابتا في حال الحياة أيضا، و حقّ الكفن يحدث بالموت، و من المعلوم عدم تأثير السبب اللاحق بعد تحقّق السابق، و أمّا الاستيلاد فلا يتولّد منه حقّ حال الحياة و إنّما هو صرف حكم أن لا يباع و لا يتصرّف فيها بسائر التصرّفات الناقلة، و صرف هذا الحكم لا يصير منشأ انتزاع الحقّ، فإنّ وجوب البقاء على ماليّة مالك واحد و عدم التعدّي إلى غيره لا يستحقّ اسم الحقّ في جانب المملوك، نعم هي بحيث ينعتق بعد الموت، لكن مجرّد هذا الأمر التعليقي متحقّق في الدائن و الوارث أيضا؛ لأنّهما أيضا بحيث لو مات المديون و المورّث يستحقّون المال، فكما لا يولد فيهما حقّا فكذلك هنا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 184

فالتحقيق أنّ في المقام

عند الموت يتوارد حقّان في المال في عرض واحد، حقّ الانعتاق و حقّ الكفن، و هذا ما قلنا من تعارضهما أو تزاحمهما، و عند ذلك فتارة يقع التكلّم في الأصل المرجوع عند اليأس عن الدليل الاجتهادي، و أخرى في الدليل الاجتهادي.

أمّا الأوّل:

فقال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف-: و لو فرض تعارض الحقّين فالمرجع إلى أصالة فساد بيعها قبل الحاجة إلى الكفن فتأمّل، انتهى كلامه الشريف.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: تارة يجعل قيد كون البيع للكفن مفرّدا للبيع و أخرى يجعل من الحالات الطارئة على الفرد الواحد، فعلى الأوّل فالمتعيّن استصحاب الجواز الثابت قبل الاستيلاد دون المنع الثابت بعده حال الحياة، لأنّه متعلّق بالبيع لا للكفن و هو فرد آخر كما تقدّم نظيره في البيع في ثمن رقبتها.

و على الثاني كما هو الظاهر حيث ليس المراد البيع بداعي الكفن أو البيع المصروف ثمنه في الكفن فيكون من قبيل الشرط المتأخّر ضرورة عدم توقّف صحّة البيع على شي ء من الأمرين، فالمراد طروّ حالة الاضطرار إلى البيع للكفن، و هذه شرط في الحكم لا قيد في الموضوع، فالمرجع استصحاب الفساد الثابت قبل الموت و قبل طروّ هذه الحالة، و لا مجرى الاستصحاب التعليقي بأن يقال: قبل الاستيلاد كانت بحيث لو مات مولاها و احتاج إلى الكفن كان بيعها نافذا فالآن كما كان؛ ضرورة عدم دخالة شي ء من الأمرين، أعني: الموت و الاحتياج في نفوذ البيع، بل كان بيعها هناك جائزا سواء مات أم لم يمت و سواء احتاج إلى الكفن أم لم يحتج.

نعم وجوب البيع كان مشروطا بالأمرين لكن كلامنا في أصل النفوذ، و على

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 185

هذا فيبقى الإيراد على شيخنا-

قدّس سرّه- بأنّه ما وجه التفرقة بين المقامين، أعني: البيع في الكفن و البيع في ثمن الرقبة حيث رجّحتم استصحاب المنع في الأوّل و الجواز في الثاني مع أنّهما من واد واحد.

و أمّا الكلام في الدليل الاجتهادي فلا إشكال أنّه عمومات أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ، لكنّ التمسّك بها مبنيّ على أنّه إذا خرج الفرد في زمان ثمّ شكّ في ما بعد ذلك الزمان فهل المرجع استصحاب حكم الخاص أو عموم العام كما قرّره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في الأصول؟

قد يقال: إنّ تلك العمومات في مقامنا هي المرجع، و لو قلنا في تلك المسألة بأنّ المرجع استصحاب الخاص و ذلك لأنّ التخصيص في مقامنا راجع إلى فرد آخر غير ما علم خروجه في الآن الأوّل، و في مثله لا شبهة في الرجوع إلى العام، و ذلك ضرورة أنّ البيع المسبّبي، أعني: الانتقال و المبادلة بنظر العرف مع قطع النظر عن حكم الشرع يصدق على كلّ من الواقع قبل الموت و بعد الاستيلاد و الواقع بعد الموت؛ فإنّ ما لا يقبله المال الواحد إنّما هو الانتقالان النفس الأمريّان دون ما لا واقعيّة له سوى النظر.

نعم الحكم الشرعي يتعلّق بأيّ منهما كان قابلًا، فمع قابلية كليهما يقع أوّلهما لا محالة، لانطباق العنوان عليه و عدم المانع، و أمّا مع عدم قابليّة الأوّل فيتعيّن الثاني، فالعموم الأفرادي كاف و لو لم يكن عموم أزماني، هذا ما يقال.

و لكنّ الحق خلافه، و ذلك لأنّ المراد بالبيع العرفي الذي هو موضوع أَحَلَّ ليس هو البيع الإنشائي الذي يكفي التشريع القلبي من واحد، بل المراد به ما اجتمع تمام أهل العرف على رؤيته و الحكم به، و هذا المعنى أيضا في المال الواحد

لا يقبل التكرار كقتل زيد، فإذا فرض أنّ المقام لا نظر فيه إلى الزمان أصلا فلا وجه للرجوع إليه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 186

و الحقّ أن يقال بعدم ابتناء مرجعيّة العام على العموم الأزماني، و لكن بتقريب آخر تقدّم نظيره، و هو أنّ الباب باب التقييد و لا إشكال في مرجعيّة العام فيه فإنّه يقال: القدر المتيقّن من تقييد أَحَلَّ اللّٰهُ الاستيلاد مع عدم الاحتياج إلى الكفن، و أمّا معه فيشكّ في تقييده فيرجع إلى إطلاقه الأحوالي و هو غير منوط بالعموم الأزماني، هذا.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف- ذكر في آخر كلامه نظير ما اختاره في المسألة المتقدّمة فقال بعد الكلام المتقدّم:

نعم يمكن أن يقال: نظير ما قيل في الدين من أنّ الولد يرث نصيبه و ينعتق عليه و يتعلّق بذمّته مؤنة التجهيز أو تستسعى أمّها و لو بإيجار نفسها في مدّة و أخذ الأجرة قبل العمل و صرفها في التجهيز و المسألة محلّ إشكال، انتهى كلامه الشريف.

و قد تقدّم استشكال شيخنا الأستاذ على هذا الكلام في البحث السابق و زاد هنا على ما تقدّم- زاد اللّه في طول عمره الشريف- أنّ ملك الوارث للمنفعة إمّا بيع لملك العين و إمّا في عرضه، و الثاني يرد عليه أنّه إذا فرض استغراق الدين لجميع المنافع، فالعين المسلوبة لا ماليّة و لا ملكيّة لها و لا حقّ أولويّة فيها، أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني و الثالث فلاختصاص اعتبار الثاني بما يتحقّق له ماليّة ملفّقة من انضمامه إلى أمثاله كحبّة الحنطة، و اختصاص الثالث بما يؤول إلى المال كحقّ التخليل، أو يكون له بعض المنافع الجزئية كمكسور الأواني، و شي ء من ذلك غير موجود

في العين المذكورة، و إذا فرض الحال هكذا فلا معنى لعدّها من التركة و لا لملك الوارث و لا لانعتاقها.

هذا مضافا إلى كون الوجه المزبور خلاف الواقع، لأنّ المنتقل إلى الوارث ليس إلّا العين؛ لأنّ المنفعة لا يعدّ مالا في عرض العين حتّى يكون متروكا فيشمله

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 187

أدلّة الإرث، ألا ترى أنّ الحال في سائر النواقل أيضا كذلك؟ فيتعيّن الأمر في الوجه الأوّل، أعني: كون ملكيّة المنفعة من آثار ملكيّة العين و توابعها و أحكامها.

و حينئذ فيخرج ملكيّة المنافع عن باب المتروكيّة للميّت، إذ معنى المتروك أن يكون النقص راجعا إلى عدم قابلية الميّت للمالكيّة كما هو المتحقّق في العين، و أمّا المنفعة فالقصور من جهة عدم ملكيّة متبوعها، و بعبارة أخرى: لا بدّ في صدق المتروكيّة كون المقتضي للملك موجودا و كان الموت مانعا، و عدم ملكيّة الميّت للمنافع ليس من هذا القبيل، لأنّه مستند إلى عدم المقتضي لا وجود المانع الذي هو الموت، فالمنافع تخرج عن باب متروك الميّت بالمرّة فلا وجه لتعلّق الدين بها.

و منها: ما إذا جنت على غير مولاها في حياته

أمّا بعد مماته

فقال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف لا إشكال في حكمها؛ لأنّها بعد الموت يخرج عن التشبّث بالحريّة إمّا إلى الحريّة الخالصة أو الرقّيّة الخالصة، انتهى.

و استشكل عليه بأنّه إذا فرض الولد بعد وفاة المولى نطفة أو علقة أو مضغة فإنّه يتشبّث بالحريّة و ليس رقّا خالصا قطعا و لا منعتقا، لأنّه لا عتق إلّا في ملك، و النطفة و العلقة و المضغة ليست قابلة للمالكيّة حتّى يملكها فينعتق عليها، و كذا لو كان للولد مانع عن الإرث كالكفر و ورثها غيره ممّن لا تنعتق عليهم فإنّها حينئذ مملوكة متشبّثة بالحريّة،

يعني لا يجوز بيعها لإطلاق أدلّة المنع عن بيع أمّ الولد، انتهى.

و يمكن دفع الأوّل بأنّه لا يخلو الواقع عن أحد الأمرين، لأنّه إمّا ينفصل حيّا أو لا، فعلى الأوّل يستكشف كون الأمة من الأوّل منعتقا، و على الثاني يستكشف كونها من الأوّل للوارث الآخر فيندرج في الفرض الثاني، و دعوى عدم قابلية النطفة و أختيها للمالكيّة يمكن منعها، إذ ليس حالهما بأقصر من الميّت، و أمّا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 188

الفرض الثاني فيظهر حاله من التكلّم في أصل المسألة.

فنقول: قد يفرض الكلام في الجناية العمديّة و قد يفرض في الخطائيّة، أمّا الأولى فربّما يتخيّل أنّه يمكن أن يقال أنّ رقبتها للمجنيّ عليه لا تزيد على رقبتها للمالك الأوّل، لأنّها تنتقل إليه على حسب ما كانت عند الأوّل، ثمّ ادّعي أنّه يمكن أن يدّعي ظهور أدلّة المنع خصوصا صحيحة عمر بن يزيد المتقدّمة في عدم بيع أمّ الولد مطلقا.

و اختار شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف-: أنّه إن كان في مورد ثبت القصاص فللمجنيّ عليه القصاص نفسا كان أو طرفا، و له استرقاقها كلّا أو بعضا على حسب جنايتها، فيصير المقدار المسترقّ منها ملكا طلقا، و قال بعد ذكر كلام المتخيّل: و الظاهر أنّ مراده بإمكان القول المذكور مقابل امتناعه عقلا، و إلّا فهو احتمال مخالف للإجماع، و النصّ الدالّ على الاسترقاق الظاهر في صيرورة الجاني رقّا خالصا.

و ما وجّه به هذا الاحتمال من أنّها تنتقل إلى المجنيّ عليه على حسب ما كانت عند الأوّل، فيه: أنّه ليس في النصّ إلّا الاسترقاق و هو جعلها رقّا له كسائر الرقيق لا انتقالها عن المولى الأوّل إليه حتّى يقال: إنّه إنّما كان على النحو الذي كان

للمولى الأوّل.

و الحاصل: أنّ المستفاد بالضرورة من النص و الفتوى أنّ الاستيلاد يحدث للأمة حقّا على مستولدها يمنع من مباشرة بيعها و من البيع لغرض عائد إليه مثل قضاء ديونه و كفنه على خلاف في ذلك، انتهى كلامه الشريف.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: النهي الوارد عن بيع أمّ الولد يحتمل ثلاثة احتمالات، الأوّل: أن يكون المراد المنع من مطلق انتقال أمّ الولد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 189

من مالكها إلى غيره سواء كان بسبب اختياري للمالك كالبيع و الهبة و نحوهما أم غيره كفسخ ذي الخيار إذا كان الخيار لبائع الأمة من مولاها المستولد، و سواء كان الانتقال عن ملك المالك المستولد للأمة أم ملك من ملكها بعدها كالوارث منه، و سواء كان الانتقال من المالك الثاني لغرض عائد إلى المستولد كأداء ديونه و كفنه أم لا، و على هذا فيكون أصل إرث أمّ الولد على خلاف قاعدة المنع، و كذلك الاسترقاق، و كذلك لو فرض صحّة الإرث في الفرض المتقدّم، أعني: كفر الولد و وجود من لا ينعتق عليه من الوارث، و كذلك صحّة الاسترقاق في مقامنا، فلا يجوز للوارث و لا للمسترق البيع و غيره، فيكون كلام المتخيّل على هذا الاحتمال متوجّها.

لكن يرد عليه أنّه ما وجه صحّة أصل الانتقال بالاسترقاق؟ فإنّ مقتضى هذا كما عرفت عدم صحّة أصل الاسترقاق، هذا مع قطع النظر عن المعارضة، و أمّا بملاحظة معارضة هذا الدليل مع إطلاق دليل التخيير بين القصاص و الاسترقاق للمجني عليه أو ورثته، فمقتضى القاعدة هو الرجوع إلى استصحاب المنع الثابت قبل الجناية، و لو فرض عدم المعارضة و أنّ المقام مقام التزاحم بين حقّ أمّ الولد و حقّ

المجنيّ عليه، فمقتضى كون الأوّل تعيينيّا و الثاني تخييريّا هو الجمع بينهما بتعيّن الشقّ الآخر من التخيير و هو القصاص.

الثاني: أن يكون المراد المنع عن مطلق الانتقال اختياريّا أم غيره عن ملك المستولد أم غيره لكن بشرط أن يكون بغرض عائد إلى المستولد كأداء دينه و غير ذلك، و على هذا يكون الإرث و الاسترقاق المذكوران خارجين عن مورد المنع، لعدم عود نفعهما إلى المستولد، و كذلك نقل الوارث و المسترق إلى غيرهما، نعم يبقى فسخ البائع للأمة من المستولد داخلا فيه، لأنّه يوجب رجوع ثمنها إلى المستولد فيكون

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 190

كلام شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف- على هذا متوجّها.

و كذا على الاحتمال الثالث و هو: أن يكون المراد المنع عن النقل الاختياري الصادر من المالك المستولد أو من يقوم مقامه كوارثه إذا باعها لأجل كفن مولاها أو ثمنها أو سائر ديون المولى الميّت، لكن على هذا الاحتمال يخرج الفسخ أيضا عن مورد المنع، لأنّه لم يصدر من المالك و لا ممّن يقوم مقامه و يعمل سلطنته.

ثمّ من الواضح أنّ الظاهر هو أحد الاحتمالين الآخرين و ذلك لأنّا بعد القطع بإلغاء خصوصيّة البيع في النواهي المذكورة و كذلك خصوصيّة الغرض لا نفهم منها مطلق الانتقال الشامل لمثل الانتقال بالإرث و الاسترقاق، بل المنصرف منها إمّا النقل الصادر من المالك و كذلك من يعمل سلطنة المالك، و أمّا النقل العائد نفعه و الغرض منه إلى المستولد و لو لم يكن صادرا منه و لا ممّن يعمل سلطنته- و على هذا فمسألتنا هو الاسترقاق- ليست من أفراد النقل الممنوع، و يكون الاستثناء منقطعا، فيكون أدلّة الاسترقاق بلا مانع و مزاحم، و هذا مراد

شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف- من مخالفة الاحتمال المذكور المبتني على الاحتمال الأوّل من هذه الاحتمالات للنصّ، و أمّا مخالفته للإجماع فربّما يستشكل فيها بأنّه كيف يمكن تحصيل هذا الإجماع مع أنّه لم يحك التعرّض لهذا الاستثناء من جميع العلماء.

و يمكن الجواب بإمكان استفادته من حكمهم في باب القصاص و الجنايات بتخيير المجنّي عليه أو وليّه بين القصاص و استرقاق المملوك الجاني بما يوجب القصاص على الإطلاق من دون فرق بين أن يكون المملوك عبدا أو جارية، أمّ ولد أو غيرها؛ فإنّ هذا الحكم منهم ليس على حدّ حلّية لحم الغنم حكما طبيعيا لا ينافيه الارتفاع بمزاحمة حقّ آخر بل هو حكم فعلي.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 191

و حينئذ فمن المقطوع أن ليس من ديدن أرباب الفتوى ذكر الفتوى الفعليّة بنحو الإطلاق و إحالة التقييد باب آخر، فإنّ بناءهم على ملاحظة مدارك المسألة ثمّ ذكر ما يستفاد من مجموعها من مطلقها و مقيّدها.

ألا ترى أنّه لم يذكر فقيه أنّ الماء طاهر لا ينجّسه غير التغيير بدون استثناء القليل إحالة فيه إلى ذكره في محلّ آخر؟ بل يتصدّون أوّلا لتشقيق الماء إلى أقسامه، ثمّ يذكرون حكم كلّ مستقلا، و بالجملة ليست الطريقة المعمولة في الأخبار معمولة في الفتاوى، فبعد حكمهم فعلا بالتخيير المذكور في جناية المملوك مع كون أمّ الولد نوعا شائعا منه و عدم التعرّض لاستثنائها شاهد قطعي على العموم.

و أمّا الثانية: أعني الجناية الخطائية فالمشهور أنّ أمّ الولد فيها كسائر المماليك و حكم جنايتهم خطأ أنّ التخيير إلى المولى إن شاء يدفع المملوك أو مقدار الجناية إلى المجنيّ عليه، و إن شاء يفديه و يخلص رقبته، و قد اختلفوا في مقدار الفداء، فقال

المشهور: إنّه أقلّ الأمرين من قيمة المملوك و أرش الجناية، و قال الشيخ- رحمه اللّه-: إنّه الأرش و لو زاد على القيمة، فالمشهور أنّ هذا الحكم بهذا الخلاف جار في أمّ الولد أيضا.

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بعد ذكر ذلك: و عن الخلاف و السرائر و استيلاد المبسوط أنّه لا خلاف في أنّ جنايتها يتعلّق برقبتها،

و الظاهر أنّه أراد- قدّس سرّه- تأييد المشهور؛ فإنّ المراد بالتعلّق برقبتها كون حقّ المجنيّ عليه متعلّقا بعينها، نظير تعلّق حقّ الديّان بأعيان التركة، غاية الأمر أنّ للمولى الفكّ بأداء الفداء، و ليس المراد أنّ الدية تتعلّق بذمّة أمّ الولد تتبع بها بعد الحريّة حتّى يكون مراده- قدّس سرّه- بيان مخالف المشهور.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب البيع (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

كتاب البيع (للأراكي)؛ ج 2، ص: 191

و الشاهد على إرادة المعنى الأوّل من العبارة ما حكي عن استيلاد المبسوط

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 192

بعد العبارة المذكورة من قوله: و هو «أي المولى» بالخيار بين أن يفديها أو يبيعها عندنا، و عندهم على السيّد أن يفديها و يخلّصها من الجناية، و ما حكى عن كتاب أمّهات الأولاد من السرائر بعد العبارة المذكورة أيضا من قوله: و المولى بالخيار بين أن يفديها أو يسلّمها للبيع عندنا، و عند المخالف على السيّد أن يفديها و يخلّصها من الجناية.

ثمّ قال شيخنا- قدّس سرّه-: لكن عن ديات المبسوط أنّ جنايتها على سيّدها بلا خلاف إلّا عن أبي ثور فإنّه جعلها في ذمّتها تتبع بها بعد العتق و هو مخالف لما في الاستيلاد من المبسوط.

و ظاهره أنّ هذا مخالف للمشهور كما يدلّ تخصيص هذا بتصديره

بكلمة (لكن) وجه المخالفة أنّ الظاهر من كلمة «على سيّدها» ثبوت الدية في ذمّة السيّد و هو ينافي مع التعلّق بالعين و جواز الفكّ للمولى، كما أنّ هذا أيضا هو الظاهر من رواية مسمع عن أبي عبد اللّٰه- عليه السلام- قال: «أمّ الولد جنايتها في حقوق الناس على سيّدها»، قال: «و ما كان من حقّ اللّٰه عزّ و جلّ في الحدود فإنّ ذلك في بدنها» «1».

و مثلها ما أرسل عن عليّ- عليه السلام- في المعتق عن دبر «هو من الثلث و ما جنى هو و أمّ الولد فالمولى ضامن لجنايتهم»، لكنّه- قدّس سرّه- حمل الكلّ على أنّ المراد خروج دية الجناية من مال المولى المردود بين ملكه الجاني أو ملك آخر، فمعنى كونها على السيّد عود خسارة الجناية على السيّد في مقابل عدم خسارة المولى لا من عين الجاني و لا من مال آخر و كونها في ذمّة نفسها تتبع بها بعد العتق، و ليس المراد وجوب فدائها في مقابل التعلّق بالعين.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 18، الباب 47، أبواب حدّ الزنا، ص 414، ح 2.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 193

قال- قدّس سرّه-: و كيف كان فإطلاقات حكم جناية مطلق المملوك سليمة عن المخصص و لا يعارضها أيضا إطلاق المنع عن بيع أمّ الولد؛ لأنّ ترك فدائها و التخلية بينها و بين المجنيّ عليه ليس نقلا لها، انتهى.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: إمّا توجيهه- قدّس سرّه- لعبارة ديات المبسوط جمعا بينها و بين عبارة استيلاد المبسوط ففي غاية المتانة، و كذلك ما ذكر أخيرا من عدم المعارضة بين إطلاقات حكم جناية المملوك و النهي عن بيع أمّ الولد و قد تقدّم تقريب ذلك.

و أمّا

ما ذكر من عدم كون الرواية الأولى مخصّصة لتلك الإطلاقات فغاية تقريبه أنّ الرواية إمّا يتساوى فيها احتمال كون عنوان أمّ الولد له مدخليّة في الحكم المذكور حتّى يصير المراد هو الثبوت في ذمّة السيّد، أو الحمل على كون الخسارة عليه ينافي مدخليّة العنوان؛ لأنّه حكم كلّ مملوك، و احتمال كون تخصيص هذا العنوان لا لأجل المدخليّة بل لنكتة دفع توهّم امتيازها عن سائر المماليك بواسطة تشبّثها بالحريّة حتّى يصير المراد كون الخسارة واردة على المولى، أو يقال بأظهريّة الأوّل من الثاني لا لأجل ظهور العنوان في الاختصاص بل لكون كلمة «على سيّدها» في الثبوت في الذمّة أظهر من كونها لمطلق الخسارة و الضرر.

و على كلّ حال يتعيّن العمل بالإطلاقات المزبورة أمّا على الأوّل فواضح، و أمّا على الثاني، فلأنّ الأظهرية في نفس الرواية لا تنافي أظهريّة الإطلاقات منها و صرفها إلى خلاف ظاهرها، إذ قد يصير الجمع العرفي حمل المقيّد على المطلق إذا كان الثاني أظهر، و مقامنا من هذا القبيل، هذا غاية تقريب ما ذكره.

و فيه: أنّ هذا مسلّم لو لا ما ذكر في ذيل الرواية من قوله- عليه السلام-: «و ما كان من حقوق اللّٰه في الحدود فإنّ ذلك في بدنها» فإنّ هذا ينفي احتمال كون القضيّة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 194

مسوقة لأجل دفع التوهّم، إذ يصير المعنى بناء على كونها كذلك أنّ أمّ الولد مثل غيرها في أنّ جنايتها في حقوق الناس يرد خسارتها على مولاها و مثل غيرها أيضا في أنّ الحدود تجري في بدنها، و هذا من الحزازة بمكان؛ إذ لا يتوهّم أحد اختلاف حكم أمّ الولد في الحدود عن غيرها إمّا بأن يسقط عنها بالمرّة أو

يجري على سيّدها.

فهذا قرينة واضحة على أنّ المراد إعطاء المدخليّة للعنوان و أنّه يمتاز عن غيره في هذا التفصيل؛ فإنّ غيره يكون جنايته في حقوق الناس و في حقوق اللّه كلّا متعلّقة برقبتها، غاية الأمر أنّ المولى يجوز له فكّه في الأولى بإعطاء الدية بخلاف أمّ الولد فإنّ فيه التفصيل، فجنايتها في حقوق الناس لا ربط لها برقبتها و إنّما توجب اشتغال ذمّة مولاها، و جنايتها في حقوق اللّه توجب جريان الحدّ على بدنها و لا ربط لها بسيّدها.

نعم الرواية الثانية يجي ء فيها ما ذكره- قدّس سرّه- بل يتعيّن بملاحظة اشتمالها على المدبّر، و الظاهر كما قيل عدم الخلاف في التخيير بالنسبة إلى المدبّر، فلو صحّت سندها أمكن أن تجعل قرينة بالنسبة إلى الأولى لكن اعتبارها غير ثابت، إلّا أن توهن الرواية الأولى بإعراض المشهور عنها من حيث عدم إفتائهم بمضمونها فتدبّر.

و منها: ما إذا جنت على مولاها بما يوجب صحّة استرقاقها لو كان المجنّي عليه غير المولى

فهل تعود ملكا طلقا بجنايتها على مولاها فيجوز له التصرّف الناقل فيها أو لا كما هو المشهور؟

ظاهر شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- انتصار الثاني، و علّله بأنّه

لم يتحقّق بجنايتها على مولاها إلّا جواز الاقتصاص منها، و أمّا الاسترقاق فهو تحصيل للحاصل، انتهى

. وجه كونه تحصيلا للحاصل أنّ الملكيّة حاصلة للمولى بلا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 195

قصور فيها، غاية الأمر المحكوميّة بمنع التصرّفات الناقلة أو كون الأمة مستحقّة على مولاها لذلك، و لا يوجب ذلك نقصا في الملك حتّى يقال: الذي يراد تحصيله هو المرتبة الكاملة، كيف و هما من آثار الملكيّة فكيف يؤثّران نقصا فيها، و هذا واضح.

و لكن قد يقال: إنّ الحق عند المحقّقين أنّ الحاجة إلى العلّة إنّما هي من جهة الإمكان لا من جهة الحدوث، فالممكن محتاج في

بقائه إلى العلّة كما في حدوثه، لاشتراكهما في الإمكان، لأنّ بقاء الممكن ممكن بالضرورة، و حينئذ فإذا فرض بقاء ممكن كملكيّة أمّ الولد في ما نحن فيه يكون بقاؤه مستندا إلى العلّة لا محالة، فإذا فرض عروض علّة أخرى لوجود الملكيّة لو لم تكن موجودة بالسبب المزبور يكون نسبة الأمر الباقي بعد وجود هذه العلّة إلى كلّ من العلّتين على السواء، فاستناده إلى إحداهما ترجيح بلا مرجّح، فيشتركان في السببيّة للبقاء كما لو اجتمعتا على الحدوث.

و حينئذ أمكن أن يقال: إنّ القدر المتيقّن من الملكيّة المانعة هو المستندة إلى خصوص السبب المقدّم على الاستيلاد دون المستند إلى مجموع السابق و اللاحق، كما لا يمنع المستندة إلى خصوص اللاحق على ما دلّ عليه رواية ابن مارد.

و أجاب عنه شيخنا الأستاذ- أدام اللّه أيّام إفاداته الشريفة- بأنّ المفهوم من لفظ الاسترقاق كنظائره من الاستفهام و الاسترحام و نحوهما هو طلب أصل الحقيقة في مقابل العدم الأزلي، و لا شكّ أنّ هذا المعنى لا يصدق على البقاء، فلزوم تحصيل الحاصل إنّما هو بالنسبة إلى خرق العدم الأزلي حيث إنّه غير قابل للتكرار، فما ذكر في الإشكال إنّما هو مجرّد تصوير عقليّ، و أمّا مع الالتزام بما هو ظاهر الاسترقاق المأخوذ في الأدلة فلا محيص عن لزوم تحصيل الحاصل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 196

و من هنا يظهر وجه ضعف ما قيل في توجيه الاسترقاق في المقام من أنّ الأسباب الشرعيّة يؤثّر بقدر الإمكان، فإذا لم يؤثّر الجناية الاسترقاق أمكن أن يتحقّق للمولى أثر جديد و هو استقلال جديد في التصرّف فيها مضافا إلى أنّ استرقاقها لترك القصاص كفكاك رقابهن الذي أنيط به الجواز في صحيحة ابن يزيد المتقدّمة،

مضافا إلى أنّ المنع عن التصرّف لأجل التخفيف لا يناسب الجاني عمدا.

أمّا الأوّل: فلانّ الاستقلال في التصرّف أثر للملكيّة، فإذا اعترف بعدم حصول السبب فلا مورد لثبوت أثره بناء على ما هو الظاهر من الشرع و العرف من كون الملكيّة أمرا واقعيا، إذ جعلنا يترتّب عليه تلك الآثار، نعم لو جعلنا الملكيّة عبارة عن نفس الآثار أو منتزعة منها بأن يقال: الملكيّة عبارة عن كون الشي ء بحيث يجوز فيه جميع التصرّفات أمكن أن يقال: إنّ سبب الملك سبب لنفس الآثار حقيقة، فإذا تعذّر تأثيره في بعضها لسبق مؤثّر آخر تعيّن تأثيره في البعض الذي لا مانع له، لكن التحقيق خلاف أصل المبنى.

و أمّا الثاني و الثالث: فمضافا إلى كونهما مجملا غير قابل للتمسّك يكون التمسّك فرع القابليّة و الإمكان العقلي، و بعد ما عرفت امتناعه عقلا فلا مجال لإقامة الدليل الشرعي.

و أمّا الجناية على مولاها خطأ فلا إشكال في أنّها لا يجوز التصرّف فيها، لأنّها في غير المولى يوجب اختيار المولى بين دفع الأمة حتّى يسترقّها المجنّي عليه أو وليّه و بين دفع الفداء، و شي ء من الأمرين غير معقول في حقّ نفس المولى؛ إذ لا معنى لأخذه الفداء من مال نفسه و لا لاسترقاقه مال نفسه.

و لكن هل تثبت قيمتها في ذمّتها حتّى تستسعى فيها بعد العتق؟ الروايات

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 197

في هذا الباب متخالفة، فروى الشيخ في الموثّق على المحكيّ عن غياث عن جعفر عن أبيه عن عليّ- عليهم السلام- «قال: إذا قتلت أمّ الولد سيّدها خطأ فهي حرّة ليس عليها سعاية» «1»، و عن الشيخ و الصدوق بإسنادهما عن وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه- صلوات اللّٰه و

سلامه عليهما-: أنّ «أمّ الولد إذا قتلت سيّدها خطأ فهي حرّة لا سبيل عليها و إن قتله عمدا قتلت به» «2».

و عن الشيخ عن حمّاد عن جعفر عن أبيه- عليهما السلام-: «إذا قتلت أمّ الولد مولاها سعت في قيمتها» «3» و في بعض النسخ زيادة لفظ خطأ، و جمع الشيخ- قدّس سرّه الشريف- بحمل الأوّلين على الخطاء المحض و الأخير على شبه العمد،

و قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف-: يمكن حملها- يعني الأخيرة- على سعيها في بقيّة قيمتها إذا قصر نصيب ولدها، انتهى.

و استشكل على الأخير شيخنا الأستاذ- دام علاه- بأنّه جمع لا يساعده العرف بل يرى العرف قضيّة «لا سعاية عليها» و قضيّة «سعت في قيمتها» متناقضتين، فما ذكره- قدّس سرّه- جمع تبرّعي.

و منها: ما إذا جنى حرّ عليها بما فيه ديتها

فإنّها لو لم تكن مستولدة كان للمولى التخيير بين دفعها إلى الجاني و أخذ قيمتها و بين إمساكها و لا شي ء له لئلّا يلزم الجمع بين العوض و المعوّض، ففي المستولدة يحتمل ذلك و يحتمل أن لا يجوز للمولى أخذ القيمة ليلزم منه استحقاق الجاني للرقبة.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: لا شبهة في أنّه لو قلنا في

______________________________

(1)- الوسائل: ج 19، الباب 11، أبواب ديات النفس، ص 159، ح 2.

(2)- المصدر نفسه: ح 3.

(3)- المصدر نفسه: ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 198

أصل المسألة بأنّ الباب باب العوضيّة تعبّدا و قلنا بذلك في ما نحن فيه أيضا كان هذا استثناء عن قاعدة المنع، و أنّه لو قلنا بالعوضيّة في أصل المسألة لأجل دليل عام يشمل المقام فنسبته مع دليل النهي عن بيع أمّ الولد عموم من وجه، فنرجع بعد التساقط إلى استصحاب منع المعاوضة الثابت قبل الجناية، و

في أنّه لو قلنا في أصل المسألة بعدم تعبّد خاص و مقتضى القاعدة أيضا عدم كون باب الدية باب العوض، فكما لا يوجب في الحرّ مملوكيّته فكذلك في الحرّ، و السرّ أنّه ليس عوضا عن نفس الرقبة بل عمّا فات بالجناية، فليس المقام من الاستثناء في شي ء.

و منها: ما إذا لحقت بدار الحرب ثمّ استرقّت

حكاه في الروضة، قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: إمّا أن نقول بأنّ اللحوق بدار الحرب لا يوجب زوال رقيتها لمولاها، و إمّا نقول بإيجابه لذلك، فإن قلنا بالأوّل فإن استرقّها هو، فلا معنى لاسترقاقه ملك نفسه، و إن استرقّها غيره فكذلك أيضا، إذ دليل الاسترقاق لا يشمل مملوك المسلم حتّى يقال بأنّه بنفس الاسترقاق يزول ملكه و يصير ملكا للمسترق نظير الالتقاط.

و إن قلنا بالثاني فلا إشكال مع استرقاق الغير، و ليس جواز نقله استثناء عن قاعدة المنع، و أمّا مع استرقاق المولى فيمكن القول بجواز التصرّفات الناقلة أيضا بدعوى انصراف النهي إلى غير هذه الصورة و هو ما إذا بقي الملك الذي وقع فيه الاستيلاد، ألا ترى أنّه لو باعها في ثمن رقبتها ثمّ صار موسرا فاشتراها ليس مشمولا للنهي؟ فكذا في المقام، و لا أقلّ من أنّ المتيقّن من النهي غير هذه الصورة فتدبّر.

و قد الحق بهذه الصورة ما لو أسرها المشركون ثمّ استعادها المسلمون فكانت في ما أسرها غير مولاها فلم يثبت كونها أمة المولى إلّا بعد القسمة، و قلنا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 199

بأنّ القسمة لا تنقض، و يغرم الإمام- عليه السلام- قيمتها لمالكها، لكنّ المحكيّ عن الأكثر و المنصوص أنّها تردّ على مالكها و يغرم قيمتها للمقاتلة.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: إن كان الأسر موجبا لخروجها عن

الرقية لمولاها فالكلام كما تقدّم، و إن كانت باقية على رقيّتها له فمجرّد وقوع القسمة جهلا بكونها ملكا له لا يوجب حسب القاعدة خروجها عن ملكه، بل مقتضاها نقض القسمة بعد انكشاف الحال، لوضوح أنّه لا يحلّ مال أحد بقسمة الغير له، و حينئذ فلا ينطبق شي ء من الأمرين من الغرامة لمولاها من بيت المال و من الغرامة للمقاتلة على القاعدة.

و أمّا القسم الثاني: و هو ما إذا عرض لها حقّ لنفسها أولى بالمراعاة من حقّ الاستيلاد
فمن موارده ما إذا أسلمت و هي أمة ذمّي

فإنّها تباع عليه، بناء على أنّ حقّ إسلامها المقتضي لعدم سلطنة الكافر عليها، أولى من حقّ الاستيلاد المعرض للعتق.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: لا إشكال في حكم المسألة بعد حكومة آية نفي السبيل «1» على جلّ القواعد التي منها النهي عن بيع أمّ الولد، إنّما الإشكال في تصحيح كلام شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف- حيث إنّه بعد ما فرض تكافؤ الدليلين جعل المرجع عمومات صحّة البيع دون قاعدة السلطنة المقتضية لعدم جواز بيعها عليه لحكومة الآية على القاعدة.

فإنّه يرد عليه أوّلا: أنّ المرجع على فرض تسليم التعارض هو استصحاب المنع الثابت قبل الإسلام دون العمومات المذكورة كما كان هذا مختاره في نظيري المسألة من مسألة البيع في ثمن الرقبة حال الحياة و البيع في الكفن، فجعل المرجع

______________________________

(1)- النساء/ 141.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 200

في الأوّل أصالة الجواز، و في الثاني استصحاب المنع، و لم يجعل المرجع في شي ء منهما العمومات المذكورة، فإن كان لها عموم أزماني فما وجه ما ذكره فيهما و إلّا فما وجه ما ذكره في هذا المقام.

و ثانيا: أنّه بعد ما فرض التعارض فما وجه تعليل عدم مرجعيّة القاعدة بحكومة الآية؟ فإنّ الحكومة مع فرض التعارض لا يجتمعان.

قال شيخنا الأستاذ- دام ظلّه-: يمكن ذبّ الإشكالين عن كلامه-

قدّس سرّه- بأن يقال: إنّه- قدّس سرّه- أوّلا تمسّك بالوجه الاعتباري بعد إحراز المقتضي لكلا الحقّين من إطلاق مادّة الدليلين، فإنّه قد يستفاد ذلك من الدليل الناظر إلى الحكم الفعلي كأكرم العلماء، و بعد هذه الاستفادة تمسّك لترجيح حقّ الإسلام على حقّ الاستيلاد بأهمّية الأوّل اعتبارا، فلو كان الدليلان متعارضين أيضا كنّا نقدّم حقّ الإسلام لأولويته بالمراعاة.

و ثانيا: بعد تسلم أنّ هذا الاعتبار لا اعتبار به و أنّ إطلاق المادة لو خلّي و هو متكافئان تمسّك بالحكومة و أنّه بسببها نستكشف إنّا أهميّة جانب الإسلام.

ثمّ بعد محكوميّة دليل النهي بدليل نفي السبيل يدور الأمر بين أمور، الأوّل:

بقاء ملكيّة الذمّي و عدم جواز إخراجها عن ملكه، و الثاني: العتق أو الانعتاق عليه قهرا، و الثالث: البيع عليه قهرا، فالأوّل مناف لنفي السبيل و يكون كرّا على ما فرّ، و الثاني مناف لاحترام مال الذمّي، و الثالث مدلول دليل بيع المملوك الكافر على المسلم مع عدم منافاته لقاعدة إلّا قاعدة السلطنة المفروض ارتفاعها بحكومة دليل نفي السبيل.

فمراده- قدّس سرّه- من تكافؤ الدليلين تكافؤ إطلاق مادّتهما في إثبات المقتضي الغير المنافي مع حفظ حكومة الهيئة في أحدهما، و الشاهد على هذا تصريحه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 201

في ذيل الكلام بحكومة دليل نفي السبيل على جلّ القواعد، و مراده- قدّس سرّه- بعمومات صحّة البيع هو عموم بيع المملوك المسلم على المولى الكافر، و هو و إن كان نسبته مع دليل النهي عن بيع أمّ الولد عموما من وجه لكن مقتضى ذلك تعارضهما مع عدم وجود حاكم على أحد الطرفين في البين و قد فرض حكومة دليل نفي السبيل على الثاني فيكون الأوّل سليما عن المعارض، و هذا

معنى مرجعيّته، و على هذا فيكون كلا الإشكالين مندفعا.

أمّا الأوّل؛ فلأنّ وجه عدم الرجوع إلى الاستصحاب إمّا في جانب الجواز و إمّا في طرف المنع هو وجود الدليل الاجتهادي و ليس هو عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ بل عموم ما ورد في بيع المملوك المسلم على الكافر، و أمّا الثاني فليس المراد بالتكافؤ تكافؤ الهيئتين بل تكافؤ المادتين مع حفظ حكومة إحدى الهيئتين على الأخرى فتدبّر.

فإن قلت: بعد حكومة دليل نفي السبيل يدور الأمر بين رفع اليد إمّا عن دليل الاحتراز و الالتزام بالعتق أو الانعتاق القهريين و بين رفع اليد عن دليل النهي عن بيع أمّ الولد و الالتزام بجواز البيع عليه، و لا ترجيح للثاني على الأوّل فما وجه تعيينه؟

قلت: مقتضى الجمع الدليلي ما ذكرت، و لكنّ الظاهر أنّ الأوّل خلاف الإجماع و بضميمته يتمّ المطلب.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 202

[السبب الثالث من أسباب خروج الملك عن كونه طلقا كونه مرهونا]

بيع المرهون

مسألة و من أسباب خروج الملك عن كونه طلقا كونه مرهونا،

فإنّ الظاهر بل المقطوع به في كلام شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- الاتّفاق على عدم استقلال المالك في بيع ملكه المرهون و روي مرسلا عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم أنّ الراهن و المرتهن ممنوعان من التصرّف، إنّما الكلام في أنّ بيع الراهن هل يقع باطلا من أصله أو يقع موقوفا على الإجازة أو سقوط حقّه بإسقاطه أو بالفكّ؟

و الذي قوّاه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- هو الثاني

للعمومات السليمة عن المخصّص؛ لأنّ معقد الإجماع و الأخبار الظاهرة في المنع عن التصرّف هو الاستقلال كما يشهد به عطف المرتهن على الراهن مع ما ثبت في محلّه من وقوع تصرّف المرتهن موقوفا لا باطلا.

قال شيخنا الأستاذ- دام علاه-:

الجمع العرفي بين إطلاقات و عمومات صحّة البيع، و خصوص النهي عن بيع الراهن ليس إلّا ارتفاع أصل النفوذ عن هذا القسم ببطلانه رأسا كما هو الحال في الجمع بين تلك الإطلاقات و العمومات، و النهي عن بيع الوقف و بيع أمّ الولد و بيع الغرر و غير ذلك، و لو كان مقتضى الجمع هو الحمل على رفع الاستقلال مع إثبات أصل الصحّة التأهليّة لكان اللازم ذلك في تلك المقامات أيضا.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 203

فنقول: مفاد النهي مع ذينك الإطلاق و العموم قابليّة أصل العقد للتأثير و الحالة الكذائيّة مانعة عن استقلاله فيه، فلا ينافي تأثيره الضمني بضميمة زوال تلك الحالة، فمقتضى الإطلاق هو التأثير عند زوال أمّ الولديّة أو الوقفيّة أو الجهالة، و الحال أنّ أحدا لا يقول بذلك بل من المسلّم احتياج المعاملة بعد زوال تلك الحالة إلى صيغة جديدة، و عدم فائدة في الصيغة الأولى رأسا، و إذن فما الفرق بين تلك المقامات و مقامنا، و هل النهي عن بيع الراهن الواقع بلا إجازة المرتهن إلّا مثل تلك النواهي.

فالأسدّ في إثبات القول المزبور هو اختيار طريقة أخرى اخترناها في تصحيح عقد الفضولي بعد ردّ الطريق المذكور فيه أيضا بمثل ما ذكرنا و هي أن يقال- بعد أنّ قوله أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ ظاهر في البيع المسبّبي، أعني: النقل و الانتقال، دون السببي، أعني: الإنشاء المظهر باللفظ، و هذا المعنى محمول على مصاديقه العرفيّة، فكلما حكم فيه العرف بتحقّق المبادلة و النقل و الانتقال يحكم عليه الشرع بحكم أَحَلَّ-: أنّ الشارع ربّما يخطّي العرف في تشخيص بعض المصاديق و يقول: ما حكمتم بمصداقيّته ليس بمصداق واقعا، و هذا هو الحال في بيع

الغرر و أمثاله ممّا انفكّ نظر العرف فيه عن نظر الشرع، و ربّما يقرّره في تشخيص بعض آخر و يقول: قد أصبتم في حكمكم بالمصداقيّة أو بعدمها في مورد فلاني.

و من هذا القبيل مقامنا و بيع الفضولي، فإنّ العرف كما لا يرى المبادلة متحقّقة بإنشاء صادر من غير المالك كذلك لا يراها حاصلة بمجرّد إنشاء المالك بدون إجازة المرتهن، و كما لا يفرّق في حصولها بين حصول إجازة المالك في الفضولي قبل العقد أو معه أو بعدها، كذلك في المقام أيضا لا يفرق بين الصور المذكورة بالنسبة إلى اجازة المرتهن في الحكم بالحصول في جميعها، فإذا قال الشارع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 204

الراهن ممنوع من التصرّف البيعي فمعناه عند العرف أنّ حقيقة المبايعة و المبادلة لا يتحقّق منه إلّا بعد لحوق إجازة المرتهن و ليس للقول المذكور إطلاق شامل لما بعد الإجازة؛ لأنّه حينئذ يصير من باب التعبّد و التخطئة المصداقيّة و قد فرضناه ليس بهذا الصدد، و إنّما هو بصدد التقرير و المشي على طبق ارتكازهم و طريقتهم، و المفروض أنّ طريقتهم إنّما هو المنع قبل الإجازة لا بعدها، نعم هذا يحتاج إلى إثبات كون القول المذكور واردا في هذا المقام لا في مقام التعبّد و التخطئة.

هذا مضافا إلى ما أشار إليه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- من أنّه على تسليم الظهور في بطلان التصرّف رأسا يمكن التمسّك بأدلّة الفضولي بعد الأولويّة القطعيّة، فإنّه إذا كان بيع الأجنبي للعين المرهونة سواء كان لترقّب الإجازة أم باعتقاد المالكيّة أم بالبناء الغصبي العدواني صحيحا نافذا عند إجازة الراهن و المرتهن بواسطة تلك الأدلّة، فمن المقطوع أنّ حال الراهن الذي هو المالك ليس بأدون من ذلك

الأجنبي، و لازمه صحّة البيع الصادر منه عند لحوق إجازة المرتهن، و بالجملة يمكن التصرّف في الظهور المذكور بالحمل على ما ذكرنا بملاحظة تلك الأدلّة بضميمة هذه الأولويّة القطعيّة.

ثمّ قال شيخنا- دام أيّام إفاداته الشريفة-: و هنا طريق آخر لتصحيح البيع المزبور عند إجازة المرتهن، و هو أن يقال: ليس المقام كعقد الفضولي؛ فإنّ العرف كما عرفت لا يرون المبادلة هناك حاصلة إلّا بعد إجازة المالك، و أمّا هنا فمصداق المبادلة و البيع المسبّبي محقّق عندهم قبل حصول إجازة المرتهن، لأنّ حال العين المرهونة حال العين المستأجرة، فكما لا يمنع الاستئجار هناك عن تحقّق البيع- بل يرون العين مع سلب المنافع منتقلة إلى المشتري- كذلك هنا أيضا الرهانة غير مانعة، فالعين على حال الرهانة و كونها وثيقة لدين المرتهن تصير

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 205

منتقلة إلى المشتري.

و كما أنّ سلب المنافع هناك لا يوجب عدم صحّة اعتبار الملكيّة و المبادلة و ذلك لوجود ما يصحّ انتزاع ذلك عنه و هو المنافع المتجدّدة بعد انقضاء المدّة كذلك هنا أيضا ليس الممنوعيّة عن التصرّفات موجبة لعدم اعتبار الملكيّة و البيع، إذ يكفي في صحّة انتزاعهما كون العين جائز التصرّف من البيع و الإجارة و غيرهما من المشروطة بالملك عند إجازة المرتهن و كون نماءاتها للمالك.

و إذن فنقول: مقتضى عموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ صحّة هذا البيع و لو لم يلحقه إجازة المرتهن، غاية الأمر كون المشتري مع جهله بالحال مختارا في الفسخ و الإمضاء، فحال المقام حال بيع الغرر و بيع أمّ الولد ممّا يرى فيها العرف حقيقة المبادلة، و مقتضى العموم المذكور فيها أيضا هو الوقوع. و لكنّ الفرق بين المقامين أنّ النهي الخاص المتعلّق

بخصوص البيعين تخصيص ذلك العموم و مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين زوال الجهالة و الاستيلاد بعد ذلك و عدمه.

و أمّا المقام فالنهي الوارد فيه وارد على الراهن مع عطف المرتهن عليه؛ فإنّ الخبر الوارد في المقام قوله في المرسل: «الراهن و المرتهن ممنوعان من التصرّف» و لم نعثر فيه على خبر آخر بناء على شمول التصرّف لمثل هذا الإنشاء المستعقب للانتقال العرفي و كونه حراما و فاسدا.

و حينئذ فنقول: قد قام الدليل من الخارج على أنّ المرتهن لو باع يصحّ بيعه بإجازة الراهن، فالأمر دائر في الخبر المذكور بين أن يراد من المنع ظاهره من الممنوعيّة الرأسيّة المنافية للصحّة التأهليّة أيضا، غاية الأمر نلتزم بتخصيص المرتهن في تصرّفاته الناقلة و بين أن يحمل التصرّف على عمومه و إطلاقه بالنسبة إلى المرتهن، و لكن نلتزم بحمل المنع على خلاف ظاهره من ممنوعيّة الاستقلال في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 206

التصرّف الغير المنافية مع الصحّة التأهليّة.

فحال المقام حال ما إذا ورد أكرم العلماء و علم بأنّ زيد العالم يستحب إكرامه فإنّ الأمر دائر بين التصرّف في المادة بتخصيص العلماء بما سوى زيد، و بين التصرّف في الهيئة بحملها على مطلق الطلب، و حينئذ فلو لم نقل بأظهريّة المادة في المقام المقتضية لحمل الهيئة على ممنوعيّة الاستقلال فلا أقلّ من الإجمال، فيكون إطلاق أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ بالنسبة إلى ما بعد لحوق الإجازة سيما عن المعارض و المقيّد، و بعبارة أخرى يكون القدر المتيقّن الخروج هو البيع الغير المرضيّ به فيبقى البيع المرضيّ به داخلا تحت الإطلاق.

فلا وجه للقول بالبطلان و إن قوّاه بعض الأساطين- قدّس أسرارهم- كما لا وجه لما قد يقال في توجيه البطلان من أنّ

الرهن و البيع متنافيان، و على القول بكاشفيّة الإجازة يلزم اجتماعهما في زمان واحد و هو ما قبل الإجازة.

و فيه أوّلا: أنّه لا منافاة بينهما عقلا كما عرفت، لإمكان رهن مال الغير.

و ثانيا: سلّمنا المنافاة بواسطة إرسالهم إيّاها إرسال المسلّم، و لكنّ القائل بالكشف كما يقول بانتقال الملك من حين العقد يقول بزوال الرهانة أيضا من حينه، فلم يجتمعا في زمان واحد.

و ثالثا: لا يلزم من القول بالكشف في الفضولي بعد كونه خلاف القاعدة كما قرّر في محلّه و كون النقل على وفقها، القول به هاهنا مع اختصاص الدليل- و هو صحيحة محمّد بن قيس- بذلك الباب و عدم إجماع في المقام أيضا.

و رابعا: لو قال بالكشف في الإجازة فلا وجه للقول به في الفكّ و الإسقاط و السقوط بالإبراء حتّى يقال: لا معنى لكشف عن سبق زوال الرهن فيها، و ذلك للقطع بتأخّر زوال الرهانة، أعني: حصوله حينها، و حينئذ فكيف التوفيق بين

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 207

الفكّ الحالي و الانتقال الماضي، وجه عدم الوجه اختصاص دليل الكشف بالإجازة فلا بدّ في غيرها من الفكّ و أخويه من المشي على طبق القواعد من النقل، و عليه فلا يلزم شي ء، هذا.

بقي الكلام في كاشفيّة الإجازة و الفكّ و الإسقاط و الإبراء و ناقليّتها أو التفصيل بين الإجازة و غيرها بكاشفيّة الأولى و ناقليّة غيرها كما يظهر تقويته من كلام شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته العالية-: القول بالكشف في مسألة الفضولي تارة مستند إلى القواعد و أخرى إلى التعبّد، و على الأوّل قد نختار تقريب صاحب الفصول من جعل الشرط وصف التعقّب الحاصل حال العقد فيخرج عن الشرط المتأخّر

و يكون من الشرط المتقدّم، و قد نختار تقريب صاحب الكفاية- أعلى اللّه مقامه- من كون الشرط هو الوجود اللحاظي لا الخارجي و هو مقارن سواء قارن الوجود الخارجي أم سبق أم لحق، و هذا أيضا يخرج عن الشرط المتأخّر إلى المتقدّم.

و هذان ممّا لا يلتزم بلازمهما القوم مضافا إلى كونهما خلاف ظاهر الأدلّة، أمّا الأوّل فلأنّ اللازم منهما جواز تصرّفات المشتري من الفضولي في المبيع قبل الإجازة إذا علم بلحوقها و لا يلتزم به القوم، و أمّا الثاني فلأنّ الظاهر من الأدلّة أنّ الشرط إجازة المالك و هذا إجازة غير المالك.

و قد نختار تقريب آخر هو ظاهر المشهور القائلين بالشرط المتأخّر و هو أن يقال كما هو عبارة جامع المقاصد و الروضة على المحكي: بأنّ العقد سبب تامّ في الملك لعموم قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و تمامه في الفضولي إنّما يعلم بالإجازة، فإذا أجاز تبيّن كونه تامّا، يوجب ترتّب الملك عليه و إلّا لزم أن لا يكون الوفاء

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 208

بالعقد خاصّة بل به مع شي ء آخر، انتهى.

و توضيح المراد منه أنّ مقتضى العمومات أنّ متعلّق الوفاء هو العقد، و معنى الوفاء به هو الجري على طبق مفاده و مضمونه و هو إمّا النقل من حينه بناء على دخل الزمان في المنشأ قيدا على خلاف التحقيق، و إمّا النقل على وجه الإرسال و الإطلاق من دون تحديد في أوّله و لا في آخره، و مقتضى هذا مقارنة زمان المعلول الذي هو المضمون لزمان علّته الذي هو العقد، كما أنّ النار ليس مؤثّرا في الإحراق المقيّد بالحال و إنّما الحال ظرف تأثيرها، و لكن حيث إنّ أثرها الإحراق المطلق المرسل لا

المبهم المهمل فلازم ذلك عدم تأخّر الإحراق عن زمان وجود النار، هذا مقتضى العمومات.

و أمّا الدليل الدالّ على اعتبار الرضا و طيب النفس من المالك أو من له الاختيار فإن كان ظاهرا في اعتبار خصوص الرضا المقارن دون المتأخّر لم يكن بدّ من رفع اليد عن العموم في غير صورة مقارنة الرضى، و أمّا إذا كان المتيقّن منه اعتباره في قبال عدم وجوده رأسا لا سابقا و لا مقارنا و لا لاحقا، فمقتضى الأخذ بالعموم في ما سوى القدر المتيقّن و الاختصار في التخصيص على مقدار المتيقّن هو القول بلزوم الوفاء عند تأخّر الرضا كما في صورة مقارنته، و قد عرفت أنّ قضيّة الوفاء بالعقد و الجري على مضمونه من التمليك من حينه أو التمليك المرسل الملازم مع التمليك من حينه هو الحكم بعد الإجازة المتأخّرة لحصول هذا المضمون، أعني: حصول الملكيّة من حين العقد، لأنّ غير ذلك أجنبي عن العقد و مفاده خارج عن اسم الوفاء به و الجري على طبقه.

غاية الأمر يبقى هنا إشكال أنّه يلزم اجتماع المالكين في مال واحد في قطعة واحدة من الزمان و هي ما بين الإجازة و العقد، و أيضا كيف يمكن التأثير من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 209

اللاحق في السابق؟

و الجواب عن كلا الإشكالين يتّضح بملاحظة باب الإجارة، ألا ترى أنّ المؤجر ينقل المنفعة في القطعة المستقبلة إلى المستأجر مع كونها قبل ذلك للمؤجر؟

فلا مانع من وجود المالكين في القطعة الواحدة بعد تعدّد زمان الاعتبار، فالحال في القطعة السابقة في مقامنا حال القطعة اللاحقة في الإجازة، فما قبل الإجارة كان المعتبر ملكيّة الدار مثلا للمالك الأصلي و ما بعدها يعتبر ملكيّتها في تلك القطعة الخاصّة

الماضية للمشتري من الفضولي.

و في الحقيقة مرجع هذا الوجه أيضا إلى الشرط المتقدّم؛ فإنّ الحكم بمضمون العقد إنّما هو بعد الإجازة الخارجية و إن كان المحكوم به متقدّما، و هذا سالم عن الإشكالين السابقين الواردين على الوجهين المتقدّمين كما هو واضح، إلّا أنّه يرد عليه أنّ مفاد العقد على ما هو التحقيق ليس إلّا إنشاء حقيقة الملكيّة معرّاتا عن جميع القيود حتّى قيد الإطلاق و الإرسال، و إذن فاللازم تأخّر هذا المنشأ عن كلّ ماله دخل في التأثير، و إذن فالكشف بهذا المعنى غير معقول، و إذا ورد في النصوص ما ظاهره ذلك فلا بدّ من التصرّف و تأويله إلى إرادة الكشف الحكمي بمعنى التعبّد بآثار الملكيّة السابقة، و على هذا فالمطابق للقواعد هو النقل، و الكشف الحكمي ثابت بالتعبّد.

إذا عرفت ذلك فنقول في المقام: إن اخترنا مذهب المشهور من كون الكاشفيّة على وفق القواعد فعين التقريب المتقدّم جار في المقام حرفا بحرف، فإنّه يقال: إذا لم يكن للدليل الدال على مانعيّة الرهانة ظهور في أنّ وجود الرهانة حال العقد مانع و لو طرأ عليه الزوال بعد ذلك كما هو الحال في مانعيّة الوقف و الاستيلاد و الغرر بل القدر المتيقّن منه دوران المانعيّة مدار وجودها، ففي أيّ زمان

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 210

ارتفعت زال المانع عن تأثير العقد.

و حينئذ فكما قلنا في الفضولي أنّه حين حصول الإجازة تحقّق شرط نفوذ العقد و معنى نفوذه تحقّق مضمونه من هذا الحين، و مضمونه الملكيّة من حينه أو ملازم لها، كذلك نقول هنا: إنّه حين ارتفاع الرهانة ارتفع مانع نفوذ العقد، و معنى نفوذه تحقّق مضمونه من هذا الحين و هو الملكيّة المقارنة لحال العقد،

إذ لا فرق في الجهة المذكورة بين الشرط و المانع، و مجرّد كون الإجازة لها لسان في إمضاء ما هو مضمون العقد بخلاف الفكّ و نحوها- فإنّه من هذا الجهة لا لسان له أصلا- لا يوجب الفرق فإنّ هذا إنّما يكون فارقا لو كان المؤثّر في حدوث الملك هو الإجازة و الفكّ، و أمّا إذا كانا موجبين لتماميّة العقد في التأثير فلا تفاوت بين وجود هذا اللسان و عدمه و هذا واضح.

بل الإجازة في مقامنا من حيث كونها دخيلة لا لسان لها؛ فإنّها من حيث نفسها غير معتبرة كما في إجازة المالك، بل المعتبر رفع المانع، فالإجازة إنّما يعتبر بها من حيث كشفها عن رفع المرتهن يده عن المنع و الردّ، و من هنا قالوا بصحّة العتق مع كونه من الإيقاعات الغير القابلة للوقوف بإجازة المرتهن، و من هنا أيضا اختار بعض عدم مضريّة الرد السابق في الإجازة اللاحقة، إذ ليس بأزيد من عدم رفع اليد عن حقّه، و الإجازة معناها رفع اليد عنه، هذا بناء على ما هو المشهور بين القائلين بالكشف.

و أمّا على ما هو الحقّ من الكشف الحكمي فلا بدّ من الاقتصار على مقدار الدليل بعد كون مقتضى العمومات هو النقل، و مقتضى صحيحة محمّد بن قيس التي هي المستند في ذلك الباب ليس إلّا الكشف في خصوص الإجازة المالكيّة في باب البيع، و على فرض التعدّي بضميمة الإجماع على عدم الفرق إلى سائر الأبواب

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 211

من الصلح و الإجارة و غيرهما من العقود الواقعة على ملك الغير، فلا وجه للتعدّي إلى مثل إجازة المرتهن في المقام التي قد عرفت أنّها ليست من قبيل تتمّة المقتضي، بل

رفع المانع فضلا عن التعدّي إلى غيرها من الفكّ و الإسقاط و الإبراء، فلا محيص فيها عن المشي على القاعدة من النقل، هذا.

و ممّا ذكرنا يظهر النظر فيما ذكره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف- من أنّ

القول بالكشف في الفضولي يستلزمه هنا بالفحوى، لأنّ إجازة المالك أشبه بجزء المقتضي، و هي هنا من قبيل رفع المانع، انتهى المقصود من كلامه،

لأنّ الفحوى المذكورة ممنوعة غاية المنع بناء على ما هو قضيّة القواعد من النقل كما هو مختاره- قدّس سرّه- أيضا، فإذا ورد التعبّد بالكشف الحكمي في ما هو من قبيل جزء المقتضي لا يمكن التعدّي منه إلى ما هو من قبيل رفع المانع، و هل هو إلّا القياس الممنوع؟

نعم ما ذكره لا بأس بجعله مؤيّدا بناء على جعل قضيّة القواعد هو الكشف.

و ظهر ممّا ذكرنا أيضا أنّ الفكّ في المقام لا شباهة له ببيع الفضولي لنفسه ثمّ تملّكه، و ذلك لأنّ الإشكال في تلك المسألة أنّ حقيقة البيع هو المبادلة عن شخصي المالكين الموصوفين بالمالكيّة حال العقد، فإذا تغاير الشخص المالك حال العقد مع المالك حال الإجازة، فلا يرتبط الإجازة بالمجاز، و هذا الإشكال غير وارد في المقام في صورة الفكّ و نحوه، فإنّ الذي تعرّضت لنقله المعاملة البيعيّة إنّما هو الإضافة الملكيّة و هي وقت العقد و الفكّ ثابتة لشخص واحد و هو الراهن.

نعم الإضافة الحقيّة قد اختلف من قامت به، فحال العقد كانت للمرتهن و حين الفكّ صارت للراهن يعني تمحّضت العلاقات له، فلو كانت المعاملة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 212

البيعيّة متصدّية لنقل الحقّ و مبادلته أيضا كان الإشكال المذكور بالنسبة إلى الحقّ جاريا، و لكن من المعلوم أنّ المبادلة إنّما هي

بلحاظ ملكيّة الرقبة من غير تعرّض للحقوق المتعلّقة بها و عليه فلا إشكال.

ثمّ إنّ ما تقدّم من الكلام في تصحيح بيع الراهن بإجازة المرتهن يجري حرفا بحرف في تصحيحه عند فوات موضوع حقّ المرتهن بالإسقاط أو السقوط و ذلك بأن يقال: قضيّة أَحَلَّ اللّٰهُ و أَوْفُوا هو الصحّة في هذا الفرد سواء قبل السقوط أم بعده، و لكن بعد ورود الدليل على المنع في حال عدم السقوط مع إجماله بحيث لم يعلم أنّه منع دائمي أو ما دام عدم السقوط يؤخذ في ما سوى القدر المتيقّن بالعموم المذكور.

لا يقال: حيث إنّ الإجمال إنّما نشأ من عطف المرتهن على الراهن، و المنع في المرتهن معلوم أنّه مغيّى بإجازة الراهن و لا ينفعه شي ء آخر، فالمناسب أن يكون في طرف الراهن أيضا غاية المنع إجازة المرتهن ليس إلّا، فلا إجمال من حيث السقوط بغير الإجازة.

لأنّا نقول: غاية ما ذكرت حدوث احتمال ثالث في العبارة؛ فإنّ المعلوم أنّ المنع في طرف المرتهن منع عن الاستقلال، غاية الأمر قد علم من الخارج أنّ الضميمة المحتاج إليها فيه ليس إلّا الإجازة، فالذي يعلم من ذلك في طرف الراهن إنّما هو كون المنع منعا عن الاستقلال، و أمّا ما يحتاج إليه في تماميّة التأثير ماذا؟ ففي هذا الطرف غير معلوم، فمن الأمور المحتملة كونها كافية في تتميم التأثير هو السقوط بغير الإجازة و إن كنّا نحتمل أن يكون خصوص إجازة المرتهن حتّى لا يمكن الصحّة بعد زوال موضوع الحقّ، لامتناع لحوق الشرط الذي هو الرضى من المرتهن بامتناع موضوعه، فإذا كان العموم موجودا يرجع إليه في مورد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 213

الشكّ، فالتقييد الوارد عليه إمّا بتقييد عنوان العقد

بما وقع على العين الغير الواقعة تحت الرهن بحيث كلّما خرج عن تحته كان كافيا و لو بعد وقوع العقد عليها مرهونة، و إمّا بتقييد الأمر بالوفاء بجعله مشروطا بما بعد السقوط.

فليس المقام على كلّ حال من التخصيص الفردي حتى يقال إنّه بعد خروج هذا الفرد في زمان، أعني: ما قبل السقوط، فعموم العام له بعد ذلك الزمان محتاج إلى العموم الأزماني و هو مفقود في المقام فلا بدّ من الرجوع إلى استصحاب عدم النقل و الانتقال.

و إن كان هذا المعنى يظهر من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف-؛ فإنّه أوّلا استظهر إلحاق الفكّ و الإسقاط و نحوهما بالإجازة، لأنّ المانع قد زال، ثمّ احتمل أن لا ينفع الفكّ و نحوه في التصحيح بملاحظة أنّ صحّة بيع الراهن لكونه في ما فيه حقّ المرتهن منوطة برضى المرتهن و هو قد امتنع حصوله بواسطة فوات موضوعه و فوات الموضوع و إن كان متحقّقا في طرف الإجازة أيضا إلّا أنّه فوات مترتّب على الإجازة التي هي الشرط، و هذا بخلاف الفكّ و نحوه؛ فإنّه ليس في ذلك دلالة على رضي المرتهن بمضيّ البيع أصلا، فحال البيع في صورة الفكّ و نحوه حال البيع الفضولي الذي صار بعد ذلك مالكا، فكما أنّ إجازة من له الإجازة حال العقد ممتنعة هناك، فكذلك في المقام، و أيضا حاله حال نكاح العبد بعد عتقه قبل إجازة المولى حيث لا يثمر العتق في نفوذ النكاح لامتناع لحوق تأثير الشرط في استقلال عقده و هو رضي المولى.

ثمّ قال- قدّس سرّه-: مضافا إلى استصحاب عدم اللزوم الحاكم على عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ بناء على أنّ هذا العقد غير لازم قبل السقوط فنستصحب حكم الخاص، و ليس

ذلك محلّ التمسّك بالعام، إذ ليس في اللفظ عموم زماني حتى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 214

يقال: إنّ المتيقّن خروجه هو العقد قبل السقوط فيبقى ما بعد السقوط داخلا في العام.

و كأنّه- قدّس سرّه- أوّلا تمسّك بإطلاق المخصّص الدالّ على إطلاق الممنوعيّة في غير صورة رضي المرتهن و لو بعد فوات حقّه، ثمّ بعد الغضّ عن هذا الإطلاق

قال: إنّ المقام ليس من مرجعيّة العام لعدم العموم الأزماني،

ثمّ استدرك عن هذا الكلام

و قال: لكنّ الإنصاف ضعف الاحتمال المذكور من جهة أنّ عدم تأثير بيع المالك في زمان الرهن ليس إلّا لمزاحمة حقّ المرتهن المتقدّم على حقّ المالك بتسليط المالك، فعدم الأثر ليس لقصور في المقتضى و إنّما هو من جهة المانع، فإذا زال أثّر المقتضي.

و مرجع ما ذكرنا إلى أنّ أدلّة سببية البيع المستفادة من نحو أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و «الناس مسلّطون على أموالهم» و نحو ذلك عامّة، و خروج زمان الرهن يعلم أنّه من جهة مزاحمة حقّ المرتهن الذي هو أسبق، فإذا زال المزاحم وجب تأثير السبب، و لا مجال لاستصحاب عدم تأثير البيع للعلم بمناط المستصحب و ارتفاعه، فالمقام من باب وجوب العمل بالعام لا من مقام استصحاب حكم الخاصّ فافهم،

انتهى ما أردت نقله من كلامه المنيف- أعلى اللّه مقامه الشريف.

و حاصل هذا الكلام تسليم سقوط العموم في الحكم الفعلي عن قابليّة الاستدلال؛ لعدم العموم الأزماني، لكن مع ذلك لا يرجع إلى استصحاب حكم الخاص بواسطة استفادة المناط الشرعي و معاملة باب المزاحمة بين المناطات في المقام، و ذلك لأنّا نستفيد من العمومات- أعني: بإطلاق مادّتها- تاميّة العقد في السببيّة و نستفيد من دليل مانعيّة الرهن أنّه من جهة المزاحمة و كونه

أحقّ بالمراعاة لا من جهة كسره في اقتضاء المقتضي، فمقصوده من أنّ المقام مقام العمل بالعام

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 215

هو العمل بالعموم الاقتضائي و أنّ التخصيص إنّما ورد في العموم في الحكم الفعلي دون الاقتضائي.

و حينئذ فقاعدة باب المزاحمة بحكم العقل أنّ السبب يؤثّر أثره إذا زال المزاحم عن تأثيره، و ليس هكذا الحال في نكاح العبد بدون إذن سيّده، فإن عدم الاستقلال فيه ليس لأجل المزاحمة بل لقصور المقتضي فلا يمكن بعد زوال الرقيّة الحكم بنفوذ تأثير السبب و فعليّته لعدم معلوميّة حدّ المقتضي، فيكون استصحاب عدم اللزوم محكّما، هذا ما أفاده- أعلى اللّه مقامه.

و استشكل عليه شيخنا الأستاذ- أعلى اللّه شأنه و أدام على الطلّاب فيوضات بحثه- أوّلا: إذا أسقطتم عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ عن قابليّة التمسّك عند إجمال دليل المنع و عدم إطلاقه لما بعد السقوط فلم ما ذكرتم ذلك في مسألة الفضولي بعد إجمال دليل اشتراط طيب نفس المالك و رضاه و عدم دلالته على خصوص الرضى المقارن؟

فمقتضى ما ذكرتم هنا أنّ تقولوا بسقوط العموم المذكور أيضا عن الاستدلال، فإنّ خروج هذا العقد في زمان، أعني: ما قبل إجازة المالك يوجب عدم التمسّك بالعموم بعده لعدم العموم الأزماني، و لكنّكم قلتم في ذلك الباب بأنّ الباب باب التقييد لا التخصيص الفردي بمعنى أنّ العقد مطلق أعمّ من المجاز و غيره، و أوفوا مطلق غير مشروط بالإجازة و عدمها، فإذا صار دليل الاشتراط مجملا من حيث اعتبار المقارنة فالمقدار الذي يرفع اليد عن الإطلاق إنّما هو بالنسبة إلى أصل الرضى، و أمّا المقارنة فالإطلاق بالنسبة إليه محكّم، و إذا كان الحال في ذاك المقام بهذا المنوال بل و في إجازة

المرتهن في مسألتنا حيث صرّحتم بكونه من باب التنويع لا التخصيص، فلم يعلم ما وجه الفرق بين ذينك المقامين

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 216

و هذا المقام، أعني: مسألة فكّ الرهن و سقوط بالإسقاط و نحوه فإنّ عين هذا الكلام جار فيه بلا فرق و تفاوت.

و ثانيا: إذا أغمضنا عن ذلك الإشكال و سلّمنا سقوط العموم عن قابليّة الاستدلال فالمرجع ليس إلّا الاستصحاب و إتمام المرام بمعاملة باب المزاحمة بين المناطات الشرعيّة المعلومة في غاية الإشكال.

أمّا أوّلا: فلأنّه إذا فرضتم عدم عموم أوفوا في الحكم الفعلي، و خروج الفرد عن تحته في ما قبل السقوط فمن أيّ طريق يستكشف السببيّة و الاقتضاء في هذا العقد، و المفروض انحصار طريقه في الاندراج تحت العموم المتعرّض للحكم العقلي المفروض العدم في المقام؟ و إطلاق المادّة إنّما يؤخذ به في قبال التقييدات العقليّة الواردة على الخطاب لا في قبال القيود الشرعيّة اللاحقة له و لو بدليل منفصل، فمن المحتمل كون المقام من باب قصور المقتضي، و إذا جاء الاحتمال كفى في مرجعيّة الاستصحاب و إن كان المقصود أنّ أَوْفُوا و أمثاله أحكام حيثيّة اقتضائيّة غير متعرّضة للحكم الفعلي، فما وجه الاستدلال به في مقامات كثيرة لدفع احتمال شرطيّة أمر أو مانعيّته إلّا بناء على قاعدة المقتضي و المانع، التي تقرّر في محلّه عدم تماميّتها باعترافه- قدّس سرّه.

و أمّا ثانيا: فسلّمنا استفادة السببيّة من العموم في الحكم الاقتضائي و أنّ التخصيص إنّما هو بالنسبة إلى الحكم الفعلي دون الاقتضائي المستكشف منه، فمن أيّ طريق يستكشف كون مانعيّة الرهن قائمة بوجوده دائرة مداره إثباتا و نفيا؟ فمن المحتمل كونها قائمة بأصل الحدوث و لو زال و لم يبق فإنّ

المفروض إجمال دليل المنع أيضا من هذا الحيث، فإذا جاء هذا الاحتمال أيضا كفى في الرجوع إلى الاستصحاب.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 217

فإذن فالأسلم هو الطريقة التي مشيناها من الرجوع إلى العموم في الحكم الفعلي كما مرّ توضيحه، هذا بالنسبة إلى أصل الصحّة، و أمّا بالنسبة إلى النقل و الكشف فقد عرفت الكلام.

لكن يظهر من كلام شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- أنّه سواء قيل في الإجازة بالكشف على طبق القاعدة بناء الاستدلال على ما ذكره جماعة من أنّ مقتضى مفهوم الإجازة إمضاء العقد من حينه، أم قيل فيها بالكشف التعبّدي فلا محيص من القول بالنقل في الفكّ و الإسقاط، ثمّ نظره بمسألة بيع الفضولي ثمّ تملّكه و أنّ القول بالكشف كما يلزم منه في تلك المسألة محذور اجتماع المالكين في زمان واحد- هو ما بين العقد و الانتقال إلى الفضولي- يلزم في مسألتنا اجتماع البيع و الرهن مع كونهما متنافيين في زمان واحد، هذا ما أفاده.

و استشكل عليه شيخنا الأستاذ- أطال اللّه أيّام إفاضاته الشريفة- أوّلا: بأنّه لو قيل بالكشف على طبق القواعد فكون الإجازة لها لسان بالنسبة إلى إمضاء مفاد العقد دون الفكّ لا يجدي نفعا، لأنّ الإجازة ليست معتبرة في هذا المقام إلّا من جهة دلالته على رفع المنع، و هذه الجهة مشتركة بينها و بين الفكّ، و على فرض الغضّ عن ذلك و كونها معتبرة من حيث نفسها فالمبنى المذكور يقتضي عدم الفرق و عدم اجداء في اللسان المذكور في الكشف.

و ذلك لأنّه بعد ما فرض تسلم القائل- بمقدّمتين الأولى: كون مفاد العقد النقل من حينه لا أنّ مفاده حقيقة النقل و قيد من حينه مأخوذ في الإجازة، فإنّ الإجازة لا تتعلّق

إلّا بمفاد العقد كيف ما كان فظاهر كلامه أنّ قيد من حينه مأخوذ في مفاد العقد، و الثانية: إمكان تحقّق هذا المضمون في المستقبل كما هو مبني كلامه- فلا محيص له عن القول بالتسوية بين الإجازة و الفكّ في القول بالكشف، و قد مرّ تفصيل ذلك.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 218

و ثانيا: لو كان الوجه في الفرق بين المقامين ما ذكره أخيرا من لزوم المحذور المذكور من كاشفيّة الفكّ- حيث إنّ ظاهر الكلمات أنّ الرهن بعد تعلّقه بالمال سواء مال نفس الراهن أم غيره لا يمكن تعبيره عن ماليّة صاحبه و كون ذلك مسلّما فيما بينهم يتلقّونه بالقبول من غير إنكار- ففيه: أنّ القدر المتيقّن من ذلك ما دام الرهن باقيا غير مفكوك، أمّا بعد الفكّ فلا مانع من سراية البيع من المستقبل إلى الزمان الماضي الذي كان ظرفا للرهن، و هو غير ما يلزم في مسألة الفضولي، فإنّ اللازم هو الحكم بملكيّة النماءات مع كونها ملكا للمالك الأصلي للمشتري من الفضولي، و من المعلوم عدم إمكان القول به، هذا.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- جعل في هذا المقام و في مسألة الفضولي من الثمرة بين الكشف و النقل جريان حكم الوفاء في حقّ الأصيل و الفضولي هناك، و في حقّ البائع و المشتري هنا قبل لحوق الإجازة من المالك و المرتهن بناء على الكشف، و أمّا بناء على النقل فالحال كما بين الإيجاب و القبول حيث لا وجوب في حقّ الموجب ما لم يلحق القبول.

قال شيخنا الأستاذ- دامت بركات أبحاثه الشريفة-: إلى الآن لم أفهم ما مراده- قدّس سرّه- و أنّه على أيّ معنى حمل قول الكشف حتّى أفاد هذه الثمرة، و هل

القائل يقول بنقصان في تأثير العقد و عدم كونه تامّا في التأثير و منتظرا للحوق شي ء آخر، أو يقول لا دخل لشي ء أصلا و هو علّة تامّة، فإن كان الثاني فما وجه التوقّف عن ترتيب آثار البيع التام من جميع الجهات؟ و إن كان الأوّل فلا فرق بين المقام و بين ما قبل القبول، و الذي نعقله أنّ قضيّة كلّ من النقل و الكشف جواز التصرّفات المنافية لكلّ من الطرفين ما دام لم يلحق الإجازة، و إن علم بلحوقها إلّا بناء على القول باشتراط التعقّب، فإنّ لازمه عدم الجواز مع العلم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 219

باللحوق، و الجواز مع العلم بالعدم و كذا مع الشكّ لأصالة عدم اللحوق.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- فرّع على ما ذكره من ثمرة الكشف أنّه لا يجوز للبائع الراهن بيع العين المرهونة، لأنّه خلاف الوفاء بعقد البيع ثمّ احتمل أن يقال بوجوب فكّه من مال آخر لكونه مقدّمة للوفاء بعقد البيع

ثمّ قال: يمكن أن يقال: ليس مقتضى الوفاء إلّا عدم نقض البيع

، و أمّا الفكّ و التخليص عن حقّ الغير فليس من مقتضاه، فلا دليل على وجوب الفكّ من جهة أوفوا بعقد البيع.

قال شيخنا الأستاذ: على هذا يلزم بطلان الرهنيّة، إذا الإجبار على البيع أو تصدّي الحاكم له فرع قابليّة العين لتصرّف نفس الراهن، لأنّ الحاكم وكيل و نائب عن الراهن و النيابة فرع عدم المانع، في ذات العمل للمنوب عنه، و ليس قضيّة عقد الرهن إلّا بيع العين المرهونة في تقدير سلطنة الراهن و مشروعيّة أصل البيع في حقّه، فإذا فرض خروجها عن ذلك فقد فات المحلّ، و على هذا فيخرج العين عن كونها وثيقة

للدين، لعدم الطريق إلى تحصيل الدين منها، و هذا معنى بطلان الرهانة، هذا على ما ذكره- قدّس سرّه- و أمّا على ما مضى فما لم يلحق الإجازة لا مانع من شي ء من التصرّفات المنافية لا للمشتري في الثمن و لا للبائع في المثمن من ناحية هذا العقد، فلا مانع من بيعه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 220

[السبب الرابع من أسباب خروج الملك عن كونه طلقا جناية العبد عمدا]

مسألة إذا جنى العبد بما يوجب قصاصه في النفس أو الطرف أو استرقاق كلّه أو بعضه

فهل بيع المولى له صحيح أو باطل من رأس، و على الأوّل هل يقع مراعى بالافتكاك- و إلّا يصير باطلا من رأس كالفضولي- أو يقع صحيحا غير مراعى، غاية الأمر ثبوت الخيار للمشتري مع الجهل بالحال.

فهنا موقعان من الكلام، أمّا الأوّل: فقضيّة العمومات هو الصحّة و كون العين متعلّق حقّ الغير- ما لم يدلّ دليل كما في الرهن- لا يصلح مخصّصا بعد فرض بقاء ملكيّة المولى بعد الجناية على حالها كما هو ظاهر لفظ الاسترقاق الواقع في بعض الأخبار، و لا مزاحمة بين البيع و حقّ المجنيّ عليه، لأنّ الحقّ قائم بالعين في ملك أيّ مالك دخل و لا يتقوّم بخصوص ملك مولى الذي وقع الجناية في ملكه، و من هنا يعلم أنّ حال البيع أسهل من العتق، فإنّه له مزاحمة من جهة تفويته للمحلّ بالنسبة إلى الاسترقاق الذي هو أحد طرفي الحقّ التخييري للمجنيّ عليه بخلاف البيع فإنّ الحقّ بكلا طرفيه قابل للأعمال بعده كما كان قبله بلا تفاوت أصلا، و من هنا يظهر أنّ قضيّة القاعدة في الموقع الثاني هو القول بالصحّة و عدم المراعاة، غاية الأمر ثبوت الخيار مع الجهل بالحال.

لا يقال: الأمر دائر بين تخصيص عمومات صحّة البيع أو

حفظها و تخصيص قاعدة الناس بالنسبة إلى المشتري لتسلّط المجنيّ عليه على ماله المنافي لسلطنته.

لأنّا نقول: قاعدة الناس بالنسبة إلى هذا المال مقطوع التخصيص، و لا فرق بين بقائه على ملك مالك واحد أو تبادل الأملاك عليه و لا يوجب الثاني كثرة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 221

تخصيص في القاعدة بعد كون خروج الجميع بعنوان واحد و هو كون مالك هذا المال أيّ شخص كان غير مختار بالنسبة إلى الاسترقاق و القتل، و على هذا فيبقى تخصيص عمومات صحّة البيع بلا وجه.

و الفرق بين المقام و المقام السابق، أعني: باب الرهن- حيث لم نقل فيه بالصحّة على طبق القواعد مع ثبوت الخيار- وجود الدليل الخاص من الإجماع و المرسل المتقدّم المانعين من القول بذلك هناك و عدم مثله هنا، و إلّا فقضيّة القواعد بالنسبة إلى كلا المقامين ما ذكرنا بلا تفاوت.

و يمكن أن يقال: إنّ هذا الكلام في مورد علم المشتري بالحال أو جهله و فسخه قبل وقوع أحد الأمرين من القتل أو الاسترقاق صحيح، و أمّا إذا جهل و لم يطّلع إلّا بعد الوقوع فإن قلنا من القاعدة الكليّة أنّ التلف أو الإتلاف الغير الضماني الواقعين في زمن خيار أحد الطرفين يكون من غير ذي الخيار فكذلك لا كلام، إذ يحكم في المقام بأنّ العبد من ملك البائع ورد عليه التلف فيرجع المشتري بثمنه.

و أمّا إن قلنا: بأنّ ذلك لم يثبت على وجه الكليّة و إنّما الثابت تحقّقه في بعض الخيارات فاللازم في غيره هو المشي على طبق قاعدة الفسخ، فحينئذ مقتضى قاعدته أن يصير العقد منحلّا كالأوّل، و معناه رجوع كلّ إلى عين عوضه مع البقاء و إلى بدله مع التلف، فكما

يرجع المشتري في مقامنا إلى ثمنه عند المولى البائع، يرجع هو أيضا إلى بدل عبده، إذ الفرض تالفيّته، فالفسخ المذكور يكون كرّا على ما فرّ، إذ الفرض أنّ الغرض من جعله دفع ضرر الاسترقاق أو القتل عن المشتري، فإذا فرض أنّ الفسخ أيضا يوجب تدارك العبد عليه فهو من باب الأكل من القفا، فيبقى مطابق القاعدة بعد ملاحظة ذلك هو القول بعدم اللزوم و المراعاة،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 222

فإن افتك لزم و إلّا بطل من الأصل، لأنّ لا ضرر مقطوع التخصيص بالنسبة إلى المولى إلّا أن يقال: مقتضى الجمع بينها و بين عمومات الصحّة هو القول بالانفساخ القهري آنا ما قبل الاسترقاق أو القتل، و لكنّه يحتاج إلى الدليل و المفروض عدمه.

و يرد على أصل الكلام بالنسبة إلى الشقّ الأوّل من الترديد أنّا سلّمنا عموم كون التلف في زمن الخيار على من لا خيار له في جميع الخيارات لكن هذا لا ينفع في إثبات أصل الخيار، فإنّ الخيار لا بدّ أن يثبت من الخارج، ثمّ يتفرّع عليه هذا الحكم و لا يمكن إثباته بنفس هذا الحكم. و بعبارة أخرى لا بدّ أن يكون الخيار في نفسه مشمولا لقاعدة لا ضرر حتّى يفيد الحكم المذكور، و لا يمكن كون هذا الحكم جاعلا تحت القاعدة، هذا مضافا إلى عدم العموم و أنّ الظاهر أنّ المراد بزمن الخيار الزمن الذي يكون حدّا للخيار، فلا يشمل إلّا الخيار الزماني و هو خيار الحيوان و الشرط و المجلس.

و يرد على الشقّ الثاني أنّ قاعدة الفسخ جعل كلّ من المالين مالا لصاحبه الأصلي، فلو تلف في يد المالك العرضي ينزّل من حين الفسخ منزلة مال المالك الأصلي الذي تلف

في يد الثاني فيكون الضمان على قواعده، ففي الموارد الأخر يكون بحكم ثبوت اليد على ملك الغير، و أمّا في المقام فاليد غير موجبة للضمان، لأنّ الفرض أنّ المسترق أو المقبض من يد المشتري ذو حقّ على المال فقد أدّى اليد المال إلى ذي الحقّ و هو غاية الضمان.

و القول بأنّ التنزيل إنّما هو من حيث الرجوع إلى العوض و الثمن و أمّا من حيث المهدوريّة و المهتوكيّة فلا، مدفوع بأنّ المهتوكيّة حكم على نفس المال لا باعتبار إضافته إلى مالك دون آخر، فإذا أضيف هذا المال المهدور الذاتي إلى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 223

البائع تنزيلا فمعناه رفع الضمان، و لو لا هذا فلا ينفع القول بالمراعاة و البطلان الرأسي على تقدير عدم الافتكاك أيضا شيئا، فإنّ البائع يرجع إلى المشتري و يقول:

عين مالي وقعت في يدك و تلفت فأنت ضامن، و إذن فالقول بالصحّة و عدم المراعاة و الفسخ مع عدم رجوع البائع إلى العوض أقرب إلى القواعد.

لا يقال: كيف يكون أقرب إليها و الأمر دائر بين رفع اليد عن قاعدة لا ضرر في جانب البائع بالقول بالخيار كما ذكرت و بين رفع اليد عنها في جانب المشتري بالقول بعدمه و لزوم العقد، فالمقام من الدوران بين ضرر أحد الشخصين و لا مرجّح.

لأنّا نقول: ضرر المشتري أولى بالمراعاة؛ لأنّ هذا من موارد ما أفاده شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- من أنّه إذا كان الضرر بطبعه متوجّها إلى أحد الشخصين فلا يجوز دفعه عن نفسه بإيراده على الشخص الآخر و إن كان هذا المنع ضررا عليه، و بيانه في الأصول، ففي المقام أيضا الضرر إنّما يوجّه إلى البائع أوّلا دون المشتري.

و قد يستند في

إثبات الخيار في المقام إلى إدراجه في الغبن، فإنّ العبد الذي عرضة للاقتصاص أو الاسترقاق أقلّ قيمة ممّن ليس كذلك، فإذا فرضنا قيمته مع هذه الحالة عشرين و بدونها مائة و قد اشتراها بالمائة جاز له الفسخ و الرجوع إلى البائع بما زاد على العشرين، و أمّا العشرون فقد فرض مساواة العبد له في الماليّة فلم يتلف عليه مجّانا، فيعود هذا المقدار إلى البائع لأنّه عوض التالف و هذا سالم عمّا يرد على الأوّل لكنّه لا كليّة له، إذ لا يشمل ما إذا اشترى العبد المذكور بالعشرين، أعني: بما يساوي قيمته الفعليّة، فاللازم حينئذ هو اللزوم و عدم الخيار.

أو يقال في هذه الصورة بل في الصورة الأولى أيضا على فرض التنزّل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 224

و تسليم عدم الاندراج تحت الغبن أنّ العقد صحيح لازم لا يجوز الفسخ و لكن على البائع رفع ضرر المشتري لأنّه هو السبب لوقوع هذا الضرر عليه و لو فرض أنّه كان أيضا جاهلا بالحال و أنّ عبده جان، فإنّ محلّ إجراء قاعدة السببيّة كلّ مورد كان في البين مباشر ضعيف الداعي كالإلقاء عند السبع أو قويّ الداعي لكن لم يكن منهيّا من قبل الشرع بل محقّقا مرخّصا في إتلافه فإنّ الضمان في الموردين يتوجّه إلى السبب من غير فرق بين علمه و جهله، كما لو وضع طعام الإنسان بين يديه بزعم من كليهما أنّه لغيره فإنّ الواضع ضامن بقاعدة السببيّة.

لا يقال: السبب هو العقد و هو مشترك بينهما، لأنّ البائع موجب و المشتري قابل، لأنّا نقول: نعم و لكن استناد الأثر إنّما هو إلى الموجب لأنّه المملّك و إنّما المشتري يقبل فعل البائع، و لكن هذا الوجه

أيضا لا كليّة له، إذ غاية الأمر ثبوت ذلك فيما إذا كان البائع هو الذي دعا المشتري إلى المعاملة، و أمّا لو فرض كون الأمر بالعكس و أنّ المشتري جاء إلى البائع و دعاه إلى المعاملة فلا يصدق السبب عليه عرفا.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ ملاك قاعدة لا ضرر أيضا لا كليّة له، لعدم جريانه في ما إذا ساوي قيمته السوقيّة مع الثمن المسمّى، لأنّ تلف العبد حينئذ مثل موته إلّا أن يقال بجريان قاعدة لا حرج، فإنّ ممنوعيّة المالك عن المدافعة عن ماله حرج عليه.

و كيف كان قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته-: أنّه يمكن التشبّث لإثبات الخيار بطريق آخر جار حتى في المورد المذكور أيضا و هو أن يقال: لا فرق في الأوصاف المبنيّة عليها المعاملة على وجه التقييد لا الداعي و التعليل بين كونها مذكورة في اللفظ أو منظورة ملحوظة حال المعاملة و كان الإنشاء واقعا بحسب

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 225

اللحاظ على المقيد و من هذا القسم الأخير وصف الصحّة فإنّ المتاع يشتريه الإنسان فهو ينظر إليه بنظر الصحّة و يوقعه بهذا الوصف بحسب الشراء و المعاوضة، فنقول إذا كان وصف الصحّة هذا حاله لا أنّه من قبيل الداعي، و العقد واقع على العين المجرّدة كما هو الحال في المساواة مع الثمن حيث إنّه داخل في الداعي لا أنّه منظور إليه بنحو التقييد، فالذي هو الطرف نفس العين و مساواتها علّة و داع للإقدام، يكون الحال في مقامنا، أعني: سلامة العبد عن حالة استحقاق الغير أخذه كذلك بطريق أولى، فالعقد يقع على العبد الملحوظ كونه بحيث ليس لأحد حقّ انتزاعه عن يد مالكه، فإذا ظهر الخلاف و لو اشترى

بما يساوي قيمته يثبت الخيار على تفصيل مذكور في باب خيار تخلّف الوصف كما يأتي إن شاء اللّه تعالى ثمّ، بقيّة الكلام كما سبق حرفا بحرف.

هذا كلّه بناء على عدم انتقال العبد بمحض الجناية إلى المجنيّ عليه، و أمّا لو قلنا بذلك غاية الأمر إمكان المصالحة مع المولى باختيار الأرش فحال المقام حال الفضولي لكن عند إجازة المجني عليه، و أمّا عند الافتكاك فهو من أفراد مسألة من باع ثمّ ملك.

و أمّا مسألة الانتقال و عدمه فظاهر قوله في حسنة زرارة في العبد إذا قتل الحرّ: «دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوه و إن شاءوا استرقّوه» «1»، و في آخر قال: «إذا قتل العبد الحرّ فلأهل المقتول إن شاءوا قتلوا و إن شاءوا استعبدوا» «2».

و في ثالث عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- قال الراوي: سألته عن عبد قتل أربعة أحرار واحدا بعد واحد قال: فقال- عليه السلام-: «هو لأهل الأخير من القتلى إن

______________________________

(1)- الوسائل: ج 19، الباب 41، من أبواب القصاص في النفس، ص 73، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ص 74، ح 4.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 226

شاءوا قتلوه و إن شاءوا استرقّوه؛ لأنّه إذا قتل الأوّل استحقّ أولياؤه، فإذا قتل الثاني استحقّ من أولياء الأوّل فصار لأولياء الثاني، فإذا قتل الثالث استحقّ من أولياء الثاني فصار لأولياء الثالث، فإذا قتل الرابع استحقّ من أولياء الثالث فصار لأولياء الرابع إن شاءوا قتلوه و إن شاءوا استرقّوه» «1»، حيث دفع الاسترقاق في الجميع في قبال القتل محفوظيّة ملك المالك و إنّما ينتقل بالاسترقاق، و ليس في قباله ظهور إلّا ما يتوهّم من ظهور «دفع» و ظهور اللام و لا ظهور لهما بعد

ما ذكرنا؛ لملاءمتهما مع كون الحقّ مفوّضا إليهم، و لا اختيار للمولى كما يكون له في جناية الخطاء ثمّ على فرض التسليم فلا أقل من التكافؤ فيرجع إلى استصحاب الملكيّة، هذا تمام الكلام في مسألة جناية العمد، و أمّا الخطاء فالأمر فيه واضح ممّا مرّ في العمد.

و الفرق إنّما هو في أنّ التخيير بين الأرش أو أقلّ الأمرين و بين دفع العبد أو ما قابل الجناية يكون للمولى، و قد كان هناك التخيير للمجنيّ عليه، و من هنا قد يتوهّم هنا أنّ اختيار البيع التزام من المولى بالفداء، و فيه: أنّ البيع لا دلالة فيه على الالتزام أوّلا، و على فرضه فلا دليل على صيرورته بمجرّد الالتزام متعيّنا في الذمّة بمعنى انقطاع يد المجنيّ عليه عن الرقبة، فلا يكون له الانتزاع لو امتنع المولى عن الفداء، فإنّ كون التخيير بيده لا يدلّ على كون اختيار تعيين الفداء في ذمّته أيضا بيده، و لو لم يرض المجنيّ عليه. و بالجملة فالمبيع هنا متعلّق لحقّ الغير، غاية الأمر لحقّ تقديري يقدّرها امتناع المولى عن دفع الفداء، فيجري هنا عين ما تقدّم في العمد حرفا بحرف.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 19، الباب 45، أبواب القصاص في النفس، ص 77، ح 3.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 227

[الشرط الرابع من شروط العوضين القدرة على التسليم]

[في بيان بعض الأبحاث المتعلقة بهذا الشرط]

[البحث الأول في بيان أدلة هذا الشرط]
[الدليل الأول الاستدلال بنهي النبي ص عن بيع الغرر]

الثالث من شروط العوضين القدرة على التسليم

و استدلّوا عليه بأنّه «نهى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن بيع الغرر» «1» و هذا غرر، و الغرر اسم مصدر للتغرير و معناه الخطر في كلام بعضهم، و في آخر أنّ التغرير التعريض للهلكة و الاسم الغرر، و في ثالث أنّ الغرر ما كان له ظاهر يغرّ المشتري و باطن مجهول، و في

رابع أنّ التغرير هو الحمل على غير ثقة و الغرر ما كان على غير عهدة و لا ثقة.

و الظاهر أنّ مآل الكلّ إلى عدم الوثوق و الاطمئنان كما هو المرويّ عن أمير المؤمنين- صلوات اللّه عليه- من أنّ «الغرر عمل ما لا يؤمن معه من الضرر»، و على هذا فالأمر دائر مدار الوثوق و عدمه لا الواقع و عدمه، بمعنى أنّه لو وثق بحصول القدرة يحكم بالصحّة و لو كان غير قادر واقعا، و لو لم يثق فسد البيع و لو كان قادرا كذلك، فبين ما وقع في العنوان من اشتراط القدرة الظاهرة في الواقعية و بين ما يستفاد من النهي المذكور من اشتراط الوثوق عموم من وجه.

هذا و مع الغض عن ذلك ربّما يستشكل في الاستدلال بالنهي للمقام بأنّ ظاهر النهي المذكور حيث تعلّق ببيع الغرر هو ممنوعيّة الغرر الواقع في البيع الذي

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 40، أبواب آداب التجارة، ص 330، ح 3.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 228

هو مبادلة مال بمال و هو لا محالة إنّما يكون بعدم الوثوق بالوجود أو الصفات أو المقدار في واحد من العوضين أو كليهما، و أمّا بعد تحقّق الاطمئنان و الثقة بكلّ ذلك فعدم الاطمئنان بحصول التسليم الخارجي و عدمه لا يوجب غرريّة البيع، لأنّ التسليم و التسلّم الخارجيين من متفرّعات التمليك و التملّك الإنشائيين، و البيع هو المتفرّع عليه و الغرر إنّما هو في المتفرّع، و لو كان الغرر في البيع يشمل الغرر في متفرّعاته، فلا بدّ أن يقولوا بالبطلان في ما إذا اطمأنّ بأصل الحصول في اليد و لكن لم يبق ببقائه فيها، كعبد خاف المشتري أن ينهزم من يده بعد ساعة

أو يغصبه غاصب كذلك و الحال أنّ أحدا لا يلتزم بذلك، فالفرق بين المقامين في المشمولية و عدمها تحكّم.

[الدليل الثاني الاستدلال بالنبوي المشهور لا تبع ما ليس عندك]

و استدل على الاشتراط المذكور بوجهين آخرين، الأوّل: ما اشتهر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قوله: «لا تبع ما ليس عندك» «1» بناء على أنّ كونه عنده لا يراد به الحضور، لجواز بيع الغائب و السلف إجماعا، فهي كناية لا عن مجرّد الملك لأنّ المناسب حينئذ ذكر لفظة اللام، و لا عن مجرّد السلطنة عليه و القدرة على تسليمه لمنافاته لتمسّك العلماء من الخاصّة و العامّة على عدم جواز بيع العين الشخصيّة المملوكة للغير ثمّ شرائها من مالكها خصوصا إذا كان وكيلا عنه في بيعه و لو من نفسه، فإنّ السلطنة و القدرة على التسليم حاصلة هنا مع أنّه مورد الرواية عند الفقهاء، فتعيّن أن يكون كناية عن السلطنة التامّة الفعليّة التي تتوقّف على الملك مع كونه تحت اليد حتّى كأنّه عنده و إن كان غائبا، و على أيّ حال فلا بدّ من إخراج بيع الفضولي عنه بأدلّته أو بحمله على النهي المقتضي لفساده بمعنى عدم وقوعه لبائعه لو أراد ذلك.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 2، أبواب أحكام العقود، ص 368، ح 4.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 229

و قد أورد عليه شيخنا الأستاذ- دام أيّام بقائه- بأنّ المراد به الإشارة إلى ما هو المتعارف في تلك الأزمنة من بيع الشي ء الغير المملوك ثمّ تحصيله بشرائه و نحوه و دفعه إلى المشتري، و الشاهد على الاختصاص قوله في بعض تلك الأخبار: «لا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها و تشتريها» «1» و في آخر بعد سؤال الراوي قال:

«أ ليس إن شاء أخذ

و إن شاء ترك؟ قلت: بلى، قال: لا بأس به» «2».

حيث إنّ من المعلوم أنّ مواجبة البيع في ملك الغير مع البناء على كونه ملك الغير لا يصدر من أحد إلّا على الوجه المزبور، أعني: المبايعة على العين الشخصيّة على أن تكون ملكا للمشتري في عهدة البائع نظير بيع الكلّي في السلف، فيكون النهي بدلالة الاقتضاء مصروفا إلى خصوص هذا القسم، و حيث إنّ هذه الأخبار كما يعلم بملاحظتها تكون ناظرة إلى شرح النبوي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «لا تبع ما ليس عندك» تكون دالّة على اختصاصه بهذا المورد.

[الدليل الثالث أنّ لازم العقد وجوب تسليم كلّ من المتبايعين العوضين إلى صاحبه، فيجب أن يكون مقدورا]

الوجه الثاني: أنّ لازم العقد وجوب تسليم كلّ من المتبايعين العوضين إلى صاحبه، فيجب أن يكون مقدورا، لاستحالة التكليف بالممتنع، و يضعّف بأنّه إن أريد أنّ لازم العقد وجوب التسليم وجوبا مطلقا منعنا الملازمة، و إن أريد مطلق وجوبه فلا ينافي كونه مشروطا بالتمكّن، كما لو تجدّد العجز بعد العقد، و قد يعترض بأصالة عدم تقييد الوجوب ثمّ يدفع بمعارضته بأصالة عدم تقييد البيع بهذا الشرط.

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-: و في الاعتراض و المعارضة نظر واضح، انتهى.

و لعلّ مراده- قدّس سرّه- أنّ المستدلّ حيث إنّه تمسّك بالقطع الخارجي

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 7، أبواب أحكام العقود، ص 374، ح 2.

(2)- المصدر نفسه: ص 375، ح 5.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 230

بالملازمة بين الصحّة و الوجوب المنجّز فليس جوابه إلّا المنع عن هذا القطع، و لا يمكن ذبّ هذا المنع عنه بأصالة الإطلاق في الوجوب، إذ لم يستند في دعواه إلى شي ء من الأدلّة اللفظيّة حتى يكون موردا للأصول اللفظيّة، كما لا وقع لمعارضة هذا الإطلاق بإطلاق البيع الواقع في الأدلّة،

فإنّه يسقط الإطلاق عن الحجّية بعد القطع المزبور.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته-: يمكن توجيه كلام المستدلّ على وجه يندفع عنه المنع المزبور و هو أن يدّعى أنّ مقتضى عقد البيع ليس هو الالتزام بملكيّة هذا بإزاء ملكيّة ذاك فقط، بل هو هذا الالتزام مع الالتزام بتسليم المبيع إلى المشتري و تسلّم الثمن منه، و لو كان مقتضاه هو الالتزام الأوّل لزم في ما إذا يقطع الطرفان بانقطاع يد كلّ منهما عن المال إمّا لوقوعه في قعر البحر بحيث لا يرجى التمكّن منه، أو وقوعه في أيدي بعض الظلمة و السرّاق الغير القابل بحسب العادة لاسترجاع المال من أيديهم أن يتمشّى القصد الجدّي إلى البيع و الشراء، و الظاهر عدمه و أنّ حاله بعينه حال ما إذا لم يمكن فكّ الملكيّة عن البائع، فكما أنّ القصد الجدّي حينئذ من البائع إلى البيع يرجع إلى قصد المتناقضين كذلك في هذا المثال أيضا قصد البيع الجدّي.

و على هذا فتسمية التسليم الخارجي من كل من الطرفين وفاء مع كون الوفاء عبارة عن الجري على طبق مقتضى العقد يكون على القاعدة، و إلّا فمجرّد كون حكم العقد إيجاب التسليم مع كونه صرف الالتزام بالملكيّة من باب وجوب تسليم مال الغير إليه لا يستحقّ اسم الوفاء، مع أنّه يكفي في الجري على طبق الإنشاء المتكفّل لتبادل الملكين إمساك كلّ منهما المال بعنوان الغصب من صاحبه، فصيرورة خصوص التسليم وفاء لا يستقيم إلّا على ما عرفت من وجود

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 231

الالتزامين العرضيّين في حقيقة البيع إمّا على وجه التركيب و إمّا على وجه البساطة و الاندماج.

لكن نتيجة هذا البيان هو اشتراط العلم بالقدرة لا واقعها، إذ يكفي

في تمشّي القصد العلم بها و لو كان جهلا مركّبا، و لا يخفى أنّ هذا البيان لا يدفع الإشكال الذي تقدّم على الاستدلال برواية نفي الغرر، فإنّ ظاهر الرواية نفي الغرر اللازم بعد انعقاد أصل البيع و تحقّق موضوعه العرفي الإنشائي، و على ما ذكرنا يخرج العقد المقرون بالقطع المزبور عن كونه بيعا.

فإن قلت: يدفع الدعوى المزبورة باب البيع الفضولي حيث إنّه بيع و لم يستشكل أحد بأنّه لا يتمشى منه البيع مع أنّه غير قادر على التسليم، و كذلك بيع العبد ممّن ينعتق عليه، و كذلك بيع الآبق مع الضميمة.

قلت: أمّا الفضولي يمكن تصوير تمشّي القصد الجدّي منه إمّا بالبناء على كونه المالك و إمّا للقطع بأنّه سيرضى المالك، نعم لازم البيان المزبور عدم تمشّيه مع الشكّ و لكن لا يضرّ [قول] ذلك القائل بصحّة الفضولي، لأنّه إنّما يقول بصحّته بعد الفراغ من جهات أخر، و أمّا بيع العبد ممّن ينعتق عليه فالمقدار المعتبر و هو رفع البائع يده عن سلطنته ممكن و الالتزام به حاصل، غاية الأمر لا يصل إلى يد المشتري و ليس عليه عهدة ذلك، و أمّا بيع الآبق مع الضميمة فنلتزم بأنّه حكم تعبّدي خرج بالنص.

[البحث الثاني هل القدرة شرط أو العجز مانع و بيان الثمرة في ذلك]

ثمّ أنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- استظهر من معاقد الإجماعات كون القدرة شرطا، و أورد على من استظهر أنّ العجز مانع قائلًا بأنّ الثمرة تظهر في موضع الشكّ بأنّ

العجز أمر عدميّ، لأنّه عدم القدرة عمّن من شأنه صنفا أو نوعا أو جنسا أن يقدر فكيف يكون مانعا مع أنّ المانع هو الأمر الوجودي الذي

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 232

يلزم من وجوده العدم.

ثمّ لو سلّم صحّة إطلاق المانع عليه لا ثمرة فيه لا

في صورة الشكّ الموضوعي أو الحكمي و لا في غيرهما، فإنّا إذا شككنا في تحقّق القدرة و العجز مع سبق القدرة فالأصل بقائها أو لا معه فالأصل عدمها، أعني: العجز سواء جعل القدرة شرطا أو العجز مانعا، و إذا شككنا في أنّ الخارج عن عمومات الصحّة هو العجز المستمرّ أو العجز في الجملة أو شككنا في أنّ المراد بالعجز ما يعمّ التعسّر كما حكي أو خصوص التعذّر، فاللازم التمسك بعمومات الصحّة من غير فرق بين تسمية القدرة شرطا أو العجز مانعا، و الحاصل أنّ التردّد بين شرطيّة الشي ء و مانعيّة مقابله إنّما يصحّ و يثمر في القيدين مثل الفسق و العدالة لا في ما نحن فيه و شبهه كالعلم و الجهل، انتهى.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام علاه-: قد عرفت أنّ في المسألة مبنيين، الأوّل: مختار شيخنا المرتضى من التمسّك بنفي الغرر، و الثاني مختارنا من التمسّك بأخذ الالتزام بالتسليم في حاقّ معنى البيع، و على كليهما البحث المذكور ساقط، فإنّه مناسب لأن يكون المعيار و المناط هو الواقع من القدرة أو العجز و هو ممّا لا يساعده شي ء من المبنيين، و أمّا على ما هو الحقّ من عدم العبرة بالواقع و أنّ المناط هو العلم و الوثوق فيسقط البحث المذكور من أصله.

أمّا على المبنى الأخير، فلأنّه بعد أخذ الالتزام المذكور في البيع لا يتمشّى قصد البيع جدّا في صورة الشكّ في القدرة كما في صورة العلم بعدمها، و هذا بخلاف الحال في العمل الإنشائي مثل التمليك حيث إنّه مع القطع بأنّ النتيجة و الأثر يتوقّف على تحقّق أمر آخر كالقبول أو القبض يصحّ للموجب بنظره الإنشائي جعل الإيجاب و التمليك جدّا إذا كان حصول ذلك

الأمر مرجوّا بعد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 233

ذلك، و أمّا العمل الخارجي فلا يتمشّى الالتزام الجزميّ الجدي من الفاعل مع الشكّ في القدرة. نعم يتمشّى التقديري التعليقي، و لا ينفع الاستصحاب في رفع هذه الغائلة و تمشّي القصد البيعي كما هو واضح.

و أمّا على المبنى الأوّل فالمدار على تحقّق الغرر و هو عدم الوثوق و الشكّ، فمن الواضح أيضا بقاء صفة الترديد و التزلزل النفساني الوجداني و عدم ارتفاعه باستصحاب القدرة.

فإن قلت: نعم و لكن أيّ فرق بين المقام- حيث إنّه حكم الشارع على موضوع الشكّ و عدم الوثوق بالفساد- و بين أدلّة الأصول حيث حكم على موضوع الشكّ في الحليّة بالحليّة فكما قلتم فيها بتقدّم الاستصحاب لأجل الحكومة بناء على أخذ الشكّ بمعنى الصفة و لأجل الورود بناء على أخذه بمعنى عدم الطريق فلا نقول بمثله هنا؟

و بتقريب آخر قد قرّر في مبحث القطع قيام الأمارات و بعض الأصول الذي هو الاستصحاب مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقيّة، و عدمه مقام المأخوذ على وجه الصفتية، فالقطع و الوثوق بالقدرة في المقام إن أخذ على وجه الطريقيّة فلا مانع من قيام الاستصحاب مقامه.

قلت: قد قرّر في هذا الباب أيضا أنّه مشروط بعدم كون القطع تمام الموضوع، فإنّه حينئذ ليس للواقع أثر حتّى يجري فيه الاستصحاب و يكون حاكما على تقدير أخذ الشكّ صفة و واردا على تقدير أخذها بمعنى اللاطريق، و المقام على حسب ما تقدّم من المبنيين من هذا القبيل.

نعم إن قلنا باعتبار كلا الأمرين معا، أعني: القدرة الواقعيّة للإجماعات و العلم بها لحديث نفي الغرر صحّ حينئذ التمسّك بالاستصحاب و دخل في ذلك

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 234

الباب، هذا فالبحث المذكور يجي ء على تقدير كون العبرة بالواقع فقط أو به و بالعلم على وجه الطريقيّة و الأخير صريح شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في ما يأتي، فلا يتوجّه عليه إيراد على مبناه.

[البحث الثالث هل العبرة على زمان استحقاق التسليم أم لا؟ و بيان فروعه]

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- جعل العبرة على زمان استحقاق التسليم، فلا ينفع وجودها حال العقد مع العلم بعدمها حال الاستحقاق، و لا يقدح عدمها حال العقد مع وجودها حال الاستحقاق و فرّع على ذلك فروعا:

منها: سقوط اعتبار هذا الشرط في ما إذا كانت العين في يد المشتري.

و منها: سقوطه في ما لا يستحقّ المشتري التسليم رأسا كما إذا اشترى من ينعتق عليه.

و منها: سقوطه في ما إذا لم يستحقّ التسليم بمجرّد العقد إمّا لاشتراط تأخيره مدّة، و إمّا لتزلزل العقد و مراعاته كما إذا اشترى فضولا، فإنّه لا يستحقّ التسليم إلّا بعد الإجازة، فلا يعتبر القدرة قبل زمان الاستحقاق.

ثمّ استشكل بناء على الكشف من حيث إنّه لازم من طرف الأصيل فيتحقّق الغرر بالنسبة إليه إذا انتقل إليه ما لم يقدر على تحصيله، نعم هو حسن في الفضولي من الطرفين، ثمّ عطف على بيع الفضولي بيع الرهن قبل إجازة المرتهن أو فكّه، و كذا بيع السلم و الصرف فلا يضرّ عدم القدرة حال العقد، لأنّ القبض في المجلس شرط تأثيرهما و التعذّر إنّما يكون مانعا في بيع يكون التسليم من أحكامه لا من شروط تأثيره.

و السرّ أنّ التسليم فيه جزء الناقل فلا يلزم غرر من تعلّقه بغير المقدور، و الحاصل الاعتبار بالقدرة على التسليم حال تمام النقل، و لهذا لا يقدح كونه عاجزا قبل القبول إذا علم بتجدّد القدرة بعده، و المفروض أنّ المبيع بعد تحقّق الجزء الأخير من الناقل و هو

القبض حاصل في يد المشتري.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 235

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته-: أمّا الفرع الأوّل فلا إشكال فيه بناء على مبني التمسّك بالغرر إذ لا غرر للمشتري بالنسبة إلى شراء العين التي في يده، و لو كان البائع عاجزا من التسليم، و أمّا الثاني و الثالث فما الفرق بينهما و بين ما ذكروه في الغرر في الأوصاف من أنّه لو باع عبدا من عبدين كان باطلا، و كذا في كلّ مورد لم يكن خطر للمشتري في شراء المبيع مع كونه مجهولا فجعلوا المعيار على كون المعاملة خطريّة بحسب نوعها و لو لم يكن كذلك بحسب المورد الشخصي، فنقول في الفرعين أيضا و إن كان لا خطر على المشتري فيهما إلّا أنّه من باب خصوصيّة المورد و إلّا فنوع المعاملة المجهول فيها التسليم خطريّ، و بالجملة مقتضى اكتفائهم في الحكم بالفساد بمطلق الجهالة في الأوصاف و إن انفكت عن الخطر بحسب الشخص اكتفائهم هنا أيضا بذلك و مقتضاه الفساد في الفرعين، هذا.

و أمّا الرابع فاللازم على ما ذكره- قدّس سرّه- جواز الجهل بالأوصاف و الكمّ في حال عقد الفضولي و كفاية المعلوميّة حال الإجازة، و من المستبعد التزام ذلك، و الظاهر بناءه- قدّس سرّه- ذلك على جعل البيع المسبّبي متعلّقا للنهي كما يظهر منه ذلك في الفرع اللاحق.

و ربّما يستشكل بأنّه فرق بين وقوع البيع موضوعا لمثل أحلّ و موضوعا للنهي، ففي الأوّل يحمل على السبب، و أمّا في الثاني فالظاهر إرادة العمل البيعي و هو البيع الإنشائي و في مسألة الفضولي و إن كان المسبّب مرتّبا على مجموع الإيجاب و القبول و الإجازة و لكن لا يسمّى بالبيع إلّا الأوّلان، فالمجيز

يجعل فعل المتعاقدين معنونا بالبيعيّة لا أنّ عمله إيجاد البيع، و بالجملة فالملحوظ انتفاء الغرر في حال الإيجاب و القبول.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 236

و لكن هذا مخدوش من وجهين: الأوّل: أنّه لا داعي إلى صرف لفظ البيع عمّا هو ظاهره من المسبّب إلى السبب بعد ما تقرّر من قابليّة المسبّب للنهي، و المسبّب لا شبهة في تحقّقه حتّى بنظر العرف بعد الإجازة، و الثاني: سلّمنا حمله بقرينة النهي على العمل البيعي لكنّ اتّصاف الإيجاب و القبول بعنوان البيع لا شبهة في كونه متأخّرا عن الإجازة، فعلى كلا التقديرين اللازم ملحوظيّة الغرر في حال حصول الانتقال، هذا.

و أمّا ما ذكره- قدّس سرّه- من الإشكال بناء على الكشف فغاية ما يتصوّر فيه أنّه تارة يقال به من باب جعل الشرط هو التعقّب أو الوجود اللحاظي، و أخرى من غير هذا الباب، فعلى الأوّل أمر العقد بحسب الواقع دائر بين أمرين لا ثالث لهما لحوق الإجازة و عدم لحوقه، فعلى الثاني لا بيع أصلا حتّى عرفا، و على الأوّل البيع متحقّق من حين العقد و لكنّه متّصف بالغرريّة فيكون باطلا، فحاصل الإشكال على هذا أنّه مردّد بين اللابيع و البيع الفاسد، لكنّ الظاهر عدم إرادته- قدّس سرّه- هذا المبنى.

و أمّا على الثاني فالملكيّة غير حاصلة سواء على تقدير لحوق الإجازة أم على غيره، و لكن خطاب أوف قد يوجّه إلى الأصيل و صار من أثره ممنوعيّته من التصرّفات في الثمن فيكون حاصل الفرق بين النقل و الكشف أنّ العقد على الأوّل لو لم يؤثّر هذا الأثر الناقص أيضا في حقّ الأصيل فلم يتحقّق في حقّه غرر، و أمّا على الثاني فقد أوجب ثبوت ذاك الأثر تحقّق

الغرر في حقّه لأنّه ممنوع عن التصرّف في ماله و لا يعلم وصوله إلى عوضه لعدم علمه بإجازة المالك و زمانها على تقدير اللحوق، و لكن هذا مبنيّ على أنّ كلّ عقد و قرار أوجب الغرر كان منهيّا و لم يكن خاصّا بالبيع كما يظهر من بعض الكلمات حيث يجرونه في الصلح الغير المبنيّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 237

على التسامح.

ثمّ إنّه لم يعلم وجه لما ذكره من أنّه على الكشف يسلم الفضولي من الطرفين عن هذا الإشكال، فإنّ أمره أيضا دائر بين عدم لحوق الإجازة أصلا فيكون فاسدا من الأصل و بين أن يلحق كليهما الإجازة، و حينئذ فالغالب عدم اقترانهما في الزمان و وقوع إحداهما أسبق من الأخرى، و حينئذ يجري فيه إشكال صورة أصيلية أحد الطرفين، نعم يبقى فرض نادر و هو أن يكون الإجازتان حاصلتين في آن واحد.

و أمّا ما ذكره- قدّس سرّه- من التفرقة بين ما إذا كان التسليم من أحكام العقد، فالقدرة عليه شرط و بين ما إذا كان من شروط تأثيره كما في الصرف و السلم فليست بشرط فهو مبنيّ- كما نبّه هو قدّس سرّه عليه- على أن يكون البيع المنهيّ عن الغرر فيه هو البيع المسبّبي الشرعي، أعني: تعلّق النهي بمصاديق المبادلة الواقعيّة التي كان تشخيصها من وظيفة الشرع دون ما عيّنها العرف و هو خلاف التحقيق المحقّق في محلّه و إن ذهب المحقّق الخراساني- قدّس سرّه- إلى خلافه و حاصل المطلب أنّ الأحكام المعلّقة على المفاهيم هل يتعلّق بها باعتبار التطبيقات العرفيّة أم باعتبار التطبيقات الدقّية؟ و الحقّ هو الأوّل، فكما أنّ المتّبع في الاختلاف المفهومي الواقع بين العقل و العرف هو العرف كذلك في

الاختلاف التطبيقي بعد الاتفاق في المفهوم بلا فرق.

و من هذا القبيل ما نحن فيه، فإنّه لا اختلاف بين العرف و الشرع في مفهوم المبادلة، و إنّما الاختلاف في التطبيق، فالعرف يطبّقه في الصرف و السلم قبل القبض و الشرع لا يطبّق إلّا بعده، فإذا ورد في لسان الشرع المنع عن المبايعة الغرريّة فالمتّبع في تعيين موضوع هذا المنع هو ما عيّن العرف من مصاديق المبايعة، و قد عرفت أنّه يعيّنها في الموردين قبل القبض.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 238

فإن قلت: بعد فرض الاتّفاق في المفهوم الحال لا يخلو من أمرين، إمّا أن نقول بالتقييد بمعنى أنّه أراد من لفظ البيع معناه و قيّده بالعرفيّة، و إمّا أن نقول بإطلاق اللفظ و إرادة معناه بدون تصرّف فيه، و لا إشكال أنّ الأوّل خلاف الظاهر؛ إذ الألفاظ موضوعة للمعاني النفس الأمريّة و الأنظار طريق إلى تعيينها لا أنّها مأخوذة في معانيها، فتعيّن الثاني، و من المعلوم أنّ لازم ذلك سراية الحكم إلى ما للمفهوم من المصاديق الواقعيّة النفس الأمريّة دون ما يراها العرف مصداقا له خطأ، و على هذا فالنواهي الواردة في البيوع الفاسدة ليست على حقيقتها؛ إذ كونها على وجه الحقيقة فرع تحقّق المصداق للمبادلة النفس الأمريّة في تلك الموارد، و المفروض عدمها، فمعنى لا تبيعوا: لا تريدوا إيقاع المبادلة، لأنّها لا تقع في هذه الموارد.

قلت: لو فرض كون الناهي واحدا من الموالي العرفيّة بالنسبة إلى عبيده فهل يشكّ أنّ النهي يتعلّق بالمبادلة بلحاظ المصاديق العرفيّة مع ما هي عليه من الخطاء في التطبيق في كثير من الموارد؟ مع أنّ هذا المولى لم يتصرّف في لفظ البيع و لم يخرجه عن حقيقته و لا تصرّف

في النهي بجعله بمعنى طلب ترك إرادة الإيقاع، فكما تصوّرنا ذلك في أهل العرف الغير الملتفتين إلى الواقع فنقول في حقّ الشارع أنّ الفرق بينه و بين ذلك المولى العرفي أنّه ملتفت إلى حقيقة الحال، فلا يتمشّى في حقّه التطبيق الخطائي كما تمشّي في حقّ ذلك المولى.

و لكن إذا تكلّم الشارع مع أهل العرف مع ما يراهم عليه من التطبيق الخطائي بحيث لا يرى من يسلم عن هذا الخطاء إلّا الأوحديّ المتوغّل في العلميات و الناشئ في الدقيّات فلا محالة لا بدّ من صرفه النظر عن اطّلاع نفسه بحقيقة الحال و تنزّل نفسه عن تلك المرتبة و يتكلّم على قدر عقول المخاطبين،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 239

لأنّه لا طريق إلى تحصيل المراد بغير هذا الوجه.

و إن شئت مثالا لتوضيح الحال فافرض أنّ لك عبدا أحول العين يرى الشي ء الواحد اثنين فهل ترى بدّا عند إرادتك منه إتيان ذلك الشي ء الواحد إلّا أن تقول مثل قوله: ائتيني هذين الاثنين؟ و أنت في هذا الحال لم تستعمل لفظ الاثنين في غير حقيقته بل استعملته في عين معناه كعين استعمال ذلك الأحوال، إنّما نزلت نظرك في مقام التطبيق.

و ما أشبه المقام من هذه الجهة بالحقيقة الادّعائيّة السكاكيّة حيث إنّ التصرّف هناك أيضا ليس في اللفظ و إنّما هو في الأمر العقلي، ثمّ حيث إنّ هذا النظر اختياريّ و قد اجتمع مع ذلك النظر الصحيح الغير المخطئ عن الواقع فالردع و النهي و الحكم بالفساد و أمثال ذلك يكون مبنيّا على ذلك النظر الصحيح، و إلّا فقضيّة استمرار النظر الأوّل هو ترتيب الآثار و عدم الردع و المنع.

و بالجملة بناء على صحّة اجتماع النظرين في الشارع كما هو

الحقّ يرتفع الإشكال من رأسه، و قد حقّق في الأصول أيضا ذلك في وجوه الجمع بين الحكمين الواقعي و الظاهري و رفع التهافت بينهما، هذا.

و ربّما يقال في مسألتنا كما نبّه عليه أيضا- قدّس سرّه- مع التأمّل فيه بأنّه فرق بين ما إذا رتّب الشارع حكم الحليّة و الصحّة على البيع، فالملحوظ هو المصاديق العرفيّة كما ذكرت، و أمّا إذا رتّب عليه مع خصوصيّة فلانيّة مثل الغرر حكم الفساد- فحيث إنّ المفروض أنّه نبّه العرف على المصاديق الواقعيّة و عرّفهم خطأهم في الصرف و السلم فاللازم حينئذ تعلّق النهي بملاحظة ما للمفهوم من المصاديق المنبّه عليها و هو ما بعد القبض في الموردين، و إن شئت فقل يكون لبيان الشرع في باب السلم و الصرف و أنّه لا مصداق للبيع إلّا بعد القبض شبه حكومة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 240

على ما دلّ على المنع عن بيع الغرر.

و لكن هذا الكلام مبنيّ على ملاحظة الدليل الوارد باشتراط القبض في البيعين سابقا على دليل المنع عن الغرر، و قد حقّق في الأصول أنّه لا وجه لذلك و أنّه لا بدّ من ملاحظة الدليلين في عرض واحد ثمّ ملاحظة النسبة بينهما، و إلّا فلقائل أن يعكس الأمر و يجعل دليل المنع سابقا على دليل الاشتراط، هذا.

[البحث الرابع جعل القدرة على التسليم شرط بالتبع و بيان أن المقصود الأصلي هو التسلم]

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- جعل القدرة على التسليم شرطا بالتبع و إنّما المقصود الأصلي هو التسلّم، و من هنا يكفي قدرة المشتري في الصحّة، بل الوثوق بالحصول في يد المشتري كاف و لو لم يستند إلّا إلى قدرة الأجنبي أو سبب آخر كعود الطائر بواسطة الاعتياد و نحو ذلك.

قال شيخنا الأستاذ- دام علاه-: لو فرض قدرة البائع و عدم الوثوق

بالتسليم بواسطة امتناعه فاللازم من كون الاشتراط تبعيّا هو الحكم بالبطلان، فإنّ الخطر حاصل و إن اكتفي بصرف وجود القدرة نظرا إلى الإجماعات، فهذا معنى أصاليّته في الاشتراط فلا دليل على التعدّي إلى ما ذكره من الفروع، اللّهم إلّا أن يدّعى أنّ الشرط أحد الأمرين إمّا قدرة البائع و إمّا الوثوق بالحصول و لا دليل عليه أيضا.

[البحث الخامس في بيان معاني الغرر في النبوي المشهور]

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- حمل الغرر في النبوي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على معنى الخطر و هو الموجود في كلمات كثير من أهل اللغة، و لكن يفسّرون هذه المادة في غير هذه الهيئة بمعنى الغفلة و الخديعة كما هو المعنى في قول الفقهاء: المغرور يرجع إلى من غرّ، و يقولون: التغرير بالنفس المخاطرة بها و تعريضها للهلكة، و الاسم الغرر و هو الخطر، و حمل- قدّس سرّه- ما في نهاية ابن الأثير من تفسيره بأنّه ما كان له ظاهر يغرّ المشتري و باطن مجهول على تفسير الخطر، فقال- قدّس

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 241

سرّه-: ليس في المحكيّ عن النهاية منافاة لهذا التفسير كما يظهر بالتأمّل.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: إنّ من البعيد أن يكون لمادّة الغرر في هذه الهيئة معنى مغايرا لمعناها في سائر الهيئات، فإذا رأينا أنّ معنى المادة في غيرها هو الغفلة و الإغفال فمن القريب أن يكون التعبير بالخطر من باب أنّه غالبا مسبّب عن الغفلة، فقد عبّروا بالمسبّب و أرادوا خصوصيّة السبب و دخالتها في المعنى أيضا و أهملوا ذكره للوضوح و إن كان يمكن فرض الانفكاك بأن يحصل الخطر و لا يكون ناشئا عن الغرور و الغفلة كما هو الحال في الإقدام على القمار،

فإنّ المقدم مطّلع على الحال و مع ذلك يقدم برجاء التفوّق و ليس دخوله في هذا الأمر الخطري مسبّبا عن إغفال أحد أو غفلة نفسه و لكنّ الغالب في موارد الوقوع في الأعمال الخطريّة نشوؤها عن الغفلة و عدم اطّلاع الحال.

و الحاصل: أنّ معنى الخطر هو تردّد الواقعة و معرضيّتها لعدم الوصول إلى المهم و عدم طريق على الوصول، فقد يكون السبب للإقدام هو الرجاء للوصول و قد يكون هو الإغفال و إراءة الوصول، و الغالب هو الثاني.

فإن كان نظر من فسّره بالخطر إلى خصوص القسم الثاني و لم يتعرّض للخصوصيّة للغلبة ناسب مع معنى هذه المادّة في سائر هيئاتها و يكون تفسير النهاية باقيا على ظاهره من دخالة وصف الغرور في حقيقة المعنى.

و إن كان نظره إلى مطلق الخطر و لو كان مسبّبا عن رجاء الواقع كما هو المتراءى من تمثيلهم له ببيع السمك في الماء و الطير في الهواء، فلا محالة تغاير مع معناها في سائر الهيئات و يكون وجه الجمع بينه و بين تفسير النهاية أنّه كان غرضه مجرّد ذكر السبب الغالبي من دون تعلّق غرضه بجعله دخيلا في المعنى، و حينئذ فلا وجه للجزم بشي ء من الطرفين بل كما عرفت لعلّ الوجه الأوّل بملاحظة سائر

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 242

الهيئات أولى و أقرب بالجزم، فلم يعلم وجه جزمه- قدّس سرّه- بالوجه الثاني.

ثمّ سلّمنا حمل الغرر على مطلق الخطر لكن لا ينطبق على جميع موارد التطبيقات؛ فإنّ من مواردها شراء العبد المجهول كتابته لأجل حاجة خاصّة غير مرتبطة بالكتابة مثل الطبخ و غيره، فإنّ المشتري ليس في خطر من جهة هذا الجهل، أو شرائه لأجل العتق، فإنّ الجهل بشي ء من

الصفات لا يجعله في الخطر، فإنّه نائل بغرضه على كلّ حال.

و أمّا حمل الخطر على النوعي فلا وجه له بعد كون الظاهر هو الشخصي كما هو المسلّم في قاعدة نفي الضرر، و بالجملة حمل الغرر في النبوي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على مطلق الخطر أوّلا ثمّ النوعي منه ثانيا لم نعلم له وجه.

نعم لو فرض الاطمئنان من تطبيقات العلماء- رضوان اللّه عليهم- بأنّهم إنّما أخذوا ذلك من الشرع فكان إجماعا منهم على إرادة هذا المعنى من هذا اللفظ كان هو أيضا حسنا، و لكن أنّى لنا بهذا الاطمئنان لقوّة احتمال استناد هذه التطبيقات إلى تفسير أهل اللغة إيّاه بالخطر و فهمهم منه مطلق الخطر و استظهارهم منه في الحديث كونه نوعيا، و حينئذ فلا يبقى لنا إلّا التشبّث بذيل الإجماعات في خصوص كلّ مورد مورد و لا يضرّ استدلال المجمعين أو بعضهم بالحديث، فإنّ من المعلوم أنّ ذلك بعد مسلميّة أصل المطلب بينهم.

[البحث السادس في بيان أن الشرط هي القدرة المعلومة للمتبايعين]

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- قال أنّ الشرط هي القدرة المعلومة للمتبايعين؛ لأنّ الغرر لا يندفع بمجرّد القدرة الواقعيّة، و لو باع ما يعتقد التمكّن فتبيّن عجزه في زمان البيع و تجدّدها بعد ذلك صحّ، و لو لم يتجدّد بطل. انتهى.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: كلامه- قدّس سرّه- مبنيّ على أنّ المعتبر ذو جزئين، أحدهما: العلم لرفع الغرر و يكفي فيه الجهل المركّب،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 243

لارتفاعه بسببه أيضا، و ثانيهما: القدرة في بعض أزمنة الاستحقاق، و لو انفكّ هذان الجزءان أحدهما عن الآخر كما في المثال الذي فرضه- حيث إنّ ما تعلّق به العلم غير واقع و ما هو واقع لم يتعلّق به العلم- كفى

في الصحّة.

و على هذا يرد عليه- قدّس سرّه- أنّ هذا الكلام مناقض مع ما تقدّم منه من التصريح

بأنّه لو لم يقدر أحدهما على التحصيل لكن يوثق بحصوله في يد أحدهما عند استحقاق المشتري للتسليم كما لو اعتاد الطائر العود صحّ. انتهى

؛ فإنّه قد نفى صريحا اعتبار قدرتهما رأسا بحيث لو عجزا إلى الأبد صحّ بمجرّد الوثوق المذكور.

و القول بأنّه- قدّس سرّه- جعل اشتراط القدرة توصليّا تبعيّا فلعلّه يجعل الجزء الواقعي نفس الوصول. يدفعه أنّه يلزم حينئذ في ما لو كانا قادرين و عالمين و لكن اتّفق عدم وصول المال إلى المشتري أن يكون البيع باطلا لعدم حصول ما هو الشرط الحقيقي و هو الوصول، و لا يلتزم به أحد، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الشرط مجرّد عدم المانع عن الوصول لا الوصول الفعلي.

[البحث السابع في بيان أن العبرة بقدرة الموكل أو الوكيل]

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- قال

لا إشكال في اعتبار قدرة العاقد إذا كان مالكا لا ما إذا كان وكيلا في مجرّد العقد، فإنّه لا عبرة بقدرته كما لا عبرة بعلمه، و أمّا لو كان وكيلا في البيع و لوازمه بحيث يعدّ الموكّل أجنبيا عن هذه المعاملة فلا إشكال في كفاية قدرته، و هل يكفي قدرة الموكّل؟ الظاهر نعم مع علم المشتري بذلك إذا علم بعجز العاقد، فإن اعتقد قدرته لم يشترط علمه بذلك. انتهى.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته-: هذا أيضا يدل على ما قلنا أنّه مبني كلامه المتقدّم- من أنّه علاوة على العلم يعتبر أمر واقعي- فإنّ الجزء العلمي المعتبر لرفع الغرر قد صرّح هو- قدّس سرّه- بعدم اشتراط تعلّقه بالقدرة، بل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 244

يكفي اطمئنان الحصول من أيّ طريق كان.

و حينئذ فالقدرة التي هي شرط

واقعي تعبّدي إن علمنا أنّه خصوص قدرة المالك أو خصوص قدرة الأعمّ منه و من الوكيل المطلق فلازمه عدم كفاية قدرة الوكيل في إجراء الصيغة، و إن احتمل كون قدرته أيضا كافية فالمرجع عمومات الصحّة، و ما ذكره- قدّس سرّه- من أنّه يشترط علم المشتري إذا علم بعجز العاقد فإن اعتقد قدرته لم يشترط مبنيّ على ما تقدّم من عدم اشتراط تعلّق العلم بالجزء الواقعي، بل يكفي وجودهما منفكّين، هذا.

و لكن لم نفهم ما وجه هذا الاشتراط، فإن قيل لعلّه استند في اشتراط واقع القدرة بالإجماعات، و في اشتراط العلم بالغرر، ففيه: أنّه ينافي ذلك استناده في اشتراط أصل القدرة بحديث نفي الغرر، و قد تقدّم الاستشكال في دلالة الحديث على اشتراط العلم فضلا عن القدرة الواقعيّة، و لم يبق ما يصحّ الاعتماد عليه في هذا الباب بالنسبة إلى اشتراط العلم وحده و لو كان جهلا مركّبا و لم يلحقه القدرة رأسا إلّا ما أشرنا إليه سابقا من التشبّث بمأخوذيّة الالتزام بالتسليم الخارجي في حقيقة البيع لا كونه شرطا خارجا.

و يدلّ عليه أنّ المرتكز في أذهان العرف عند تمام المعاملة عدم كون مطالبة المشتري للمبيع أو البائع للثمن من باب مطالبة ذي الحقّ حقّه حتّى يكون ذلك من أحكام البيع كالمطالبة من الغاصب بل يعدّونه إلزاما بما التزم و مطالبة للعمل بالقرار البيعي.

[مسألة في حكم بيع العبد الآبق منفردا و مع الضميمة]

اشارة

مسألة لا يجوز بيع الآبق منفردا على المشهور بين علمائنا

و ينبغي التكلّم في مقامين:

[المقام الأول في مقتضى القواعد]

الأوّل: في مقتضى القواعد، و الثاني: في مقتضى النصّ الخاصّ، أمّا الأوّل:

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاضاته الشريفة-: مقتضى القاعدة بناء على ما

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 245

تقدّم منهم من التمسّك بنفي الغرر و حمله على الخطر أن يقال هنا بالتفصيل بين ما إذا كان غرض المشتري من الشراء عتق العبد كما لو اشتغلت ذمّته بالكفّارة فيصحّ مطلقا سواء مع اليأس أم مع الرجاء، إذ لا تلف مع الأوّل بعد إمكان نيل الغرض منه مع حالة الإباق و لا ضرر و خطر مع الثاني، إذ الخطر عبارة عن المعرضيّة للوقوع في خلاف الغرض و هذا مأمون هنا، و بين ما إذا كان الغرض الانتفاعات الأخر من العبد المتوقّفة على الحصول في اليد فيبطل مطلقا سواء مع اليأس أم مع الرجاء، أمّا مع اليأس فلأنّه سفهيّ و أكل الثمن في مقابله أكل بالباطل، و أمّا مع الرجاء فللغرر المنفي لعدم الاطمئنان بعدم الوقوع في مخالفة الغرض.

و الحاصل أنّ الغرر بعد ما عرفت تسليم كونه بمعنى الخطر لا الغرور و الخديعة فلا وجه لحمله إلّا على الخطر الشخصي، كما في لا ضرر، و حينئذ فلا محيص عمّا ذكرنا، نعم لو ثبت إجماع منهم على أنّ المراد بهذه اللفظة في لسان الشرع هو النوعي فلا بدّ من الحكم بالفساد في كلتا الصورتين، و من هنا يعرف الحال في ما هو قضيّة القاعدة في العبد الضال و المحجور و المغصوب و كذا الجارية و أنّه التفصيل بناء على الخطر الشخصي و البطلان مطلقا بناء على النوعي، فلم يعلم وجه لما في بعض الكلمات

من الفرق بينها و بين الآبق.

فإن قلت: يمكن التفصيل في صورة الرجاء بين تعهّد البائع و ضمانه لإيصال العبد و عدمه بالصحّة في الأوّل و البطلان في الثاني، و هذا نظير ما ذكروه في الأوصاف من أنّ ذكرها في العقد الذي هو بمنزلة الاشتراط يكفي في الصحّة و لو لم يحصل الاطمئنان، فهذا يدلّ على أنّ المعتبر أحد الأمرين إمّا الوثوق بالوجود و إمّا التعهّد به، و كذلك في المقام أيضا المعتبر أحد الأمرين إمّا الوثوق بالحصول أو التعهّد بالإيصال.

قلت: المفروض هو التكلّم على القواعد و لم يعلم مسلميّة ما ذكرت في باب

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 246

الأوصاف عندهم، و على هذا فمع الجهل بالقدرة الغرر موجود و لا يرتفع موضوعه بالتعهّد كما هو واضح، هذا.

و لكن شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بعد ما تمسّك للحكم بالبطلان بحديث الغرر استشكل فيه بمنع الغرر بقاعدة ضمان المبيع قبل القبض على البائع بعد فرض كون اليأس هنا كالتلف، و المفروض عدم تسلّط البائع على مطالبة الثمن لعدم تسليم المثمن.

و أجاب بأنّ الضمان حكم شرعيّ لا ينافي صدق الغرر عرفا، و ناقش في هذا الجواب بمنع إطلاق الغرر على مثل هذا بعد اطّلاعهم على الحكم الشرعي.

و استشكل عليه شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته- أوّلا: بمطالبة الفرق بين المقام و بيع الفضولي على الكشف حيث سلم هناك صدق الغرر في جانب الأصيل و حكم بعدم صدقه في المقام لو كان الضمان حكما عرفيّا مع أنّ الأمر في كليهما دائر بين أمرين لا يلزم على كلّ منهما خطر.

أمّا في المقام فبين التسليم الذي هو المطلوب و بين عدمه المأمون عن تضرّر الثمن بواسطة الضمان، و أمّا هناك فبين الإجازة

التي هي المطلوب و بين عدمها الموجب لبقاء الثمن على ملك المشتري.

و لكنّه- قدّس سرّه- اكتفى هناك في صدق الغرر بمجرّد الممنوعيّة عن التصرّفات في الثمن مع عدم العلم بوصول المثمن، و عين هذا موجود في المقام أيضا إلّا أن يكون الثمن كلّيا، و كلامه- قدّس سرّه- مطلق شامل لما إذا كان عينا شخصيّة.

و ثانيا: بأنّ كلامه- قدّس سرّه- مبنيّ على كون الخطر في البيع عبارة عن خوف فوت الثمن على تقدير عدم وصول المثمن و هو ممنوع، بل هو عبارة عن خوف عدم وصول المثمن و لو كان مطمئنّا من الثمن، و ذلك لأنّ خطر كلّ شي ء

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 247

عبارة عن خوف عدم ترتّب الأثر المترقّب منه عليه، نعم يعتبر أن يكون الغرض الشخصي أيضا قائماً بذلك الأثر و لا شبهة أنّ الأثر المقصود من البيع وصول المثمن لا حفظ مقدار ماليّة الثمن، لأنّه كان حاصلا قبل البيع، فالمعتبر في صدق الغرر في البيع أمران، خوف عدم وصول المثمن و قيام الغرض الشخصي بالوصول، إلّا أن يكتفى بالغرر النوعي فيكفي الأمر الأوّل، و على كلّ حال لا ينفع المأمونيّة من ماليّة الثمن في عدم صدق الغرر بعد عدم المأمونية من المثمن مع قيام الغرض بوصوله أو مطلقا على الوجهين.

و من هنا يعلم أنّ شرط الضمان أيضا لا ينفع سواء أريد به ضمان نفس العبد أو قيمته أو مثله، أمّا الأوّل فلأنّه مع عدم الوثوق بالقدرة كما هو الفرض لا يجدي الضمان شيئا، و أمّا الثاني فلأنّه يوجب الاطمئنان في طرف الثمن لا المثمن، و أمّا الثالث و المراد اشتراط ملكيّة مثله على نحو شرط النتيجة فهو تدارك للغرر و لا

يوجب ارتفاعه لوضوح حصوله بالنسبة إلى شخص المبيع.

و كيف كان فهل يلحق بالبيع الصلح عمّا يتعذّر تسليمه فيعتبر فيه القدرة على التسليم؟

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف-: وجهان بل قولان من عمومات الصلح و ما علم من التوسّع فيه كجهالة المصالح عنه إذا تعذّر أو تعسّر معرفته بل مطلقا، و اختصاص الغرر المنفي بالبيع، و من أنّ الدائر على ألسنة الأصحاب نفي الغرر من غير اختصاص بالبيع حتّى إنّهم يستدلّون به في غير المعاوضات كالوكالة.

قال شيخنا الأستاذ: لم يعلم ما المراد بالغرر في الوكالة، فإن كان الغرض تعميم متعلّق الوكالة بأن يجعله وكيلا مطلقا في عامّة أمواله يفعل فيها ما يشاء فللغرر وجه؛ لأنّ الموكّل لا يعلم أنّ ما يفعله الوكيل في ماله خير له أو شرّ، و مجرّد الإقدام لا يرفع الغرر كما في المعاملة، و كذلك التعميم و الإطلاق لا يوجب ارتفاع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 248

الجهالة في النتيجة التي هي مناط الغرر، كما أنّ التصريح في بيع العبد بالتعميم و أنّه بأيّ صفة كان متعلّق للبيع لا يخرجه عن الغرريّة، و لكن لا يلتزم أحد ببطلان هذا القسم من الوكالة فراجع.

ثمّ إنّه قد يكون الحكم في لسان الدليل معلّقا على عنوان البيع أو الشراء و نحوهما و مع ذلك نتعدّى منهما إلى كلّ نقل و انتقال و لو بسبب آخر كالصلح و الهبة، و ذلك بواسطة اقتضاء المناسبة المقاميّة الواقعة بين الحكم و الموضوع و من هذا القبيل حكمهم في مسألة تعلّق الخمس بالأرض التي اشتراها الذمّي من المسلم بإلحاق مطلق الأرض المنتقلة إليه بصلح أو هبة أو غيرهما.

و حينئذ لقائل أن يقول: ليست المناسبة بين الحكم و الموضوع في

ذلك الباب بأجلى و أوضح منها في مقامنا: أعني: النهي المتعلّق ببيع الغرر، فإنّه يمكن دعوى ظهور الكلام في أنّ مراد المتكلّم سدّ باب الخطر في عامّة الأبواب التي بناءها على المداقّة لا مثل الصلح «1» المبنيّ على المسامحة، و ذكر البيع من باب المثال كذكر لفظ الشراء في ذلك الباب و إن كان اللازم من هذا اغتفار الغرر في البيع أيضا إذا لم يكن مبنيّا على المداقّة كبيع المحاباة.

المقام الثاني: في مقتضى النص الخاص

و هو روايتان: الأولى: صحيحة رفاعة النخّاس «2» قال: سألت أبا الحسن موسى- عليه السلام-: «قلت له: أ يصلح لي أن أشتري من القوم الجارية الآبقة و أعطيهم الثمن و أطلبها أنا؟ قال: لا يصلح شراءها إلّا أن تشتري منهم معها ثوبا أو متاعا فتقول لهم: أشتري منكم جاريتكم فلانة و هذا المتاع بكذا و كذا درهما؛ فإنّ ذلك جائز» «3».

______________________________

(1)- القيد احترازي، منه- دام ظلّه.

(2)- بياع الرقيق، منه- دام ظلّه.

(3)- الوسائل: ج 12، الباب 11، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 262، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 249

و الثانية: موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- في «الرجل يشتري العبد و هو آبق عن أهله؟ قال: لا يصلح إلّا أن تشتري معه شيئا آخر و تقول: أشتري منك هذا الشي ء و عبدك بكذا و كذا، فإن لم يقدر على العبد كان الذي نقده في ما أشترى منه» «1» و هاتان الروايتان ناصّتان بالبطلان في مسألتنا مع الانفراد و بالصحّة مع الانضمام و لا كلام في ذلك، إنّما الكلام في أنّ قوله- عليه السلام- في ذيل الأخيرة: فإن لم يقدر إلخ هل يمكن استفادة القاعدة الكليّة منه حتّى يعمل بها في سائر

الموارد أو لا؟

ربّما يقال بإمكان ذلك نظرا إلى أنّ مساقه مساق التعليل فيستفاد منه أوّلا:

أنّ للقدرة الواقعيّة أيضا مدخلا في صحّة المعاملة علاوة على العلم بها الذي استفيد اعتباره من حديث نفي الغرر؛ فإنّ ظاهره أنّ وجه الحكم بالفساد و عدم الصلاح مع الانفراد هو عدم القدرة الواقعيّة.

و ثانيا: أنّ ما ذكره في صورة وجود الضميمة يقوم مقام ذلك الشرط و يجبر النقص الوارد من فقدانه، ثمّ يعلم منه بقرينة المقام أنّ الجابر لذلك أن لا يصير ما أعطى بإزاء الآبق بلا مقابل في الخارج رأسا بل يقع في يد مالكه الذي خرج منه شي ء كائنا ما كان، و على هذا فالمورد و إن كان صورة كون الآبق مثمنا لكن بعموم العلّة مع قرينة المقام يمكن التعدّي إلى صورة كونه ثمنا.

و كذا يمكن التعدّي عن العبد إلى كلّ مبيع كان معرضا لتعذّر التسلم لا ما تعذّر تسليمه قطعا، و ذلك بدلالة «إن» على كون الشرط محتملا لا مقطوعا، فيفيد الجابريّة في صورة الرجاء لا اليأس.

بل و يمكن التعدي من البيع إلى سائر المعاوضات، و بالجملة بعد استظهار

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 11، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 263، ح 2.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 250

أنّ الوجه في الحكم بالصحّة و الصلاح مع الضميمة هو وقوع ما يعطيه المشتري بقبال الضميمة و عدم صيرورته بلا مقابل خارجي لا محيص عمّا ذكرنا من إلغاء الخصوصيّات، و أمّا استفادة العليّة مع عدم ما يدلّ عليها من «اللام» و نحوها؛ فلأنّها المساق من نظائره في المحاورات، ألا ترى أنّ قولك: جالس المؤمن و لا تجالس الفاسق فإن لم ينفعك المؤمن ما ضرّك، يستفاد منه التعليل؟

نعم لو

نوقش في استظهار العليّة و احتمل كون الشرطيّة مسوقة لبيان حكم آخر و هو تقسيط الثمن على المجموع مع القدرة و على الضميمة فقط مع عدمها كان المتعيّن الاقتصار على جميع الخصوصيّات المحتمل دخلها في الحكم، لكن لا وجه للمناقشة؛ فإنّ ظهور كون الذيل إنّما جيئ به لتصحيح ما ذكر في الصدر من التفصيل بين الصورتين لا لحكم مستقلّ ممّا لا ينكر ظاهرا.

و لكن يمكن أن يدفع بأنّه و إن كان لا شبهة في ظهور الذيل في أنّه جيئ به لتصحيح الصدر لا لحكم مستقل و لكن حيث إنّه ليس مشتملا على اللام و نحوها لا يستفاد منه العليّة التامّة، و ذلك لأنّ مثل هذه القضيّة كما يذكر في مقام العلّة التامّة- كما في المثال- يذكر في مقام تتميم العلّة الناقصة أيضا، كما إذا كان المقتضي في الصدر محرزا و لكن زيد فيه خصوصيّة لأجل رفع المانع فيذكر عقيبه القضيّة الشرطية لبيان نكتة زيادة تلك الخصوصيّة، و ليس ذلك خلاف ظاهرها، مثاله قولك: اذهب إلى منزل زيد وحدك لا مع الجماعة، فإن شتمك لم يلتفت غيرك، فلا يجوز التعدّي من هذه الشرطيّة و إجراء الحكم في كلّ من تجري فيه هذه القضيّة، بل المفهوم من الكلام أنّه عند حصول مقتضى الذهاب إلى منزل زيد يكون هذا وسيلة لرفع المانع.

و على هذا فمن المحتمل أنّ تفصيل الإمام- عليه السلام- بين صورة الضميمة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 251

و غيرها كان خاصّا بالعبد الآبق لوجود مقتضى غير موجود إلّا فيه، و كان ضمّ الضميمة رافعا لمنقصة ذلك المقتضي، فلا يمكن التعدّي إلى مورد آخر، و ليس في قبال هذا ظهور في الكلام.

ثمّ إنّ في معنى العبارة

احتمالين:

الأوّل: أن تكون كلمة «إن» للترديد و الشكّ كما هو الغالب فيها، و تكون القدرة كناية عن الظفر و الحصول باليد، و يكون المراد بالجزاء أنّ النقد الذي نقده يصير بمقابل ما اشتراه، فالمعنى أنّ العقد يؤثّر في انتقال المبيع الذي هو مجموع العبد و الضميمة بإزاء الثمن و يكون الثمن مقسّطا على المجموع على ما هو قضيّة المبادلة و البيع، و لكن عند حصول اليأس و عدم الظفر على العبد يصير ما وقع من الثمن بإزاء العبد واقع من هذا الحين بإزاء الضميمة بحكم الشرع تعبّدا، فيبقى العبد على ملك المشتري مجّانا و بلا عوض.

و يترتّب على هذا أنّه لا يرجع المشتري على البائع بشي ء إن قلنا بأنّ العبد بواسطة اليأس عن الظفر يصير في حكم التالف، و جواز العتق ليس منافيا لعدّه تالفا، فتكون قاعدة التلف قبل القبض بلا موضوع هنا، إذ لا ثمن في مقابل التالف حتّى يحكم باسترداده من البائع.

الثاني: أن يكون المراد بالقدرة نفس معناها لا كناية عن الظفر، و حيث إنّها حالة وجدانيّة غير قابلة للشكّ و الترديد كانت كلمة «إن» هنا مثلها في قوله تعالى:

إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ «1» الآية، و يكون الكلام إشارة إلى القدرة المعتبرة في البيع، كأنّ قائلًا يقول: إذا جاز بيع الآبق مع الضميمة و المفروض خروجه عن حيطة اقتدار المشتري فأين اعتبار القدرة على التسليم في صحّة البيع؟ فأجاب- عليه

______________________________

(1)- يوسف: 77.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 252

السلام-: أنّه إن لم يقدر لكن نقده الذي نقده يكون مبذولا في هوى ما اشتراه و يكون هو تسلّيا لقلبه و جابرا لفقد القدرة، و هذا المعنى أنسب بكلمة «في» من المعنى الأوّل، إذ المناسب

له حرف الباء كما يشهد بذلك ملاحظة نظائره، مثل بيع أمّ الولد في ثمن رقبتها، و على هذا يبقى جميع لوازم صحّة البيع بحالها من التقسيط على الكلّ و الرجوع بما يقابل العبد عند تلفه و غير ذلك.

بقي الكلام في أنّه هل جواز العتق موجب لعدم صدق التالف مع اليأس عن الظفر أو لا؟ يمكن أن يقال بالثاني نظرا إلى أنّ العتق ليس من المنافع المنظورة الملحوظة المتقوّم بها ماليّة العين، فإنّه عبارة عن إخراج العبد عن ربقة الماليّة، فهو نظير كسر الكأس حيث لا يعدّ منفعة منظورة مصحّحة لاعتبار الماليّة و من المعتبر في المنفعة المقوّمة للماليّة ذلك، و لهذا لا يعدّ الخمر مالا مع جواز العلاج بها عند الضرورة، فالمنظور من العبد غير العتق من سائر الانتفاعات و الاستخدامات، فإذا فرض انتفاء الجميع و بقي العتق فحاله حال الكائن المنحصر فائدته في إمكان كسرها، بل لولا مسلّميّة جواز العتق في الآبق لقلنا بعدم قبوله له أيضا بملاحظة أنّ معنى العتق هو الإطلاق عن قيد الرقبة و الكون تحت الشدّة و هو في الآبق حاصل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 253

[الشرط الخامس من شرائط العوضين] [العلم بالثمن و المثمن]

[في ذكر مسائل تتعلق بهذا الشرط]

[المسألة الأولى اشتراط العلم بالثمن قدرا]

مسألة المعروف أنّه يشترط العلم بالثمن قدرا فلو باع بحكم أحدهما بطل إجماعا كما عن التذكرة،

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته-: إتمام المطلب بغير الإجماع مشكل؛ لأنّ حديث نفي الغرر الذي تمسّك به على هذا المطلب مخدوش بوجود الغرر في بعض الموارد عرفا- مع أنّ العلم بقدر الثمن موجود- و ارتفاعه في بعض آخر مع أنّه مجهول.

أمّا الأوّل: فهو كما لو عيّن قدرا و تردّدت القيمة السوقيّة عنده بين الأقلّ و الأكثر، فإنّ الحال في تحقّق الخطر بعينها هي الحال في ما لم

يعيّن القدر و باع بما في الصندوق مثلا و كان متردّدا بين الأقلّ و الأكثر.

و أمّا الثاني: فهو كما لو باع بما في الصندوق مع الاطمئنان بأنّ ما فيه إمّا مساو مع القيمة السوقيّة أو أكثر، و حينئذ فكيف يكون دليل اعتبار العلم بالقدر ما لا يدور مدار العلم لا وجودا و لا عدما؟ فإن كان على أصل المضمون إجماع كاشف عن تلقّيه من صاحب الشرع- سلام اللّه عليه- فهو و يكون الحديث أيضا مؤيّدا في بعض الموارد، و إلّا فالاستناد إلى الحديث في غاية الإشكال.

ثمّ لو فرض تماميّة دلالة الحديث لكن لا بدّ من رفع اليد عنه بالنسبة إلى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 254

خصوص مورد البيع بحكم المشتري بواسطة صحيحة رفاعة النخّاس «قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السلام-: ساومت رجلا بجارية فباعنيها بحكمي فقبضتها منه على ذلك ثمّ بعثت إليه بألف درهم فقلت: هذه ألف درهم حكمي عليك أن تقبلها، فأبى أن يقبلها منّي و قد كنت مسستها قبل أن أبعث إليه بالثمن؟ فقال- عليه السلام-: أرى أن تقوّم الجارية قيمة عادلة، فإن كان قيمتها أكثر ممّا بعثت إليه كان عليك أن تردّ عليه ما نقص من القيمة، و إن كان ثمنها أقلّ ممّا بعثت إليه فهو له، قلت:

جعلت فداك إن وجدت بها عيبا بعد ما مسستها؟ قال- عليه السلام-: ليس لك أن تردّها و لك أن تأخذ قيمة ما بين الصحّة و العيب منه» «1».

فإنّ الظاهر من إيكال البائع إلى المشتري كما هو المتعارف الآن خصوصا إذا كان عرفا مثل رفاعة حيث كان بيّاع الرقيق وثوقه بعدم تقويمه أنقص من القيمة العادلة، فيكون مورد رضاه هو القيمة العادلة فما فوقها،

فكأنّه قال: بعتك بالقيمة العادلة فما فوقها، و على هذا ينطبق جواب الإمام- عليه السلام- مع الصحّة؛ إذ الحكم حينئذ ردّ ما نقص عن القيمة العادلة لو كان ما بعث انقص منها؛ لكونها أقلّ مراتب رضاه، و عدم استرداد الزيادة لو كان ما بعث أكثر من القيمة العادلة لفرض اختياره له و صيرورته ثمنا بذلك.

فما ذكره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في منع التمسّك بهذه الرواية للصحّة

بقوله- قدّس سرّه-: لكنّ التأويل فيها متعيّن لمنافاة ظاهرها لصحّة البيع و فساده، فلا يتوهّم جواز التمسّك بها لصحّة هذا البيع إذا لو كان صحيحا لم يكن معنى لوجوب قيمة مثلها بعد تحقّق البيع بثمن خاص، انتهى-

ليس بمرضيّ بعد ما عرفت من ثبوت المراتب للثمن أدناها القيمة العادلة، و كلامه- قدّس

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 18، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 271، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 255

سرّه- مبني على إرادة البيع بأمر واحد هو ما يراه المشتري قيمة عادلة كائنا ما كان، إذ حينئذ يرد أنّه لا معنى لوجوب ردّ ما نقص عن القيمة العادلة، و أمّا على ما ذكرنا فلا يرد شي ء.

نعم لو ثبت إجماع في مورد الرواية بالبطلان كان مانعا عن الأخذ بها، فإشكال الرواية حينئذ أنّ مضمونها خلاف الإجماع لا أنّها غير دالّة على المطلوب.

قال صاحب الحدائق- قدّس سرّه- على ما حكي عنه، ما نصّه: لا يخفى أنّ مدار كلامهم في ردّ الخبر المذكور على الإجماع الذي ادّعاه العلّامة- رحمه اللّه- في التذكرة في هذه المسألة و أنّه لا معارض له سوى الخبر المذكور.

و أنت خبير بأنّ من لا يعتمد على هذه الإجماعات المتناقلة في كلامهم و المتكرّر دورانها على رءوس

أقلامهم تبقى الرواية المذكورة سالمة عنده من المعارض، فيتعيّن العمل بها خصوصا مع صحّة السند و اعتضاد ذلك، برواية صاحب الفقيه لها المشعر بقوله بمضمونها و العمل بها بناء على قاعدته المذكورة في أوّل الكتاب كما تكرّر في كلامهم من عدّ مضامين أخباره مذاهب له بناء على القاعدة المذكورة، و ليس هنا بعد الإجماع المذكور إلّا العمومات التي أشاروا إليها من حصول الغرر و تطرّق النزاع و نحو ذلك، و هذه العمومات مع ثبوت مستندها و صحّته يمكن تخصيصها بالخبر المذكور، بل من الجائز أيضا تخصيص الإجماع المذكور مع تسليم ثبوته بهذا الخبر الصحيح الصريح كما تخصّص عمومات الأدلّة من الآيات و الروايات و هو ليس بأقوى منها إن لم يكن أضعف بناء على تسليم صحّته، و حينئذ فيقال باستثناء صورة حكم المشتري وقوفا على ظاهر الخبر، و ما المانع من ذلك و قد صاروا إلى أمثاله في مواضع لا تحصى. انتهى.

و هذه العبارة كما ترى غير متعرّضة لانصراف الثمن إلى القيمة السوقيّة حتّى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 256

يرد عليه أنّه ما وجه حكمه- عليه السلام- في صورة زيادة ما دفع عنها بأنّه له، فنسبة ذلك إلى ظاهر كلامه- قدّس سرّه- في غير المحلّ.

نعم ذكر ذلك المحقّق الأردبيلي- قدّس سرّه- في ما حكي عنه مع مضيّة في المسألة على الإشكال، قال على ما حكي عنه بعد ذكر الرواية و صحّة سندها ما لفظه: و هي تدلّ على جواز الجهل في الثمن و أنّه يقع البيع صحيحا و ينصرف إلى القيمة السوقيّة إذا بيع بحكم المشتري، و لكن نقل الإجماع في التذكرة على اشتراط العلم مع عدم ظهور خلافه يمنع القول بها و تأويلها

مشكل و كذا ردّها، فيمكن أن يكون حكما في قضيّة و لا يتعدّاها. انتهى.

و أمّا توجيه ما في ذيل كلام الحدائق من تجويز تخصيص الإجماع بالخبر المذكور مع أنّ الإجماع قد ادّعاه العلّامة في شخص المسألة، أعني: بطلان البيع بحكم أحدهما فهما من قبيل المتباينين لا العام و الخاص فهو أن يقال: ليس لنا جزم بانعقاد الإجماع على خصوص هذا الفرع بل من المحتمل أنّه هو الإجماع المنعقد على الأصل، أعني: اشتراط العلم بالثمن قدرا إلّا أنّه لما لم يكن في نفس الفرع معارض لذلك الإجماع إلّا الخبر المذكور و كان هو مجملا عندهم كما صار كذلك عند شيخنا المرتضى- قدّس سرّه و أسرارهم- أفتوا فيها بمضمون الإجماع مدّعيا في نفسه الإجماع.

لا يقال: يدفع هذا الذي ذكرت ظاهر اللفظ حيث إنّه دالّ على كونه منعقدا في نفس المسألة ابتداء، فإنّه يقال: نعم لولا كثرة وقوع ما ذكرنا من نقل الإجماع المنعقد على الأصل في الفرع في كلماتهم، فإنّه بعد ذلك يصير الظهور موهونا، و بالجملة لا نجزم بأنّ الخبر كان عندهم تام الدلالة على الصحّة من غير حاجة إلى التأويل كما ذكرنا، و مع ذلك طرحوها استنادا إلى الإجماع، و حينئذ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 257

فالمسألة في كلا طرفيها مشكلة.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- ذكر أنّ الرواية بناء على القول بالفساد يحتاج إلى أزيد من التأويل المحتاج إليه بناء على الصحّة، و لعلّ وجهه أنّه بناء على الصحّة ليس المنافي إلا فقرة واحدة و هي قوله- عليه السلام-: «إن كان قيمتها أكثر فعليك أن تردّ عليه ما نقص»، و أمّا الفقرتان الأخريان من قوله- عليه السلام-: «إن كان قيمتها أقلّ ممّا بعثت

فهو له» و قوله- عليه السلام- في صورة وجدان العيب بعد ما مسّها: «ليس لك أن تردّها و لك أن تأخذ الأرش» فغير محتاجين إلى تأويل، لانطباقهما على القاعدة، و هذا بخلاف الحال بناء على الفساد حيث إنّه لا يلائمه شي ء من الفقرات الثلاثة كما هو واضح.

و أمّا التأويل الذي نحتاج إليه بناء على الصحّة في الفقرة الأولى فهو الحمل على أنّه و إن كان الثمن ما يحكم به المشتري و لكن ينصرف إلى القيمة السوقيّة تعبّدا سواء كانت أكثر ممّا بعث أم أقلّ، فقوله- عليه السلام-: «و إن كان ثمنها أقلّ ممّا بعثت إليه فهو له» يكون ضمير هو راجعا إلى ثمنها لا إلى ما بعثت، و وجه التأويليّة أنّ بناء الحكم في الرواية على هذا التعبّد بعيد عن ظاهرها.

و أمّا التأويل المحتاج إليه بناء على الفساد فهو حمل قوله: «باعنيها بحكمي» على قطع المساومة بتقويم رفاعة الجارية على نفسه بما يراه قيمة عادلة لها حيث كان من أهل الخبرة بقيمتها؛ لكونه دلّال الرقيق فقوّمها رفاعة على نفسه بألف درهم أمّا معاطاة و إمّا مع إنشاء الإيجاب وكالة و القبول أصالة.

و الحاصل كان معنى باعنيها هو التوكيل و لم يقصد به إنشاء البيع حتّى يكون الثمن ما يحكمه المشتري، فتكون الرواية أجنبيّة عن المقام، لأنّ الثمن في البيع حسب الفرض هو الألف درهم و الضمير في قوله- عليه السلام-: «فهو له» راجع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 258

إلى «ما بعثت» و أمّا وجه لزوم ردّ الزيادة لو كان ثمن المثل أزيد فهو أنّ المالك لم يقبل الألف درهم إمّا لظهور غبن له في البيع و أنّ رفاعة مخطئ في القيمة، و إمّا لثبوت

خيار الحيوان للبائع على القول به، فالإلزام بردّ الزيادة يكون للإرشاد إلى طريق إمساك الجارية، يعني حيث إنّ المالك لا حاجة له إلى الجارية فإذا بذل له التفاوت يرضى و يقدم بذلك على إسقاط خياره.

[المسألة الثانية اشتراط العلم بقدر المثمن كالثمن]
اشارة

مسألة العلم بقدر المثمن كالثمن شرط بإجماع علمائنا كما عن التذكرة،

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته-: الكلام هنا كما تقدّم في سابقه من أنّه لو كان المدرك منحصرا في النبوي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المشهور فمجال المناقشة واسع، إذ ربّما يكون قدر المثمن مجهولا و لا غرر كما لو باع أحد الشيئين الخارجيين، و علم أنّ أحدهما خمسة أمنان حنطة جيّدة و الآخر عشرة أمنان حنطة رديّة و لكنّهما في القيمة متساويان و لم يكن له غرض شخصي في خصوص أحدهما، و الحاصل كان عالما بأحد الأمرين من القدر أو وصف الجودة الجابر لنقصان القدر.

و كما لو باع مقدارا من الطعام بما يقابله في الميزان من جنسه أو غيره المتساوي له في القيمة فإنّه لا يتصوّر هنا غرر أصلا مع الجهل بمقدار كلّ من العوضين إلّا أنّه مساو للآخر في المقدار.

و كما لو كان المقدار المتخلّف عن الخرص و التخمين بالزيادة في جانب البائع و النقيصة في جانب المشتري غير قليل المقدار كمنّ و منّين من التبن إذا باع عدلا منه حيث إنّ نفس المنّ و المنّين يقعان مبيعين مستقلّين و يوضع لهما الميزان و لكن عند بيع العدل و العدلين لا يرضى المشتري و البائع- لتضييع وقتهما- بوضع الميزان لإدراك المنّ و المنّين، بل يكتفون بالخرص و يتسامحون في المقدار المتخلّف

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 259

حفظا لما هو الأهمّ من مراعاة الوقت.

و بالجملة المجازفة

في هذا المثال حاصل بخلاف الأوّلين و لكن ليس بغرر عرفا لا أنّه عندهم غرر مقدم عليه بخلاف المقدار القليل المتسامح فيه لقلّته فإنّه لا مجازفة فيه أيضا، فإنّ المجازفة عبارة عن الإقدام بجهالة بالمقدار و دورانه بين القليل و الكثير. و بالجملة استفادة شرطيّة العلم بالقدر بحيث يشمل مثل هذه الموارد من حديث نفي الغرر في محلّ المنع

[فرع: في ذكر الأخبار الخاصّة الواردة في خصوص الكيل و الوزن تيمنا]

فتبقى الأخبار الخاصّة الواردة في خصوص الكيل و الوزن، فلا بدّ من التيمّن بذكرها و التكلّم فيها.

فنقول مستمدّين من آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من جملة الأخبار المستدلّ بها في المقام صحيح ابن محبوب على المحكيّ عن زرعة عن سماعة، قال: «سألته عن شراء الطعام و ما يكال أو يوزن هل يصلح شراؤه بغير كيل و لا وزن؟ فقال: أمّا أن تأتي رجلا في طعام قد كيل و وزن تشتري منه مرابحة فلا بأس إن اشتريته منه و لم تكله و لم تزنه إذا كان المشتري الأوّل قد أخذه بكيل أو وزن و قلت له عند البيع: إنّي أربحك بكذا و كذا و قد رضيت بكيلك أو وزنك فلا بأس» «1».

و منها: رواية أبان عن محمّد بن حمران «قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السلام-:

اشترينا طعاما فزعم صاحبه أنّه كاله فصدّقناه و أخذناه بكيله؟ فقال: لا بأس، فقلت: أ يجوز أن أبيعه كما اشتريته بغير كيل؟ قال: لا، أمّا أنت فلا تبعه حتّى تكيله» «2».

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: الرواية الأولى ظاهرة في مدخليّة خصوص المرابحة في الحكم، فإنّ كون النكتة في ذكرها هي العليّة خلاف

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 5، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 257،

ح 7.

(2)- المصدر نفسه: ح 4.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 260

الواقع، و حينئذ فلو حملناها على مسألتنا من اعتبار الكيل بمعنى معلوميّة المقدار لم يبق للقيد المذكور مدخليّة أصلا كما هو واضح، و الرواية الثانية يبعد تنزيلها على المقام من حيث إنّه يلزم التفكيك في اعتبار قول البائع بين مقام البيع و مقام الشراء.

و إذن فمن القريب بل لا يحتمل غيره أن تكون الروايتان غير مرتبطتين بمقامنا و مندرجتين في أخبار مسألة أخرى هي حرمة بيع المكيل و الموزون قبل القبض و هي بين مانعة مطلقا و مرخّصة كذلك، و مفصّلة بين المرابحة و التولية بالمنع في الأولى و التجويز في الثانية. و كيف كان فالناظر لتلك الأخبار و هذين الخبرين يقطع بأنّ الخبرين من باب تلك الأخبار و غير مرتبطين بمقامنا.

توضيح ذلك: أنّ السائل في الرواية الأولى توهّم من الأخبار المانعة المطلقة أنّ حصول الملك للمشتري منوط بالقبض و لهذا منعت تلك الأخبار عن ترتيب أثر الملكيّة و هو مطلق البيع، فمقصوده بقوله: «هل يصلح شراؤه بغير كيل و لا وزن» أي قبل قبض نفسه المبيع عن البائع، إذ المتعارف في عرف الأخبار إطلاق الكيل و الاكتيال و إرادة القبض الخارجي أنّه هل الشراء متحقّق قبل قبضي أو متوقّف على القبض؟ فأجابه الإمام- عليه السلام- بأنّه إذا كان الرجل الذي تشتري منه قد قبضه كفى في صحّة شرائك منه و صيرورته ملكا لك، و ذكر قيد المرابحة من باب ذكر الفرد الخفيّ، فبيّن- عليه السلام- له أنّ القبض شرط في البيع من طرف البائع لا أنّه متمّم سبب الملك، فمع عدم القبض يحصل الملك و لكن لا يجوز بيع المرابحة تعبّدا إلّا بعد

القبض، و لفظ «بكيل أو وزن» في قوله: قد أخذه بكيل قيد توضيحي.

و إلى ما ذكرنا من التفصيل بين الملك فلا يشترط في حصوله قبض المشتري،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 261

و بين البيع فيشترط أشار في الفقرة الثانية من الرواية الثانية، فمقصود السائل بقوله: أ يجوز أن أبيعه كما اشتريته بغير كيل هو السؤال عن بيع التولية قبل قبض نفسه، يعني يجوز بيعه بالقيمة التي اشتريته قبل أن أقبضه؟ فأجاب- عليه السلام-: أمّا أنت إلخ، يعني و إن كان بيع البائع الأوّل منك غير مشروط بقبضك منه، أمّا أنت فبيعك مشروط بقبضك، فيكون الخبر من الأخبار المانعة في مطلق البيع.

و على هذا يندفع الاستبعاد عن الرواية في الحكم باعتبار إخبار البائع بالكيل في خصوص الشراء منه و عدم اعتباره في بيع المشتري لغيره لو حملناها على اعتبار الكيل من باب رفع المجازفة و حصول العلم بقدر المبيع.

و أمّا الفقرة الأولى منها فذات وجهين: الأوّل: أن يكون المراد تصديق البائع في أنّه قبضه من المالك الذي هو الشرط في بيعه فيكون أجنبيا عن مقامنا، الثاني:

أن يكون الركون إلى تصديقه و الاعتماد بقوله في مقام رفع المجازفة و تحصيل العلم بقدر المثمن فيكون مرتبطا بالمقام، لكن لا دلالة له على أزيد من رفع الغرر، فإنّ من أحد طرقه الاطمئنان بقول البائع فلا يدلّ على اعتبار الكيل زيادة على هذا المقدار، و بالجملة فليس فيه إلّا الدلالة على الاكتفاء بتصديق البائع مع السكوت عن أنّ المعتبر في تقدير عدم التصديق ماذا.

و منها: صحيحة الحلبي على المحكيّ عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- أنّه قال في رجل اشترى من رجل طعاما عدلا بكيل معلوم و أنّ صاحبه قال

للمشتري: ابتع منّي هذا العدل الآخر بغير كيل فإنّ فيه مثل ما في الآخر الذي ابتعت؟ قال- عليه السلام-: لا يصلح إلّا بكيل و قال: ما كان من طعام سمّيت فيه كيلا فإنّه لا يصلح مجازفة هذا ممّا يكره من بيع الطعام «1».

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 4، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 254، ح 2 و 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 262

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة- هذه الرواية الشريفة ذات احتمالين بأحدهما دالّة على المدّعى في خصوص الطعام، و بالآخر في كلّ مكيل و موزون، أمّا الأوّل: فهو أن يكون المراد من قوله: ما كان من طعام إلخ موضوعيّة الطعام و كان التوصيف للتنويع فيكون الحكم خاصّا بالحنطة و الشعير أو مطلق الحبوبات دون مثل الفواكه و سائر المطعومات فضلا عن غيرها من أنواع المكيل و الموزون، و يكون التنويع لإخراج مثل الزرع بعد انعقاد الحبّ خصوصا عند أوان حصاده فإنّه طعام و ليس بمكيل، اللّهمّ إلّا أن يخدش في كونه مسمّى بالطعام.

و أمّا الثاني: فهو أن يكون ذكر الطعام من باب المثال و يكون المقصود إناطة الحكم بالكيل و الوزن، و لكن يبعّده أنّ الظاهر كون قوله: «سمّيت» تقييدا للطعام لا بيانا و توضيحا، و كيف كان فدلالة الرواية في خصوص الطعام قدر متيقّن، و أمّا الحكم بعدم تصديق البائع فمحمول على شرائه سواء زاد أم نقص مع عدم حصول الاطمئنان بقوله، هذا.

و لكن يرد على الرواية أنّ غاية ما يفيدها هو الفساد في صورة صدق المجازفة و من الواضح عدم صدقها في المثال الذي تقدّم من صورة معلوميّة أحد الأمرين من القدر و وصف الجودة الجابر للنقصان و

صورة البيع بما يوازي المبيع في الميزان مع المساواة في القيمة؛ فإنّ الجزاف هو المساهلة في الأمر و عدم التحقيق، و أمّا المثال الثالث الذي تقدّم فتدلّ الرواية على منعه لصدق الجزاف فيه و إن لم يصدق الغرر، لكن في خصوص الطعام لا في كلّ مكيل و موزون، لتوقّفه على استظهار الاحتمال الثاني و قد عرفت منعه.

و منها: ما في رواية أبي العطارد «قلت فاخرج الكرّ و الكرّين فيقول الرجل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 263

أعطنيه بكيلك، فقال: إذا ائتمنك فلا بأس» «1» دلّت على قيام إخبار البائع مقام الكيل في صورة كونه مؤتمنا عند المشتري و لو لم يحصل الوثوق الشخصي.

و منها: مرسلة ابن بكير عن رجل سأل أبا عبد اللّه- عليه السلام- عن «الرجل يشتري الجصّ فيكيل بعضه و يأخذ البقيّة بغير كيل؟ فقال- عليه السلام-: إمّا أن يأخذ كلّه بتصديقه و إمّا أن يكيله كلّه» «2» هذه أيضا في الدلالة على لزوم أحد الأمرين كالسابقة، و أمّا الإشكال بأنّ المستفاد منه منع التبعيض و لا يلتزم به أحد، فغير وارد، لأنّ مفروض السؤال بحسب الظاهر استواء الحال في كلا البعضين من حيث حصول إخبار البائع في الكلّ أو عدم حصوله كذلك لبعد حصوله في البعض دون البعض، أو حصوله في الكلّ و لكن لم يكن موثّقا عند إخباره بالبعض فصار كذلك عند إخباره بالبقيّة.

و حاصل ما استفدناه من سليم الدلالة من هذه الأخبار في باب المكيل و الموزون هو اعتبار عدم المجازفة و أنّه لا يكفي الخرص و التخمين و الأخذ بالمساهلة، و أمّا مثل ما مثّلنا لك سابقا من معاوضة الجنسين المتساويين في الميزان و الماليّة و بيع ما علم

فيه أحد الأمرين من القدر و الوصف فلم يعلم ممنوعيّته من الأخبار.

فإن قلت: فعلى هذا تكفي الصخرة المشاهدة الغير المعلوم وزنها، إذ ليس مرجع الأوزان أيضا إلّا إلى المشاهدة، و إلّا فليس المنّ بما هو إلّا ما كان منقسما إلى نصفي منّ بالمشاهدة و نصف المنّ ما كان منقسما إلى ربعين كذلك و هكذا إلى أن ينتهي إلى المثقال و الحمّصة و الشعيرة، و الشعيرة أمر مشاهد.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 5، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 257، ح 6.

(2)- المصدر نفسه: ص 256، ح 3.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 264

قلت: نعم مرجع الوزن أيضا إلى المشاهدة كما ذكرت، و لكنّ الفرق بينه و بين الصخرة المشاهدة المجهولة هو انتهاء الوزن إلى ما ذكرت من تلك الأجزاء الصغار المشاهدة فيكون منضبطا بالمشاهدة بقدر الإمكان، بخلاف الحال في الصخرة المجهولة، و أمّا الفرق بينها و بين الجنسين المتقابلين في الميزان فهو انضباط حدّ الماليّتين فيهما و عدمه في الصخرة، هذا هو الكلام في المكيل و الموزون.

و قد يتمسّك بروايات أخر لاعتبار العلم و عدم الجهالة في مطلق المبيع.

منها: ما عن دعائم الإسلام عن أبي جعفر- عليه السلام- أنّه «سئل عن رجلين باع كلّ واحد منهما حصّته من دار بحصّة لصاحبه من دار أخرى؟ فقال- عليه السلام-: ذلك جائز إذا علما جميعا ما باعاه و اشترياه، فإن لم يعلماه أو لم يعلم أحدهما فالبيع باطل» «1»، و فيه: أنّه مورد الرواية حسب الفرض بحيث يلزم من عدم المعلوميّة الجزاف و الغرر، و لم يعلم منه البطلان في مورد الانفكاك عن العنوانين كما في بيع أحد العبدين أو إحدى الدارين، و بالجملة عدم معلوميّة الحصّة و

أنّها الثلث أو النصف أو الربع مثلا ملازم مع الجزاف و الغرر، بخلاف الإبهام في أحد العبدين المماثلين من جميع الجهات أو إحدى الدارين كذلك.

و منها: ما عن الدعائم أيضا في حديث «عن أمير المؤمنين- عليه السلام- أنّه سئل عن بيع السمك في الآجام- إلى أن قال-: هذا كلّه لا يجوز، لأنّه مجهول غير معروف يقلّ و يكثر و هو غرر» «2» و الكلام فيه كسابقه، فإنّ دوران الأمر بين القلّة و الكثرة فيه لا يشمل مثل الدوران الموجود في ما مثّلنا من مورد العلم بأحد الأمرين من زيادة الكمّ أو زيادة الكيف بشهادة تطبيق كبرى الغرر عليه، مع

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل: ج 13، الباب 4، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 231، ح 2.

(2)- الوسائل: ج 13 الباب 10، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 238، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 265

وضوح عدم تطبيقه على المثال كما تقدّم.

و منها: ما عن الدعائم أيضا عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- عن أبيه عن آبائه- صلوات اللّه عليهم أجمعين-: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى عن بيع الغرر و هو كلّ بيع يعقد على شي ء مجهول عند المتبايعين أو أحدهما» «1».

و فيه- على تقدير تسليم كون التفسير عن الصادق أو أحد من الأئمّة أو النبيّ- صلوات اللّه عليهم أجمعين- دون صاحب الدعائم- أنّ المراد بالمجهول مجهول، فإنّه لا يمكن أن يكون المراد مطلق المجهول و لو من حيث الأمور الغير الدخيلة في الماليّة مثل العبد المجهول اسمه المردّد بين مبارك و ياسر مثلا و هكذا.

و إن كان المراد المجهول من حيث الماليّة أو من حيث الرغبة النوعيّة كما لو

علم أنّه يوازي دينارا و لكن لا يعلم أنّه ممّا يكثر الرغبة إليه أو يقلّ، فلو كان مقدار الماليّة معلوما، و كذلك كونه مرغوبا إليه بطباع العامّة كما في الحنطة و الزبيب المتقابلين في الميزان فلا تدلّ الرواية على منعه، و على كلّ حال لا يشمل مثل بيع أحد العبدين؛ فإنّ المبيع هنا مبهم لا مجهول، و بين الأمرين بون بعيد، و لهذا لا يقال عند وقوع الأحد تحت الخطاب أنّ موضوع الخطاب مجهول.

و بالجملة الذي اعتبروه في الفتاوى في الثمن و المثمن سواء في المكيل و الموزون أم في المشاهدات لم نعثر له بكليّته على مدرك في الأخبار فإن كان مدرك كان هو نفس تلك الفتاوى، هذا.

و من الغريب ما حكي عن المحقّق الأردبيلي- قدّس سرّه- أنّه أنكر وجود خبر على اعتبار العدّ في المعدود فناقش بذلك في اعتبار العدد في خصوص المعدود، بمعنى أنّه يجوز من غير اعتبار مع التراضي، و الحال أنّ رواية الجوز و إن

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 40، أبواب آداب التجارة، ص 330، ح 3.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 266

كان ليس محطّ السؤال و الجواب فيها ذلك، لكن يستفاد منها اعتبار العدد، و هي صحيحة الحلبي و ابن مسكان جميعا عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- أنّه «سئل عن الجوز لا نستطيع أن نعدّه فيكال بمكيال ثمّ يعد ما فيه ثمّ يكال ما بقي على حساب ذلك العدد؟ قال: لا بأس به» «1».

فإنّ الظاهر منها كون اعتبار العدد مفروغا عنه عند السائل حتى سأل عن كون ما ذكره علاجا لحال تعذّره و طريقا إلى تعيينه فقرّره الإمام على هذا و أنّ الكيل طريق إلى العدّ عند عدم

الاستطاعة، و بالجملة تقرير الإمام- صلوات اللّه عليه- بالنسبة إلى أصل اعتبار العدّ غير قابل للإنكار.

نعم يمكن منع التقرير بالنسبة إلى اختصاص التقدير بالكيل بحال عدم الاستطاعة إذ لم يعلم كون نظر السائل إلى إناطة الجواز بعدم الاستطاعة، فلعلّه ذكره من باب أنّه مع الاستطاعة لا داعي إلى الكيل، فهو نظير قول السائل: إن لم أستطع من الصلاة إلى ما بعد نصف الليل؟ فقيل في الجواب: يكون أداء فلا يستفاد عدم الأدائيّة في صورة عدم الاستطاعة، لأنّ ذكره ليس من باب الإناطة و التقييد للحكم بل لأجل أنّ الإنسان لا يترك الصلاة بلا عذر إلى ما بعد نصف الليل و لا أقلّ من إجمال اللفظ، فتبقى العمومات بالنسبة إلى حالة الاستطاعة و الاعتبار بالكيل سليما عن المخصّص، هذا.

[المسألة الثالثة في تعيين المناط في المكيل و الموزون و المعدود]

مسألة لو قلنا بأنّ المناط في اعتبار تقدير المبيع في المكيل و الموزون و المعدود بما يتعارف التقدير به هو رفع الغرر الشخصي

و أنّه ليس المعتبر إلّا ذلك لا شيئا زائدا

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 7، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 259، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 267

عليه فلا إشكال في جواز تقدير كلّ منها بغير ما يتعارف تقديره به إذا انتفى الغرر بذلك، بل في كفاية المشاهدة فيها من غير تقدير أصلا، لكن تقدّم أنّ بعض الأخبار و إن كان لا مساس لها بالباب و لكن صحيحة الحلبي بضميمة المفروغيّة عند السائل في سائر الأخبار يفيد اعتبار التقدير من غير ملاحظة الغرر الشخصي.

و حينئذ أيضا لو قلنا بأنّ المعتبر زائدا على رفع الغرر إنّما هو رفع المجازفة، أعني: المساهلة و الدخول في الأمر على غير تحقيق فكلّ ما كان رافعا للمجازفة جائز،

حتّى قلنا: إنّ لازم هذا جواز البيع بما يوازي المثمن في الميزان مع التساوي في القيمة، فلا إشكال على هذا أيضا في اعتبار المكيل بالوزن و الموزون بالكيل، و لو قلنا بأنّ المعتبر زائدا على رفع المجازفة أيضا هو التقدير بالكيل أو بالوزن تعبّدا لا بطريق آخر كالمثال المذكور.

فيقع حينئذ الكلام و الإشكال في تقدير بعض المقدّرات بغير ما تعارف فيه، فاختلفوا في جواز بيع المكيل وزنا و بالعكس و عدمه على أقوال، ثالثها جواز المكيل وزنا دون العكس، لأنّ الوزن أصل الكيل و أضبط و إنّما عدل إليه في المكيلات تسهيلا.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: إنّ الذي ينبغي أن يقال هو الجواز و الكفاية في كلا الطرفين و ذلك لعدم الإطلاق في الأخبار بالنسبة إلى اعتبار الكيل في المكيل بل إطلاقها منزّل على صورة صعوبة الوزن و أنّه لو لا الكيل كان الطريق منحصرا في المشاهدة، فاعتبر الكيل في قبال المشاهدة لا الوزن فيبقى كفاية الوزن تحت القاعدة، و أمّا قيام الكيل مقام الوزن فلا وجه لمنعه إلّا ما عرفت من المفصّل من كون الوزن أصلا و أضبط من الكيل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 268

و يمكن منع الأضبطيّة إلّا في مقدار يتسامح به، توضيح ذلك، أنّ وجه رفع المجازفة بالوزن ليس إلّا انضباطه و انقسامه إلى أجزاء متساوية بانقسامات عديدة حتّى ينتهي إلى الحمّصة و الشعيرة، فانتهاء الأمر فيه إلى المشاهدة لكن بعد مثل هذه المداقّة من التقسيم المنتهي إلى مثل الشعيرة، فنقول: عين هذا المعنى جار في الكيل أيضا؛ فإنّ وجه الاعتبار به ليس إلّا أحد أمرين:

إمّا كونه عبرة و طريقا إلى الوزن الخاص، فيكون اعتباره من باب اعتبار الوزن،

و إمّا إجراء التقسيم المذكور في الوزن في نفس الكيل بأن نعتبر القصعة منقسمة إلى نصفي قصعة متساويين و النصف إلى فنجانين و الفنجان إلى الاستكانين و الاستكان إلى ضعفي ما يقال له بالفارسيّة «انگشتانه».

نعم قد يتخلّف الكيل عن الوزن لكن مقدار التخلّف قليل يتسامح به إلّا أن يكون الجنس ممّا لا يتسامح به بهذا المقدار، فليس عدم اعتبار الكيل حينئذ إلّا مثل عدم اعتبار الميزان المعدّ للمنّ و المنّين في بعض الأشياء التي لا يتسامح فيها بالمقدار المتخلّف من هذا الميزان، فكما يعتبر فيه الميزان المثقالي يعتبر في الأوّل الوزن في قبال الكيل.

و من هنا يعرف أنّه لا عبرة بخصوص الوزن المتعارف و الكيل المتعارف بل يجوز الاكتفاء بما يصنعانه و يخترعانه من الوزن و الكيل لكن بالشرط الذي ذكرنا من انتهاء الأمر بالانقسامات العديدة إلى قسمين متساويين إلى الجزء الصغير من الوزن و الكيل، فيجوز لهما اختراع الوزن من العدسة على خلاف ما تعارف من اختراعه من الشعيرة.

فإن قلت: إطلاق قولنا: المكيل و الموزون يجب فيهما الكيل و الوزن منصرف إلى المتعارف فما ذكرت من المخترع و المصنوع خارج عن مفاد الأخبار.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 269

قلت: لا فائدة في هذا الانصراف بعد ما ادّعينا من أنّ الحكم وارد مورد مقام آخر و أنّ الحصر إضافيّ بمعنى أنّها في مقام نفي المشاهدة و مثل البيع بالتقابل في الميزان، و أمّا التقدير الخاص من بين التقادير فليس في الأخبار تعرّض للنفي و الإثبات فيه، و ذلك لأنّ اعتبار الكيل و الوزن من باب المفروغيّة عند المخاطبين في موارد الأخبار المتقدّمة و مواردها كانت بحيث لولا الكيل كانت المعاملة جزافيّة، فالمفروغيّة إنّما هي في

مقام أصل اعتبار التقدير في مقابل عدمه، و لا يكفي انصراف الكيل في هذا المقام كما هو واضح.

و الحاصل: أنّ اعتبار الزائد على تقدير الماليّة بالنحو المتعارف في العرف- أعني: بانتهاء الأمر إلى الأشياء الصغار المشاهدة بالانقسامات العديدة إلى قسمين متساويين بحيث كان عدد تلك الأشياء الصغار مضبوطا معلوما- غير معلوم من الأخبار، فتبقى العمومات سليمة عن المخصّص فيكفي كلّ من الكيل و الوزن في مقام الآخر سواء المتعارف أم المصنوع المستحدث، هذا.

و قد فصل شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في المقام بعد ما قسم محلّ الكلام إلى أربعة أقسام: الأوّل: جعل الكيل أمارة على الوزن، و الثاني: جعل الوزن أمارة على الكيل، و الثالث: جعل الكيل أصلا برأسه في مقام الوزن، و الرابع: جعل الوزن كذلك في مقام الكيل، فاختار الجواز في الأوّلين و الأخير دون الثالث.

أمّا الجواز في الأوّلين فلأنّ التفاوت المحتمل إمّا ممّا يتسامح به و إمّا لا يتسامح به، فعلى الأوّل لم يخرج عن مدلول الأخبار، إذ التقدير بالوزن أو بالكيل قد تحقّق غاية الأمر بطريقيّة واحد منهما للآخر كما لو أخبر من يعلم باخباره، و على الثاني فكذلك أيضا، لأنّ التفاوت و إن لم يكن يسيرا لكن احتماله موهوم لا يعتنيه العقلاء؛ لأنّ الفرض كون كلّ أمارة عرفيّة على وجود الآخر، فهذا أيضا غير خارج

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 270

عن تقدير الموزون بالوزن و المكيل بالكيل، غاية الأمرين إحراز الأمر بالطريق الحجّة العقلائية نظير أخبار البيّنة أو إخبار البائع، فعلم أنّه مع الجمود على مفاد الأخبار من اعتبار التقدير بخصوص الوزن في الموزون و بخصوص الكيل في المكيل أيضا مقتضى القاعدة هو الحكم بصحّة كلا القسمين.

نعم ربّما يتوهّم منافاة

التقرير في خبر الجواز حيث أناط السائل جواز كيل المعدود بعنوان الطريقيّة للعدّ بعدم الاستطاعة و مقتضاه عدم الجواز مع الاستطاعة و قد قرّره الإمام- عليه السلام- لكن عرفت الخدشة في هذا التقرير فراجع.

و أمّا الجواز في الأخير فلعلّه- قدّس سرّه- بأنّ الوزن أضبط من الكيل و هو أصل الكيل في المكيلات و لا عكس، و أمّا عدم الجواز في الثالث، فلأنّه داخل في المجازفة، إذ لم يفد في الموزون معرفة زائدة على ما يحصل بالمشاهدة نظير تقدير الموزون بالصخرة المشاهدة أو معاملة مثل الأعاجم بالوزن المرسوم عند أهل العراق من الحقّة و الرطل و الوزنة، فإنّ مجرّد ذكر أحد هذه العناوين على الموزون و جعله في الميزان و وضع صخرة مجهولة المقدار معلومة الاسم في مقابله لا يوجب للجاهل معرفة زائدة على ما يحصل بالمشاهدة، هذا محصّل ما ذكره- قدّس سرّه الشريف.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام أبحاثه المفيدة-: أمّا ما ذكره في القسمين الأوّلين ففي غاية المتانة، أمّا ما أفاده في القسمين الآخرين فمحلّ نظر، و ذلك لأنّ قياسه الكيل بالمشاهدة لعلّه مبنيّ على أن يكون المراد جعل مكيال غير معلوم المقدار في مقام الوزن أصالة، و لكنّه غير المراد، بل المراد أن يكون المكيال مورّثا لمعرفة مقدار المكيل كما يستكشف مقدار الأشياء الأخر بالمقادير الأخر؛ فإنّ طريق المعرفة في سائر المقامات هو العلم بأنّ الصخرة أو الكيل ينتهي إلى أيّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 271

عدد من الحمّصة مثلا أو إلى أيّ عدد من الوعاء الصغير في غاية الصغارة، فالمقصود استعمال الكيل المعروف مقداره بهذا الطريق في مقام الوزن، و من الواضح عدم شباهته بالصخرة المشاهدة المجهولة، إذ مقدار ماليّة الحنطة المكيلة

بهذا الكيل مثلا يعلم أنّه ماذا و لا يعلم مع الوزن بالصخرة المجهولة كما هو واضح.

و حينئذ فنقول: لا يخلو الأمر إمّا يستكشف من الأخبار اعتبار عدم المجازفة أو يستفاد منها خصوص الكيل في المكيل و الوزن في الموزون بناء على منع ما ذكرناه سابقا، و تسليم الإطلاق للأخبار و عدم كونها في مقام الحصر الإضافي، فإن قلنا بالأوّل فاللازم الكفاية في كلّ من القسمين لما ذكرنا من رفع المجازفة، و إن قلنا بالثاني فاللازم أيضا عدم الفرق بينهما بعدم الكفاية، فإنّ أضبطيّة الوزن لا يوجب صحّة أخذه في مقام الكيل مع كون المستفاد من الدليل اعتبار خصوص الكيل، فلا يعلم لما أفاده- قدّس سرّه- من الفرق وجه على كلا المبنيين.

بقي الكلام بناء على تسليم وجود الدليل على اعتبار الكيل في كلّ مكيل و الوزن في كلّ موزون في أنّ المعيار أيّ عصر و أيّ بلد عند اختلاف الأعصار و البلدان في شي ء من هذه الجهة، و يجري هذا في مسألة حرمة الربا فإنّها أيضا معلّقة على المكيل و الموزون.

و اعلم أنّ المنسوب إلى الأصحاب- رضوان اللّه عليهم- أنّ المعتبر في الكيل و الوزن ما كان في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا علم ذلك، و إن تغيّر، و إن لم يعلم فعادة البلدان في وقت البيع، فإن اختلفت فلكلّ بلدة حكمها، هذا ما نسب إليهم، فإن ثبت اتفاق فهو و إلّا فللخدشة مجال واسع، لأنّ عنوان ما يكال و يوزن الواقع في أدلّة البابين لا يخلو الحال فيه إمّا يجعل معرّفا إلى الأشياء الخاصّة و إمّا عنوانا،

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 272

و على الثاني أيضا إمّا يراد به المكيل

بقول مطلق المتوقّف صدقه على توفق البلاد أو جلّها على الكيل أو المكيل في الجملة، فيوجب الكيل في البلد الواحد جريان الحكمين، أعني: عدم صحّة الجزاف و عدم جواز التفاضل في معاملة المتجانسين منه في جميع البلاد إذ يختلف الحال بحسب كلّ بلد نظير عنوان (المتعارف) و عدم إمكان استفادة الترتيب المذكور بين المراتب الثلاث من العبارة في شي ء من هذه التقادير في غاية الوضوح.

و حينئذ فعمومات أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و نحوهما هي المحكّم في مورد الشكّ مضافا إلى أصالة عدم كونه مكيلا في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

لا يقال: إذا فرض أنّ العمومات قد خصّصت بما كان مكيلا أو موزونا في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فمورد الشكّ شبهة مصداقيّة لتلك العمومات. لأنّا نقول: نعم و لكنّ المخصّص لبّي، فإنّ الإجماع لم ينعقد إلّا على المضمون لا [على] صدور هذا اللفظ عن المعصوم- عليه السلام- مع أنّه على الثاني أيضا يمكن استكشاف حال المصداق بأصالة العموم؛ فإنّه من المحتمل أن يكون المتكلّم في قوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الغير الغرريّة لاحظ جميع الأفراد المتحقّقة إلى يوم القيامة فلم نعثر فيها على شي ء كان مصداقا لعنوان المخصّص، أعني: ما كان في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعزّة وجوده مقدّرا ثمّ صار في ما بعد لكثرة الوجود يكتفي في رفع غرره بالعدّ أو المشاهدة.

لا يقال: نعم و لكن لنا علم إجمالي بثبوت المخالفة بين الأعصار المتأخّرة و عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تلك الأشياء المختلفة في البلاد المختلفة و مقتضاه الاحتياط بمراعاة التقدير.

لأنّا نقول أوّلا: نمنع هذا العلم،

لأنّه على فرض كون العبرة ببلد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 273

و لم يعلم إرادته من المجمعين بل الظاهر إرادتهم عصره و يكون لكلّ بلد من البلاد المختلفة في عصره حكم نفسه، و ثانيا: سلّمنا و لكن لمّا كان طرف هذا العلم غير محلّ للابتلاء لأنّ متعلّقه التكليف المردّد بين المكلّفين فكلّ منهما يتمسّك بأصل البراءة في حقّ نفسه، و ثالثا: سلّمنا عدم جريان أصالة البراءة لا عقلا و لا نقلا، و لكن أصالة العموم لا مانع من الأخذ بها في مثل هذا المورد ممّا علم بالتخصيص إمّا في المورد المبتلى به أو في مورد آخر غير مرتبط بالإنسان، نظير ما إذا علم العبد بورود التخصيص إمّا على عام صادر من مولاه و إمّا على عام صادر من المولى في الهند بالنسبة إلى عبده، و كذلك لو قال طبيب: اشرب الدواء الفلاني و علمنا بأنّه إمّا كذب في هذا الإخبار أو فيما أخبر به زوجته من الإخبار الأخر، و بالجملة لا يسقط العام بمجرّد طروّ هذه الجهة عن قابليّة المحاجّة و الاحتجاج، هذا.

و لكن يمكن الخدشة بأنّ العمومات غير مبنيّة على إعمال علم الغيب حتّى يمكن التمسّك بها في الشبهة المصداقيّة، و يمكن أن يقال: إنّ عنوان معقد الإجماع، أعني: ما يكال في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مضافا إلى احتمال كونه إشارة يحتمل على تقدير العنوانيّة كونه أمارة بمعنى أنّ الشارع رأى بملاحظة تطابق الأزمان و الأعصار في عزّة الوجود و كثرته في الأجناس الماليّة كون عصره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمارة على سائر الأعصار فحكم بأنّ ما

يكال في عهده فهو ميزان رفع الغرر إلى يوم القيامة، و على هذا لا تخصيص أصلا.

و لكن لازم هذا رفع اليد عن الإجماع عند العلم بمخالفة عصر مع ذلك العصر لانكشاف خطأ الأمارة، و هو غير مراد المجمعين ظاهرا، فالظاهر كون العنوان على وجه الأصالة و لازمه التخصيص فيكون مواقع الشكّ ممّا شكّ في انطباق عنوان المخصّص عليه، و قد عرفت عدم إمكان التمسّك بالعمومات فيه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 274

أيضا، اللّهمّ إلّا أن يتشبّث بالأصل المنقّح للموضوع، أعني: أصل عدم كون الجنس مكيلا في عهده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لكنّه مبنيّ على كون قيد في عهده قيدا للمحمول، و إن كان ظرفا للنسبة فلا مجرى له؛ لعدم الحالة السابقة بالنسبة إلى ما هو موضوع الأثر و هو مفاد كان الناقصة.

إلّا أن يقال: إنّ الأصل عدم تحقّق قضيّة «هذا مكيل» في ذلك العهد و يقال: إنّ هذا العقد غير غرريّ بواسطة تقدير الماليّة بما يتعارف فيه من العدّ أو المشاهدة بالوجدان و موجب الفساد و هو كونه مكيلا في ذلك العهد غير متحقّق بالأصل، و ليس إحراز حال هذا المال و أنّه غير مكيل في العهد المذكور دخيلا حتّى يكون الأصل مثبتا بالنسبة إليه، ثمّ لو فرض الخدشة في هذا الأصل كان المرجع لا محالة أصالة الفساد دون الصحّة، لكون الشبهة حكميّة، إلّا أن نمنع كشف الإجماع بواسطة التعليل الواقع في كلماتهم أو يقال: إنّه منعقد على الأشياء الخاصّة لا العنوان.

[المسألة الرابعة في إخبار البائع بمقدار المبيع]

مسألة لو أخبر البائع بمقدار المبيع جاز الاعتماد عليه على المشهور و عبارة التذكرة مشعرة بالاتفاق عليه.

اعلم أنّ الكلام هنا في مقامين:

أحدهما: في كون إخبار البائع طريقا عرفيّا

أو شرعيّا و لو لم يكن بناء. و الثاني: في أنّ البناء على المقدار الفلاني كاف في رفع الغرر أو لا و لو لم يكن إخبار.

أمّا الأوّل: فأمّا العرفي فالمتيقّن من بناء أهل العرف هو الاعتماد على قول ذي اليد في ما يتعلّق بما تحت يده في ما لم يكن مظنّة الكذب نظير الإخبار بطهارة الطفل و نحوه، و أمّا مثل المقام ممّا يتعارف فيه المداقّة، و دواعي الكذب فيه موجودة فالبناء غير محرز لو لم يحرز خلافه، و أمّا الشرعي فقد عرفت نفي الاعتبار من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 275

صحيحة الحلبي، بل يمكن استفادة عدم فائدة في البناء أيضا كما هو المقام الثاني بناء على ظهور مقام إخبار البائع بوقوع المعاملة مبنيّة على المقدار المخبر به، هذا.

و يشهد لهذا المضمون، أعني: عدم طريقيّة نفس الإخبار من حيث هو الإخبار الآخر، فإنّ قوله في رواية الكرّ و الكرّين: «إذا ائتمنك فلا بأس» و قوله في مرسلة ابن بكير: «إمّا أن تأخذ كلّه بتصديقه، و إمّا أن تكيله كلّه» ظاهرهما الاعتماد على المؤتمنيّة في الأوّل و على الاطمئنان الموجب للتصديق في الثاني.

و أمّا الثاني: فلم يعلم وجه لكون التباني مع الجهل رافعا للغرر، لا يقال حيث إنّ الشرط يوجب تخلّفه الخيار فلا غرر، لأنّا نقول: صحّة الشرط الموجبة للخيار عند التخلّف موقوفة على اجتماع نفس العقد شرائط الصحّة التي منها الغرر، و من هنا يعلم سراية الإشكال في باب الأوصاف لو لم يحصل الاطمئنان من توصيف البائع، إلّا أن يقال: الخيار عرفي لا شرعي و هو موجب لرفع الغرر، و لكنّه أيضا مدفوع بأنّه قد مرّ في باب اشتراط القدرة على التسليم أنّه بحسب

العرف أيضا يكون لكلّ من المتعاقدين حبس العوض إلى أن يسلّم صاحبه المعوّض و معه لا غرر، و مع ذلك لا يكتفون بهذا، فلهذا قلنا إنّ ملاك الغرر عدم الاطمئنان بنيل المقصد و لو مع الأمن عن الضرر و هذا موجود في المقام.

ثمّ في كلّ مورد حكمنا بالصحّة فلو تبيّن الخلاف لا إشكال في ثبوت الخيار و لكن هل هذا الخيار خيار تخلّف الوصف أو تخلّف الجزء؟ مبني الأوّل أنّ المبيع هذا الشي ء و كونه بمقدار كذا من قبيل كون الفرس عربيّا فيكون من تخلّف الوصف فإمّا يفسخ و إمّا يمضي بتمام الثمن، و مبني الثاني أنّ المبيع هذا المقدّر بكذا بنحو التقييد، و الإشارة ملغاة فحاله حال هذا الفرس لو بان كتابا، و لكنّ الفرق أنّ التخلّف هناك يوجب البطلان و لا يوجبه هنا، لأنّ الكتاب ليس بشي ء

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 276

من الفرس و لكنّ الخمسة أمنان نصف للعشرة فينتج خيار التبعّض.

و لا يبعد قوّة الثاني بملاحظة أنّ قوام النظر في باب البيع كما يكون بالجنس مثل الحنطيّة و الشعيريّة كذلك بما يحدّد مقدار المالية، فلا فرق بين الإتيان في صورة الإنشاء بصورة الشرط و الوصف أم بصورة الموضوع، فعلى كلّ حال له سمت الموضوعيّة لبّا لكن نتيجة تبعّض الصفقة اشتراك الخيار في صورة النقيصة بين المشتري و البائع، و عدم اختصاصه بالأوّل لاشتراك التبعّض بينهما و عدمه رأسا من شي ء من الطرفين في صورة الزيادة، فإنّ المبيع عشرة أمنان بعشرة دنانير مثلا فإذا ظهر أحد عشر فلا بدّ من ردّ المنّ الواحد و لا تبعّض للمبيع كما هو واضح، فما يظهر منهم في هذا الباب من اختصاص الخيار في الأوّل

بالمشتري و في الثاني بالبائع يظهر كونه مبنيّا على جعل المقام من تخلّف الوصف و لكنّه مناف مع بيانهم في باب الشروط على جعل المقام من تخلّف الجزء.

[المسألة الخامسة في حكم بيع الثوب و الأرض مع المشاهدة مع عدم المسح]

مسألة قال في الشرائع: يجوز بيع الثوب و الأرض مع المشاهدة و إن لم يمسحا، و لو مسحا كان أحوط لتفاوت الغرض في ذلك و تعذّر إدراكه بالمشاهدة، و عن التذكرة: لو باع مختلف الأجزاء مع المشاهدة صحّ كالثوب و الدار و الغنم إجماعا، و عن التحرير التصريح بجواز بيع قطيع الغنم و إن لم يعلم عددها.

و استشكل شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بثبوت الغرر غالبا مع جهل أذرع الثوب و عدد قطيع الغنم، نعم ربّما يتّفق تعارف عدد خاص في أذرع بعض طاقات الكرابيس، لكنّ الاعتماد على هذا من حيث كونه طريقا إلى عدد الأذرع نظير إخبار البائع، و بالجملة المعيار هنا دفع الغرر الشخصي، إذ لم يرد هنا نصّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 277

بالتقدير ليحتمل إناطة الحكم به و لو لم يكن غرر كما استظهرناه في المكيل و الموزون.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: يمكن أن يكون المراد بكفاية المشاهدة الإيجاب الجزئي يعني منع مراعاة رفع الغرر، فإنّه كما يرتفع بتعيين عدد الأذرع في الثوب كذلك يرتفع بالعلم بوفائه لقبائين مثلا لا أزيد و لا أنقص و لو مع تردد ذرعه بين الزائد و الناقص، و كذا في الأرض كما يرتفع الغرر بتعيين المساحة يرتفع أيضا بتعيين أنّها وافية لزراعة منّ من الحنطة مثلا لا أزيد و لا أنقص و لو مع تردّد المساحة بين الزائد و الناقص، و كذا في قطيع الغنم كما يرتفع بتعيين العدد يرتفع بالعلم بأنّ ما يحويه المحوطة

الخاصّة يكفي لطعام أيّ عدد من النفوس و لو مع تردّده بين الزائد و الناقص، و هذا نظير ما قلنا في المكيل و الموزون من إمكان رفع الغرر بغير طريق أحد التقديرين، غاية الأمر منعنا منه فيهما النصوص الخاصّة، و المفروض انتفائها في المقام، فإن كان المقصود إثبات عدم لزوم التقدير في ما ذكر في قبال المكيل و الموزون كان حقّا، و إن كان المقصود الإيجاب الكلّي فمن الواضح ورود الإشكال عليه.

[المسألة السادسة في بيع بعض من جملة متساوية الأجزاء و فيها وجوه]
[الوجه الأول أن يريد بذلك البعض كسرا واقعيّا من الجملة مقدّرا بذلك العنوان]

مسألة بيع بعض من جملة متساوية الأجزاء كصاع من صبرة مجتمعة الصيعان أو متفرّقتها أو ذراع من كرباس أو عبد من عبدين و شبه ذلك يتصوّر على وجوه:

الأوّل: أن يريد بذلك البعض كسرا واقعيّا من الجملة مقدّرا بذلك العنوان، فيريد بالصاع مثلا من صبرة بكون عشرة أصوع عشرها و من عبد من عبدين نصفهما، و لا إشكال في صحّة ذلك و لا في كون المبيع مشاعا في الجملة، و لا فرق بين اختلاف

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 278

العبدين في القيمة و عدمه، و لا بين العلم بعدد صيعان الصبرة و عدمه؛ لأنّ الكسر مقدّر بالصاع فلا يعتبر العلم بنسبته إلى المجموع

نعم لو اختلف قيمة العصيان و لم نعلم نسبة الجيّد إلى الردي ء يلزم الغرر، فيعتبر في هذه الصورة العلم بهذه النسبة و لو لم يعلم العدد.

[الوجه الثاني أن يراد به بعض مردّد بين ما يمكن صدقه عليه من الأفراد المتصوّرة في المجموع]

الثاني: أن يراد به بعض مردّد بين ما يمكن صدقه عليه من الأفراد المتصوّرة في المجموع نظير تردّد الفرد المنتشر بين الأفراد و هذا يتّضح في صاع من الصيعان المتفرّقة، و لا إشكال في بطلان ذلك مع اختلاف المصاديق في القيمة كالعبدين المختلفين، لأنّه غرر لأنّ المشتري لا يعلم بما يحصل في يده

و هذا مبنيّ على أنّ الجهل في مقام الوفاء يوجب الغرر و إلّا فلا جهل في مرحلة الإنشاء؛ لأنّ متعلّقه أحد الشيئين المعلومين و هو معنى مبهم غير معيّن، و لكن حيث لا يعلم أنّ هذا المعنى على أيّ الشيئين يطبّق يحصل الغرر من هذه الجهة، فالغرر هنا مثل الغرر في مورد الجهل بالقدرة على التسليم.

و أمّا مع اتّفاقها في القيمة كما في الصيعان المتفرّقة فالمشهور أيضا كما عن كلام بعض المنع، بل عن الرياض نسبته

إلى الأصحاب، و عن المحقّق الأردبيلي- قدّس سرّه- أيضا نسبة المنع عن بيع ذراع من كرباس مشاهد من غير تعيين أحد طرفيه إلى الأصحاب.

و استدلّ على المنع بوجوه كلّها مخدوشة، الأوّل: بالجهالة التي يبطل معها البيع إجماعا، و فيه- بعد تسليم الكبرى- ما عرفت من منع الصغرى و أنّ المقام من باب الإبهام و اللاتعيينيّة الواقعيّة و لا ربط له بالجهالة.

الثاني: بأنّ الإبهام في البيع مبطل له لا من حيث الجهالة، و فيه: أنّ الكبرى ممنوعة؛ إذ لا نسلّم كون الإبهام و لو مع قطع النظر عن الغرر يوجب الفساد.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 279

الثالث: بلزوم الغرر، و فيه: أنّه لا خطر أصلا في بيع أحد العبدين المتساويين من جميع الجهات، كيف و لو كان هذا غررا لكان كذلك على فرض إرادة الكلّي في المعيّن، فما وجه الفرق بين المقامين كما يظهر منهم؟

الرابع: بأنّ الملك صفة وجوديّة محتاج إلى محلّ تقوم به كسائر الصفات الموجودة في الخارج، و أحدهما على سبيل البدل أمر انتزاعيّ من أمرين معيّنين و ليس له واقع في الخارج حتّى يقبل الاتّصاف بالصفات مثل السواد و الحموضة و منها الملكيّة، فلا يقبل الاتصاف بها أيضا مثل سائر الصفات.

و فيه: أوّلا: أنّ هذا المعنى بعينه موجود في الكسر المشاع، إذ ليس لعنوان النصف المشاع في الجملة واقع في الخارج، بل ليس إلّا انتزاعا ذهنيّا، و ما في الخارج ليس إلّا الأجزاء المعيّنة الغير الساري إلى غيرها، و المشاع ما كان ساريا في الكلّ فلا وجه للفرق بين المقامين.

و ثانيا: أنّ أمر الملك أوسع من الصفات الوجوديّة المتأصّلة كالحموضة و السواد بل و كذا من الأمور الاعتباريّة.

توضيح ذلك: أنّ الأعراض حسب ما

قسمها أهل المعقول منحصرة في ثلاثة لا رابع لها، الأوّل: أن يكون ظرف العرض و الاتّصاف هو الخارج كالسواد و الحموضة، و الثاني: أن يكون ظرفهما الذهن كالكليّة للإنسان، و الثالث: أن يكون ظرف العروض هو الذهن و ظرف الاتّصاف هو الخارج كالفوقيّة و الأبوّة، و هذا الأخير يسمّى بالأمور الاعتباريّة، و الأوّل بالأمور المتأصّلة. فعلم أنّ كلّا من الأمور المتأصّلة و الاعتبارية يعتبر كون المتّصف بها و المعروض لها أمرا خارجيّا، فلو لم يكن شي ء خارجيّ فلا سواد و لا فوقيّة و لا أبوّة و لا عبوديّة إلى غير ذلك من الاعتبارات. و أمّا الملك فقد يكون المتّصف به أمرا خارجيا كملك الأعيان

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 280

الخارجيّة، و حينئذ حاله حال الأمور الاعتباريّة و يكون المتّصف به صورة ذهنيّة حاكية عن الخارج كملك الكلّي في الذمّة حيث إنّه لا يتعلّق ملكه بشي ء من الأفراد الخارجيّة، و ليس هذا من قبيل القسم الوسط أعني كليّة الإنسان مثلا و إلّا لم يستحقّ أمرا خارجيا، فليس إلّا أنّ العرف يتخيّلون للكلّي وجودا خارجيّا و يرتّبون على هذا الوجود التخيّلي أثر الواقعي من الملكيّة، و الشارع أيضا لم يردعهم.

و على كلّ حال هذا المعنى في المقام متحقّق كما في المشاع، إلّا أن يفرّق بأنّ ملك المشاع يعتبره العرف و لكن لا يعتبرون ملك الأحد البدلي و لكنّه منقوض بباب الوصيّة حيث صرّحوا بصحّة الوصيّة بأحد الشيئين بل أحد الشخصين و نحوهما، هذا.

و قد ينكر وجود هذا القسم و أنّه راجع إلى القسم الأخير أعني الكلّي، و ذلك لأنّ مفهوم الأحد المقيّد بالخصوصيات لا يصير جزئيا، و لا يسقط عن قابليّة الانطباق، و لكنّه مدفوع بما

في الأصول من أنّ هذا المفهوم الحاكي لا شكّ في كونه كليّا، لكنّ المحكي به جزئي، و لهذا لو وضع لفظا بإزاء الجزئي الداخل تحت الإنسان مثلا كان الموضوع خاصّا مع أنّ عنوان الجزئي الداخل تحت الإنسان كلّي، و سرّه أنّ المحكيّ خاص و جزئي، و أمّا قابلية التطبيق فلا يلائم الكليّة؛ لأنّ ما يلازمها هو كون القابليّة لأجل وجود السعة في ذات المعنى حتّى يقبل الاحتواء على كثيرين، و أمّا في المقام فليس في المعنى سعة؛ لأنّه ينطبق على الممتاز و ما كان كذلك لا يقبل أن يحتوي على الممتازين، نعم يمكن صدقه على كلّ منهما على نحو التبادل و هو غير الكلّية بل جزئيّة مردّدة، و أمّا عدم وجود هذا المعنى بل عدم إمكان تحقّقه في الخارج فلا ينافي صحّة اعتباره في الذهن، كما أنّ الكسر المشاع لا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 281

وجود له في الخارج بوصف الإشاعة مع أنّ له اعتبارا منشأ للآثار.

فالإنصاف عدم دليل معتبر على المنع فالدليل هو الإجماع لو ثبت، و قد عرفت من غير واحد نسبته إلى الأصحاب إلّا أن يوهن بوجود التعليلات في كلماتهم الموجب لاحتمال استنادهم إلى أمثالها.

[الوجه الثالث أن يكون المبيع طبيعة كليّة منحصرة المصاديق في الأفراد المتصوّرة في تلك الجملة]

الثالث: من وجوه بيع البعض من الكل أن يكون المبيع طبيعة كليّة منحصرة المصاديق في الأفراد المتصوّرة في تلك الجملة

بمعنى أنّ المبيع هو الذي يصير محمولا في قولك: هذا الصاع صاع من هذه الصبرة، فكما أنّ المحمول مغاير لا محالة مع الموضوع- لا بمعنى أنّ الحمل بلحاظ المفهومين لعدم اتّحادهما بل المحمول هو مفهوم صاع هذه الصبرة بلحاظ الوجود الخارجي فلهذا لا يسري عرض المحموليّة منه إلى ما يتّحد معه من الخاص أعني الموضوع- كذلك وقع

هذا المعروض للمحموليّة في ملاحظة تعريته عن هذا الخاص و ذاك الخاص معروضا للملكيّة بلحاظ الوجود الخارجيّ.

ففي الحقيقة المعروض هو الصورة الذهنيّة لكن بلحاظ حكايتها عن الخارج، و للطبيعة في الخارج واقعيّة، غاية الأمر لا بوصف الجامعيّة و الانطباق و ليس هو في الخارج عين الشخص و إن كانا متّحدين وجودا، و لهذا قد يستند الأمر إلى نفس الطبيعة من دون دخالة للخصوصيّة، مثلا الحرارة من أثر جامع النار من غير مدخليّة الهيئة الخاصّة و سائر التشخّصات الموجودة في النار الشخصيّة في التأثير أصلا فما هو الموضوع للأثر صار موضوعا للملكيّة هنا.

لا يقال: فعلى هذا يكون الحال في الكلّي في الذمّة أيضا كذلك فلا وجه لتعلّقه بالذهن، و بالجملة لا بدّ إمّا من القول بأنّ المقام أيضا من قبيل ذلك فيكون الملك ثابتا في الذمّة غير مرتبط بالخارج، و ذلك لأنّ قيد كونه في دائرة هذه الأفراد الخاصّة لا يخرجه عن الكليّة، غاية الأمر يصير كليّا أضيق، و إمّا من القول

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 282

بالعكس فما وجه الفرق؟

لأنّا نقول: الفرق بعد اشتراك المقامين في أخذ الطبيعة المعرّاة عن الخصوصيّة مع قيد الوجود الخارجي موضوعا أنّ الوجود المأخوذ في المقام حقّ الوجود و واقع الوجود، و أمّا في ذلك المقام فقد نزل كون عهدة البائع معرضا للخروج منه و قابلًا للاستيفاء عنه بمنزلة الوجود التحقيقي كما نعتبر عمل الأجير مع كونه موجودا في المستقبل بملاحظة وجود معدّاته و هو قابليّة الفاعل لاستيفاء العمل منه موجودا فعليّا فيعتبر الماليّة فيه و يبذل بإزائه المال، ثمّ الفرق بين هذا و بين النكرة هو الفرق بين الطبيعة المقيّدة بالوحدة و الموجودة في هذه الدائرة بما هو

هو و بالحمل الأوّلي و بين ما هو مصداق لهذه الطبيعة و يحمل عليه بالحمل الشائع.

ثمّ الظاهر صحّة بيع الكلّي بهذا المعنى كما عن صريح جماعة منهم الشيخ و الشهيدان و المحقّق الثاني و غيرهم بل استظهر شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- عدم الخلاف فيه، و أمّا ما أورد من لزوم الإبهام و الغرر فقد عرفت منعه في النكرة، لأنّ الكلام هنا في ما إذا كان الأفراد متساوية في الأوصاف و إن كان ربّما يتوهّم من عبارة شيخنا- حيث فرّق في النكرة بين صورة التساوي و الاختلاف و سوّى بينهما في الإشاعة و سكت هنا- أنّه عمّم الحكم بالصحّة هنا في الصورتين لكنّه على خلاف الواقع، فإنّ مقصوده الحكم من حيث الكليّة في قبال النكرة بعد الفراغ من جهات أخرى، ألا ترى أنّه يعتبر تساويها في الجنس، فلو باع الكلّي بين صاع حنطة و صاع بطيخ لا يصحّ، فإنّ الكلّي و إن كان معلوما لكن بحسب مقام التسليم يلزم الغرر، فكذلك الحال في الأوصاف المختلفة باختلافها القيمة بلا فرق، و أمّا عدم معهوديّة ملكيّة الكلّي بهذا المعنى فمنقوض بباب الوصيّة و الإصداق.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 283

[المسألة السابعة حكم ما لو باع صاعا من صبرة و لم يكن في اللفظ ما يعيّن أحد الاحتمالات الثلاثة و دار الأمر بين الإشاعة و الكلي]
اشارة

مسألة لو باع صاعا من صبرة

و لم يكن في اللفظ ما يعيّن أحد الاحتمالات الثلاثة و كان الأمر دائرا بين أحد الوجهين الصحيحين أعني الإشاعة و الكلّي فهل ينزّل على الإشاعة أو على الكلّي؟ الظاهر الثاني، لأصالة الإطلاق، فإنّ إرادة الكلّي لا يحتاج إلى مؤنة أزيد من الطبيعة و الوحدة و الوجود، و غيره يحتاج إلى هذا و زيادة قيد الإشاعة، فالمتعيّن الحمل على الأوّل عند عدم القرينة الصارفة.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف- ذكر لثمرة الوجهين

أمورا:

أحدها: كون اختيار التعيين بيد البائع بناء على الكلّي، فليس للمشتري اقتراح الخصوصيّة على البائع، لأنّه إنّما ملكه الطبيعة فبملاحظة عرائها عن كلّ من هذا الخاص و ذاك الخاص فيبقى الخاصان في ملكه، فمطالبة المشتري لكلّ من الخاصّين مطالبة بغير حقّ، و أمّا على الإشاعة فلا اختيار لأحدهما، لحصول الشركة فتحتاج القسمة إلى التراضي.

ثانيها: أنّه لو تلف بعض الجملة و بقي مصداق الطبيعة انحصر حقّ المشتري فيه، لأنّ الطبيعة لا تنعدم إلّا بانعدام جميع الأفراد، و التالف و أن كان قابلًا لمصداقيّة تلك الطبيعة المملوكة إلّا أنّه لم يصر ملكا فعليّا للمشتري بل كان كذلك للبائع، و بعد التلف خرج عن قابليّة التطبيق فانحصر الفرد القابل في الثاني فيتعين فيه قهرا، و هذا بناء على الكلّي لا الإشاعة، و لكنّه ما دام لم يعيّن البائع حقّ المشتري في التالف قبل تلفه ممّا لا إشكال فيه.

و أمّا لو عيّن و لم يقبضه المشتري ثمّ تلف فهل التلف صار واردا على ملك المشتري أو لا؟ المسألة مبنية على أنّ من ملك كلّيا على أحد فلا إشكال أنّ اختيار

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب البيع (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

كتاب البيع (للأراكي)؛ ج 2، ص: 284

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 284

التعيين بيد المملوك عليه، و لكن هل يشترط قبض المالك الجديد في تشخّص ذلك الكلّي في ضمن الفرد الخاص أو أنّه بمحض تعيين البائع و عزله ذلك الخاص يتشخّص الكلّي فيه؟ صريح شيخنا المرتضى اعتبار القبض فيكون في المثال حقّ المشتري متعيّنا في الباقي.

و لكن شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته- رجّح عدم الاعتبار نظرا إلى أنّ ملك الكلّي قد

حصل بالإيجاب و القبول، و هذا الذي يعيّنه البائع أيضا مصداق لذلك الكلّي، فهو عند إقباضه و قبل حصول القبض إنّما يوقع الدفع و الإقباض على مال الغير فيصدق عليه أنّه مشغول بدفع مال الغير إليه لا أنّه مشغول بتصيير المال مالا للغير، و القابض أيضا يوقع القبض على مال نفسه لا أنّه يوقعه على مال الغير و في الرتبة المتأخّرة يصير مالا لنفسه.

و حلّ المقام أنّ وجه عدم حقّ اقتراح الخصوصيّة للمشتري كونها متعلّق حقّ للبائع، فإذا فرض رفعه اليد عن حقّه، و المفروض أنّ المقتضي بالنسبة إلى الكلّي المنطبق عليه متحقّق، فهذا موجب لتعيين هذا الفرد من بين سائر الأفراد ملكا للمشتري لحصول العلّة التامّة بالنسبة إليه دون الباقي. و لهذا نقول بتعيّن الغرر قهرا عند انحصار الفرد فيه و تلف غيره فإنّه حينئذ لا حاجة فيه إلى تعيين و إقباض قطعا، و وجهه أنّ حقّ البائع ساقط عن هذه الخصوصيّة فينطبق الكلّي عليه قهرا، و على هذا فيكون في المثال حقّ المشتري متعيّنا في التالف فيصير من أفراد التلف قبل القبض.

و يؤيّد هذا أيضا أنّه لو باع صاعا لمشتر آخر بعد ما باع صاعا للمشتري الأوّل و أقبض صاع المشتري قبل إقباض المشتري الأوّل فتلف الجميع إلّا ما أقبضه للمشتري الثاني فعلى القول بأنّه ليس للبائع تعيين الكلّي لا بدّ من القول

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 285

برجوع المشتري الأوّل إلى الثاني، و لا أظنّ أن يلتزموا به، فإذا لم يكن له الرجوع إليه فمعناه جواز أن يعيّن حقّه في الباقي مع عدم حضوره و اطّلاعه و قبضه؛ فإنّه لو لم يجز له ذلك فليس له أيضا ما يستلزم التعيين و

هو النقل إلى المشتري الثاني.

و على كلّ حال فاللازم التعرّض لحكم هذه المسألة مع قطع النظر عن حكم التعيين، فنقول: لو باع صاعا من شخص آخر بعد ما باع صاعا من المشتري الأوّل فتلف إلّا صاعا واحدا فهل هو للمشتري الأوّل أو له و للثاني بالاشتراك؟

وجه الثاني أنّه كان قبل التلف قابلًا لتطبيق كلّ من الكلّيين عليه و لم يحدث ما يوجب تغيير هذه القابليّة عنه.

و لكنّ الحقّ- كما قاله شيخنا المرتضى و شيخنا الأستاذ- هو الأوّل، و وجهه أنّ الصاع المبيع هو الطبيعة باعتبار صرف الوجود، و الطبيعة بهذا الاعتبار كما لا يمكن تعلّق الطلبين به كذلك لا يمكن تعلّق الملكين به، فكما أنّه لو تعلّق طلب بالطبيعة بهذا الاعتبار ثمّ تعلّق طلب مستقلّ غير تأكيد الأوّل بها أيضا لا بدّ من إرجاع الثاني إلى الوجود الزائد على صرف الوجود، كذلك في المقام أيضا إذا تعلّق ملك المشتري الأوّل بصرف الوجود، فالذي يبقى للمالك من الصبرة المشتملة على عشرة صاع مثلا تسعة صيعان كلّية معنونة بعنوان الزائد على صرف وجود الصاع الواحد. و حينئذ فالتلف إذا ورد يرد على الزائد دون صرف الوجود، و لهذا نقول في باب الخمس بورود التلف على الربح دون رأس المال.

و على هذا فإذا باع البائع صاعا كليّا من المشتري الثاني أيضا فهو إنّما نقل من تلك الصيعان المعنونة بعنوان الثاني بعد صرف الوجود، فإذا ورد التلف على الجميع إلّا واحدا تعيّن فيه صرف الوجود و يصير التالف هو الزائد عليه الذي يكون ملك المشتري الثاني فيه فينتفي ملكه كملك البائع بانتفاء الموضوع بخلاف

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 286

المشتري الأوّل.

و لازم هذا أنّه ليس للبائع تسليم صاع

المشتري الثاني قبل تعيين صاع الأوّل؛ لأنّه إنّما ملك الصاع المعنون بعنوان الآخر و هذا الذي دفعه إليه ليس صاعا آخر، لفرض عدم تعيّن صاع الأوّل، نعم لو كان من قصده و لو إجمالا الأداء من الباقي كان هذا تعيينا لحقّ الأوّل في الباقي فيتّصف المدفوع بالآخريّة، و أمّا لو لم يكن من قصده الأداء أصلا عصيانا فهذا الذي يدفعه إلى الثاني صاع أوّل لا صاع آخر لعدم تعقّل تقدّم الوجود الآخر على الوجود الأوّل.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- قال في هذا المقام: إنّه إن أقبض البائع مجموع الصبرة ليكون بعضه وفاء و بعضه أمانة حصلت الشركة لحصول ماله في يده و عدم توقّفه على تعيين و إقباض حتى يخرج التالف عن قابليّة تملّك المشتري له فعلا و ينحصر حقّه في الثاني، فحينئذ حساب التالف على البائع دون المشتري ترجيح بلا مرجّح فيحسب عليهما.

و الحاصل: أنّ كلّ جزء معيّن قبل الإقباض قابل لكونه كلّا أو بعضا ملكا فعليّا للمشتري، و الملك الفعلي له حينئذ هو الكلّي الساري، فالتالف المعيّن غير قابل لكون جزأه محسوبا على المشتري؛ لأنّ تملّكه لمعيّن موقوف على اختيار البائع و إقباضه، فيحسب على البائع بخلاف التالف بعد الإقباض فإنّ تملّك المشتري لمقدار منه حاصل فعلا لتحقّق الإقباض، فنسبة كلّ جزء معيّن من الجملة إلى كلّ من البائع و المشتري على حدّ سواء، انتهى كلامه- زيد في علوّ مقامه.

و حاصله: أنّه يتبدّل ملكه إلى النكرة، فصاع واحد نكرة ملك المشتري و تسعة صيعان نكرات ملك البائع، فالتالف لا وجه لترجيح كونه بتمامه من أحد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 287

المالكين دون الآخر فلا بدّ من التوزيع، هذا.

و لكنّك خبير بأنّ

مقتضى ما ذكرنا من وجه تقدّم البائع برجوع التلف إليه و أنّه مالك للصاع الآخر الزائد على عنوان صرف الوجود أن لا يتغيّر الحال بعد قبض المجموع أيضا، فإنّه و إن كان يتعيّن الكلّي في ضمن خصوصيّة ما، إلّا أنّه مع وصف كونه صرف الوجود و كون ملك البائع زائدا عليه، فالنكرة المملوكة للمشتري من النكرة المنطبق عليها صرف الوجود، و النكرة المملوكة للبائع هو النكرة المنطبق عليها ثاني الوجود، فاللازم أيضا تقديم البائع بالتلف.

و من هنا يتّضح الحال في بيع النكرة بناء على عدم تسليم الإجماع على بطلانه فهو في هذه النتيجة متّحد مع الكلّي، هذا، بل يمكن منع كونه نكرة بل هو باق على كلّيته كما كان قبل القبض.

و تحقيق المقام أنّ بيع الصاع على وجه الكلّي يتصوّر على ثلاثة وجوه، الأوّل: أن يكون المبيع صرف الوجود الخارق للعدم الذي يتوقّف فناؤه على فناء تمام صيعان الصبرة، و على هذا فتمام ما تقدّم من الكلام جار، و إن شئت التوضيح للمقام فلاحظ التاجر بمأتين إذا ربح مائتين و صار ما عنده أربعمائة ثمّ تلف مائتان فهل التلف وارد على رأس ماله أو على خصوص الربح؟ لا شبهة في تعيّن الثاني عندهم، و المقام نظير ذلك فإنّ ما به قوام العشرة الصيعان مثلا هو الصاع الواحد الذي يصدق عليه صرف الوجود الخارق للعدم.

الثاني: أن يكون المبيع معنونا بما زاد على هذا الواحد الذي به القوام و هو ما يكون به قوام التسعة الصيعان أو تمام التسعة، و على هذا يكون الحال على عكس ما تقدّم فلو تلف إلّا واحدا كان للبائع.

الثالث: أن يكون المبيع هو الصاع الملحوظ في عرض سائر الصيعان، و على

كتاب

البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 288

هذا يشتركان في التالف و الباقي لعدم لزوم الترجيح بلا مرجّح، و على كلّ واحد من هذه الوجوه لا فرق بين ما قبل القبض و بين ما بعد قبض تمام الصبرة فالمبيع يكون على حاله الذي كان قبل القبض، نعم فائدة هذا القبض عدم انفساخ البيع بتلف تمام الصبرة بعده، هذا.

و على ما ذكرنا يسهل الأمر في مسألة الاستثناء التي حكموا فيها بتوزيع التلف على المالكين حيث حكموا بأنّه لو باع ثمرة شجرات و استثنى أرطالا معلومة فخاست الثمرة يسقط من المستثنى بحسابه، فإنّه يقال: إنّ القضيّة و إن كانت بحسب الصورة و الإرادة الاستعماليّة ظاهرة في تعلّق الحكم بالجميع أوّلا ثمّ إخراج المستثنى عن تحت الحكم فيكون الحكم ثابتا على ما زاد على المستثنى و ما بقي بعد إخراجه و إفرازه، و لكنّ الظاهر عرفا في مقام كشف المراد الجدّي عرضيّة الأمرين أعني إيراد الإثبات في المستثنى منه و النفي في المستثنى أو بالعكس في عرض واحد.

فلو قال: أكرم العلماء إلّا زيدا فأهنه، يعلم من هذا الكلام أنّه طالب لإكرام ما سوى زيد و طالب لتوهينه في عرض واحد، لا أنّه تعلّق طلبه أوّلا على من عدا زيد ثمّ بتوهين زيد، فكذلك نقول في المقام إذا قال: بعتك تمام هذه الصبرة إلّا صاعا، فليس الظاهر منه إلّا التشقيق بين الصيعان في عرض واحد، فحكم بإخراج تسعة و إبقاء واحد على ملك نفسه لا أنّه باع التسعة بعنوان كونها الباقي بعد الصاع و الزائد عليه حتى يكون التلف واردا على ما زاد على الصاع الباقي على ملكه.

فإن قلت: في ما إذا باع صاعا من الصبرة أيضا يكون الظاهر هو التشقيق

و إخراج الواحد و إبقاء غيره، فما وجه التفكيك بالتوزيع في مسألة الاستثناء

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 289

و اختصاص التلف بالبائع في مسألة البيع.

قلت: الذي نجزم به إنّما هو استظهار العرضيّة في مسألة الاستثناء، و أمّا مسألة البيع فنحن لا ندّعي في مقام الاستظهار شيئا و إنّما قلنا إنّ في مقام الثبوت ثلاثة تصوّرات.

و حاصل ما قلنا إنّ صرف وجود الصاع الواحد الموجود في ما بين العشرة أصوع باق ما دام واحد من العشرة باقيا، فلو فرض أنّ لوجود هذا الواحد في الدار مثلا خاصيّة طبيعيّة بحيث كان التسعة الأخر زيادة في تأثير ذلك الأثر فهذه الخاصيّة مرتّبة ما دام من العشرة واحد موجودا في الدار، و هذا الواحد نسبته إلى كلّ من العشرة على نسق واحد، يعني كلّ منها على فرض وحدته و عدم انضمام ما عداه يترتّب عليه تلك الخاصيّة و إن كان في حال وجود الكلّ في الدار يقوم الواحد الصرف بتمام الأفراد العشرة.

لا يقال: فعلى هذا يكون الكلّ صرف الوجود، و بعبارة أخرى الكلّ خارق العدم الأزلي ففرض كون واحد من تلك الآحاد خارقا دون ما عداه لا وجه له. نعم مع التعاقب في الوجود يتعيّن الخارق في الأوّل و لكنّ المفروض عدم التعارف و كونها موجودة في الدار دفعة، ألا ترى أنّه لو طلب موليان من عبدين لهما إتيان صرف وجود الرجل الواحد فأتى كلّ عبد برجل واحد من رجال الدنيا الذين يقوم صرف الوجود بهم في ذلك الوقت كان كلّ من الطلبين صحيحا و كلّ من العبدين آتيا بصرف الوجود.

لأنّا نقول: لا إشكال في ما فرضنا من المثال لتوضيح المقام، في كون الزيادة على الصاع الواحد لغوا

صرفا بلا تأثير أصلا، فالمؤثّر في ذلك المثال واحد لا يقبل التكرار و غير المؤثّر ما زاد عليه، و أمّا وجه عدم الانطباق على الكلّ أنّ الكلّي لم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 290

يوجد بعنوان الحنطة مثلا بل بعنوان الصاع و الصبرة كما أنّها مشتملة على الصاع تكون مشتملة على الزيادة أيضا بلا شبهة فتمام الصبرة صاع و زيادة لا انّها صاع فقط نظير ما إذا أدخل في الدار الإنسان و البقر دفعة.

ثمّ هذا ما دام تمام الصيعان في الدار، فإذا أخرج الجميع فلنا تعيين الصرف في كلّ منها بإدخاله في الدار.

فنقول: افرض مقام المؤثّر مملوك المشتري و مقام غير المؤثّر مملوك البائع، فلهذا يطول ملك المشتري بطول العشرة و ينقضي ملك البائع بانقضاء التسعة كما هو الحال في المؤثّر و غير المؤثّر في المثال، و بهذا يتّضح حال ما عرفت من اعتبار تعيين مال المشتري الأوّل قبل الثاني في مقام الأداء، فإنّه لو فرض في المثال خاصيّة طبيعيّة لوجود الصاع الزائد على الواحد الصرف في الدار بقيد الزيادة فأخرجت من تلك الدار فادخل واحد فيها لا يمكن ترتّب هذه الخاصيّة على هذا الداخل و إنّما المترتّب عليه خاصيّة صرف الوجود، و خاصيّة الوجود الزائد تتأخّر إلى إدخال الصاع الثاني.

و كلمات شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بعضها يستفاد منه هذا المعنى و هو قوله في ما لو باع مشتريا آخر بعد المشتري الأوّل و بقي صاع واحد:

إنّه كان للأوّل؛ لأنّ الكلّي المبيع ثانيا إنّما هو سار في مال البائع و هو ما عدا الصاع من الصبرة فإذا تلف ما عدا الصاع فقد تلف جميع ما كان الكلّي فيه ساريا فقد تلف المبيع الثاني قبل القبض،

انتهى.

و لكن تعليله حساب التالف على البائع دون المشتري بعدم قابليّة التالف لملكيّة المشتري بخلاف التالف بعد الإقباض، فإنّ تملّك المشتري لمقدار منه حاصل فعلا ينافي هذا المعنى، فإنّ مقتضاه التعليل بعدم كون التالف في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 291

كلا الصورتين مصداقا لعنوان كلّي المشتري أعني خارق العدم، و انطباق عنوان كلّي البائع عليه أعني ما زاد على الخارق.

و ممّا ينطبق من كلامه على هذا المعنى أيضا قوله في أواخر كلامه في جواب إن قلت حيث يورد على نفسه بأنّ مال البائع بعد بيع الصاع ليس جزئيّا حقيقيّا متشخّصا في الخارج، فيكون كلّيا كنفس الصاع، فيجيب بقوله:

قلت نعم و لكن ملكيّة البائع له ليس بعنوان كلّي حتّى يبقى ما بقي ذلك العنوان

إلى آخر ما ذكره فراجع كلامه.

و مقصوده- قدّس سرّه- أنّ ملك البائع يصير بإخراج صاع المشتري كليّا قهرا يعني أنّه لما أخرج الصاع الواحد الكلّي فصار غيره معنونا بالزائد على الصرف، و هذا بخلاف مسألة الاستثناء، فإنّ المالين ملحوظان معا، فاللازم هو الاشتراك.

و أمّا وجه ما ذكره من صيرورة ملك البائع كليّا أنّه لا يتصوّر أن يكون تمام الجزئيات ملكا له مع خروج صاع واحد عن ملكه، فكما إذا قال المتكلّم: رأيت العشرة إلّا واحدا فلا محالة رأى التسعة، فكذا في المقام لا يبقى ملكيّته على جميع الأشخاص الخاصّة بحالها، ألا ترى أنّ المأمور بإتيان واحد من عشرة رجال بنحو الكلّي لا يبقى على حاله قبل الأمر من التوسعة و المختاريّة بالنسبة إلى إتيان كلّ من العشرة و عدمه؟

و المحصّل أنّ الحنطة مثلا و إن كان يصدق على تمام العشرة أصوع و لكنّها مقدّرة بقدر الصاع لا يصدق على الكلّ لا محالة،

فالصبرة مشتملة على الصاع و زيادة، فالمنتقل إلى المشتري مقدار الصاع و الباقي للبائع ما زاد عليه، فالكلّية الطارئة على ملك البائع بتبع إخراج كلّي المشتري، إلّا أنّه اعتبر كلّ من الملكين

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 292

كلّيا كما في مسألة الاستثناء، هذا حاصل ما استفدناه من شيخنا الأستاذ- أدام اللّه أيّام إفاداته- مع بعض توضيح من نفسي الحقيرة، و قد نقل هو- دام ظلّه- ذلك أيضا عن مجلس بحث سيّده الأستاذ- طاب ثراه.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- ذكر توجيهين لفرق العلماء- رضوان اللّه عليهم- بين المقامين، أحدهما: و هو الثاني في كلامه ما أشرنا إليه من كون كلّ من المالين معتبرا و ملحوظا كليّته في عرض الآخر في تلك المسألة دون المقام، فعلى هذا يحصل الإشاعة و الاشتراك من أوّل الأمر.

و الثاني: أن يكون بناؤهم على الإشاعة من حين التلف السماوي مع عدمه قبل التلف، فالمسألتان مشتركتان في التنزيل على الكلّي دون المشاع، و لكنّ الفرق من حيث بعض الثمرات و هو كون التلف محسوبا عليهما، و يشعر و ينبئ عن إراداتهم ذلك أعني عدم الإشاعة من الأوّل فتوى جماعة منهم بأنّه لو فرّط المشتري وجب أداء المستثنى من الباقي، و لو كان مشاعا لم يختص ذلك بصورة التفريط، بل الحكم ضمانه مطلقا لعدم جواز تصرّف أحد الشريكين في المال المشترك بدون إذن الآخر.

و يؤيّد هذا أيضا استمرار السيرة في صورة الاستثناء على استقلال المشتري في التصرّف و عدم المعاملة مع البائع معاملة الشركاء، ثمّ قال- قدّس سرّه-: لا يحضرني وجه واضح لهذا الفرق إلّا دعوى أنّ المتبادر من الكلّي المستثنى هو الكلّي الشائع في ما يسلم للمشتري لا مطلق الموجود وقت

البيع، انتهى كلامه- رفع في الخلد مقامه.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاضاته العالية-: يحتمل كلامه وجهين، الأوّل: أنّ مقدار تمام الثمرة حيث يكون معلوما بالتخمين كما لو عيّن بمائة رطل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 293

فاستثناء عشرة أرطال مثلا ينصرف إلى استثناء العشر لا بنحو الكسر المشاع بل بنحو الكلّي في المعيّن، و من المعلوم أنّ العشر كلّما ينتفي من الثمرة شي ء يصير مضيّق الدائرة فهو من المائة عشرة و من الخمسين خمسة و هكذا، و هذا إذا أضيف إلى ما يسلم للمشتري لا إلى الموجود وقت البيع.

الثاني: أن يكون نفس مقدار العشرة أرطال بما هو هذا المقدار مستثنى لا بإرجاعه إلى العشرة مثلا، و لكن تقييده بما يسلم بمنزلة الاشتراط لورود التلف عليه بحسابه، هذا.

و قد وقع من بعض الأساطين المحشّين لهذا المقام في توجيه كلام الشيخ ما هو خلاف صريح مرامه فراجع كلامه- أعلى اللّه مقامه-، عفى اللّه عن الزلل في القول و العمل.

فرعان
الأوّل: على المشهور من المنع في النكرة، لو اتّفقا على أنّهما أرادا غير شائع لم يصحّ البيع لاتفاقهما على بطلانه

و لو اختلفا فادّعى المشتري الإشاعة فيصحّ البيع و قال البائع أردت معيّنا، ففي التذكرة الأقرب قبول قول المشتري عملا بأصالة الصحّة و أصالة عدم التعيين، و استحسنه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- لو لم يتسالما على صيغة ظاهرة في أحد المعيّنين، و أمّا معه فالمنع هو الظاهر، و أصالة الصحّة لا تصرف الظواهر، قال: و أمّا أصالة عدم التعيين فلم أتحققها، انتهى.

أمّا وجه عدم صرف أصالة الصحّة للظاهر فلأنّه إمّا من قبيل الأصل المحكوم أو المورود للظاهر، و إمّا من قبيل الأمارة و لكن نحو أماريّة الاستصحاب عند بعض من اختصاص أماريّته بما إذا لم يكن أمارة أخرى، و الظاهر أماريّته

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 294

مطلقة،

فهما من قبيل المقتضيين التعليقي و التنجيزي المعلوم تقدّم التنجيزي، و أمّا وجه عدم تحقّق أصالة عدم التعيين فلما سيجي ء إن شاء اللّٰه تعالى في الفرع الثاني.

الفرع الثاني لو لم يبق من الصبرة إلّا صاع و ادّعى المشتري إرادة الكلّي ليكون مالكا لتمام الصاع، و البائع إرادة المشاع ليكونا شريكين فيه

فقد يقال بموافقة قول المشتري للأصل؛ لأنّ ملاحظة مهملة الصاع معلومة وجدانا و الشكّ في انضمام خصوصيّة زائدة و هي الإشاعة و الأصل يقتضي عدم انضمامها.

و الحقّ أن يقال: إن كان في البين لفظ و كان الشكّ في اتّصال القيد و عدمه فبناء العقلاء استقرّ على المعاملة معه معاملة العدم و يحرزون به حال المهملة، و أنّها محدودة بحدّ الإطلاق في ذهن المتكلّم فيحكمون في المقام بملكيّة الصاع بتمامه للمشتري، و في ما إذا قال المولى: أعتق الرقبة، و شكّ في قيد المؤمنة لسراية الوجوب إلى الكافرة.

و أمّا إذا لم يكن في البين لفظ أصلا أو كان و لم يحرز شي ء منه أصلا ففي باب التكاليف و إن اخترنا البراءة عملا بمعنى أنّ العبد ليس عليه بمقتضى عبوديّته سوى التحرّك بتحريك إرادة مولاه على مقدار العلم و إن كان شاكّا في تعلّق أمر مولاه بالمطلق أو بالمقيّد و لا يحرز بأصل أحد الحدّين، و لكن في هذا الباب نقول بأنّه لا يمكن تعيين محلّ الوضع و أنّه قائم بالمطلق أم بالمقيّد، و الإطلاق و إن كان عبارة عن عدم اللحاظ لا لحاظ العدم، و لكن مع ذلك لا يكفي استصحاب عدم اللحاظ الأزلي في الحكم على الموجود من لحاظ المهملة بأنّه محدود بهذا الحدّ العدمي؛ لوضوح ثبوت الأثر للمهملة المحدودة لا لوجودها و عدم القيد و لو منحازين.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 295

و بالجملة منشأ انتزاع وصف الإطلاق و إن كان نفس الذات و عدم القيد و

لكن انتزاعه مختصّ بما إذا أحرز الأمران وجدانا لا إذا أحرز أحدهما تعبّدا و الحكم بسراية التكليف إلى جميع الأفراد، و تملكية الصاع للمشتري في المقام فرع إحراز المنتزع أعني وصف الإطلاق. هذا، و قد يقال بموافقة قول البائع للأصل نظرا إلى أنّ شخص الصاع كان ملكه قبل البيع فالأصل بقاؤه بعده على ما كان، و فيه: أنّه معارض مع أصالة بقاء ملك المشتري كلّي الصاع الموجود في يد البائع، و على هذا فالمسألة من باب التداعي ظاهرا.

بقي الكلام في أقسام بيع الصبرة التي أنهاها في الروضة تبعا للمحكيّ عن حواشي الشهيد- قدّس سرّهما- إلى عشرة؛ لأنّها إمّا تكون معلومة المقدار و إمّا مجهولة، فإن كانت معلومة صحّ بيعها أجمع و بيع جزء منها مشاع و بيع مقدار كصاع يشتمل الصبرة عليه و بيعها كلّ صاع بدرهم لا بيع كلّ صاع منها بدرهم.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 296

[في ذكر فرعين آخرين يتعلقان بالمسألة]
اشارة

فرعان

الأوّل: لو اختلفا في التغيير فادّعاه المشتري فهل يقدّم قوله أو قول البائع؟

قد يقال بمطابقة قول البائع للأصل، و ذلك لاستصحاب ملكه الثمن بعد فسخ المشتري، نعم عمومات اللزوم لا يفيد لكون التمسّك بها بالنسبة إلى المقام تمسّكا بالعام في الشبهة المصداقيّة.

و قد يعارض هذا بأنّ اليد تشهد للمشتري بأنّه مالك ما في يده من الثمن، فإنّا لو رأينا المعاملة قد وقعت بين زيد و عمرو ثمّ رأينا المشتري يعامل مع ما جعله في تلك المعاملة ثمنا معاملة ملك نفسه يجوز لنا الشراء منه أو البيع منه بذلك الثمن لأنّ يده تشهد بأنّه عاد إلى ملكه بوجه صحيح.

فحينئذ نقول في المقام: من المحتمل تحقّق التغيير في المبيع و حدوث حقّ الخيار للمشتري و كان المفروض أنّه فسخ أوّل حين اطّلاعه حتى لا ينافي مع فوريّة خياره، و على هذا التقدير يكون الثمن في يده ملكا له، فاليد معيّن لهذا الاحتمال، لأنّه أمارة و الفرض انحصار المحتمل في هذا و عدم تحقّق سبب آخر للعود إلى المشتري فيكون حاكما على أصل عدم تحقّق التغيير لو كان جاريا و كذا على استصحاب الملك.

لا يقال: نعم و لكن لنا أن نستصحب عنوان اليد؛ لأنّها كانت قبل الفسخ يد أمانة فالأصل بقاؤها على ما كانت فلا شهادة فيها على الملك.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 297

لأنّا نقول: كلّا، كيف و نفس اليد مصدّق لدعوى صاحبها أنّه المالك و نحن أيضا نحتمل صدقه، و وجه عدم الاعتناء في السابق من جهة العلم بالأمانيّة حيث لا أمارة في ظرف العلم بالخلاف، و إذا ارتفع العلم فلا مانع من الأخذ بالأمارة، و لهذا لو علمنا بأنّ ما في يد زيد غصب ثمّ مضى زمان و احتملنا أنّه كان انتقل إليه من المالك بوجه

صحيح شرعي و هو كان مدّعيا لذلك فيده تصدّقه و يجوز لنا الشراء منه، نعم لا يجري هذا في حقّ من كان من شأنه السرقة، لحصول الاطمئنان بعدم زوال الغصبيّة عمّا في يده، هذا.

و لكن يمكن رفع المعارضة بأنّ أماريّة اليد مسلّمة و لكن لا تنفع في صيرورة المشتري منكرا، لأنّهم صرّحوا بأنّ ذا اليد إذا أقرّ بسبب اليد و كان السبب هو الانتقال من الطرف إليه انقلب مدّعيا و طرفه منكرا، و مقامنا من هذا القبيل؛ لأنّ المشتري يدّعي أنّ يده مستند إلى الانفساخ الموجب لانتقال الثمن من البائع إليه و البائع ينكر تحقّق أسباب الانتقال.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بناء على ما ادّعاه العلّامة في التذكرة من الإجماع على عدم وجوب تسليم الثمن و المثمن في مدّة الخيار و إن تسلّم الآخر أنّ الشكّ في انقطاع سلطنة المشتري عن الثمن و عدمه، و الأصل يقتضي عدم الانقطاع، و الحاصل أنّ سلطنة المشتري كانت بنحو الملكيّة قبل الشراء ثابتة و نشكّ في ثبوتها له بعده و لو بنحو آخر غير نحو الملكيّة، فلنا استصحاب الجامع بين النحوين بناء على صحّة استصحاب الجامع في القسم الثالث من أقسامه كما هو المقرّر في محلّه، و لكنّه مدفوع بالأصل الجاري في سبب الخيار كما يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

و قد يعارض أيضا بأنّ الأصل عدم علم المشتري بالمبيع على هذا الوصف، و فيه: أنّ الخيار و اللزوم ليسا من آثار العلم و عدمه بل من آثار التقييد بالكتابة مع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 298

التخلّف و عدم التقيّد أو التقييد بعدم الكتابة و هما و إن كانا ملازمين عرفا مع العلم بالكتابة و العلم بعدمها،

و لكنّ الأثر لا يترتّب إلّا عليهما لا على العلمين، نعم أثر العلم أنّه رافع الغرر و هو مقطوع الحصول بأحد الأمرين من العلم أو البناء على ما مرّ من كفاية كلّ منهما في رفعه، مع أنّ ترتّب الرفع على أحد الأمرين أيضا عقليّ، و بالجملة فلم أتعقّل لأصالة عدم علم المشتري محصّلا.

قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه الشريف- ما حاصله: أنّه يمكن بناء المسألة على أنّ بناء المتعاقدين على الأوصاف المشاهدة بل هو من قبيل الاشتراط و حال الأوصاف حال الشوط المندرجة في ضمن العقد حتّى يرجع دعوى المشتري إلى حصول اشتراط زائد على أصل العقد الواقع على العين متعلّق بكتابتها أو سمنها مثلا، فالأصل عدم تحقّق تلك الزيادة في هذا المال، فالأصل يكون مع البائع، أو أنّه من قبيل التقييد و حال الأوصاف حال القيود المأخوذة في المعقود عليه، فالدعوى راجعة إلى أنّه هل وقع على هذا العبد مع وصف عدم كتابته عقد أو لا، و المشتري يدّعي عدم الوقوع فالأصل معه فرجّح الوجه الثاني، إذ ليس هنا عقد على العين و التزام آخر بوصف كونها كاتبا مثلا بل الواقع عقد واحد على المقيّد.

و حينئذ فأصالة عدم وقوع العقد على هذا العبد الغير الكاتب جارية و أثرها عدم وجوب دفع الثمن على المشتري بإزائه، فإنّ هذا الوجوب فرع كون ما يدفعه البائع خارجا متعلّقا للعقد و بعبارة أخرى فرع كون ما ينطبق على ذلك المدفوع أعني العبد الغير الكاتب تحت العقد، و أمّا إذا لم يتّصف بهذا فليس خطاب (ف) و ادفع الثمن متوجّها إلى المشتري.

و دعوى معارضة هذا الأصل بأصالة عدم وقوع ما لا ينطبق على هذا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 299

المدفوع أعني العبد الكاتب تحت العقد بالعدم الأزلي. مدفوعة بأنّه لا أثر لهذا الأصل؛ فإنّ وجوب دفع الثمن إنّما يترتب بضميمة العلم بوقوع العقد إمّا على الكاتب و إمّا على غيره، فإذا انتفى الأوّل تعيّن الثاني، فصرف عدم وقوع المقيّد تحت العقد لا يكفي في الحكم على المال الموجود الفاقد للكتابة بأنّ دفعه موجب للزوم دفع مقابله من الثمن.

و الحاصل أنّ هنا أصلين، أحدهما: أصالة عدم تقييد متعلّق هذا العقد الواقع بقيد الكتابة و هذا من أثره على تقدير الجريان وجوب الوفاء، و لكن لا يجري لعدم الحالة السابقة، و الآخر: أصالة عدم وقوع العقد على المقيّد بالكتابة بالعدم الأزلي، و هذا و إن كان جاريا لوجود الحالة السابقة و لكن لا أثر له، لأنّ الأثر لوقوع هذا الغير الكاتب متعلّق العقد، فهذا نظير الأصلين في الماء المخلوق دفعة المشكوك كريّته، فإنّه تارة يقال: الأصل عدم وجود الكرّ في هذا المكان فهذا جار لوجود الحالة السابقة، و لكن لا ينفع بحال هذا الماء الموجود و لا يثبت كونه غير كرّ، و أخرى يقال: الأصل عدم كون هذا الماء كرّا، و هذا نافع على تقدير الجريان لكن لا يجري، لعدم الحالة السابقة.

و ممّا ذكرنا يظهر فساد التمسّك بأصالة اللزوم حيث إنّ المبيع ملك المشتري و الثمن ملك البائع اتّفاقا، و إنّما اختلافهما في تسلّط المشتري على الفسخ فينفي ما تقدّم من قاعدة اللزوم، توضيح الفساد أنّ الشكّ في اللزوم و عدمه من حيث الشكّ في متعلّق العقد، فإنّا نقول: الأصل عدم تعلّق العقد بهذا الموجود حتّى يثبت اللزوم و هو حاكم على أصالة اللزوم.

قال شيخنا لأستاذ- دامت أيّام إفاضاته العالية-: تقريب مرامه- قدّس سرّه- أن يقال:

إنّا لا نتعرّض بحال العقد الواقع و أنّه خياريّ أو لازم لا يقبل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 300

الحلّ، فإنّ إثبات كلّ منهما يحتاج إلى الواسطة و لا يكفيه مجرّد عدم وقوع العقد على المقيّد باللاكتابة بالعدم الأزلي، فإنّه كان في الأزل و لم يكن معه لزوم و لا جواز، فلا بدّ من إثبات أنّ العقد الواقع على المقيّد بالكتابة حتّى يثبت الجواز، فيرد عليه عين ما ذكره على المعارض من أنّ الأصول العدميّة لا يثبت الأضداد في مواردها، فالمراد مجرّد عدم وجوب الوفاء من ناحية العقد الواقع على العبد اللاكاتب، فإنّ وجوب الوفاء يحتاج إلى موضوع فبانتفاء الموضوع يصير منتفيا.

و حينئذ أيضا نحتاج إلى ضمّ ما عن العلّامة من عدم لزوم تسليم العوض في مدّة الخيار، فإنّه حينئذ يحتمل أن لا تنقطع سلسلة عدم لزوم الوفاء من الأزل إلى حال إجراء الأصل لا قبل العقد و لا بعده، قبل الفسخ و بعده، أمّا قبل العقد فلعدم الموضوع، و أمّا بعده قبل الفسخ فلاحتمال وجود الخيار، و أمّا بعده و بعد الفسخ فلاحتمال انتقال الملك إليه، هذا حاصل تقريب الأصل الذي أفاد جريانه في طرف المشتري.

و أمّا الأصل المعارض له الذي نفاه في جانب البائع فمجمل الكلام فيه أنّ محلّ الخدشة في جريانه أحد أمرين لا ثالث لهما، الأوّل: أن يقال: نفي العقد على المقيّد بالكتابة بنحو الكلّي بالعدم الأزلي من غير تطبيق على العقد الشخصي لا أثر له أصلا نظير أصالة عدم وجود الكرّ في المكان الخاص حيث لا أثر له إلّا في مورد النذر، و الأثر إنّما هو لكون الماء الخاص كرّا أو غير كرّ.

و الثاني: أن يقال: إنّه ذو أثر و

لكن الأثر الذي يثبته لا ينافي الأثر الجائي من قبل الأصل الأوّل بل هما قابلان للاجتماع.

و حاصل الكلام في الأوّل أنّ المنشأ في جانب وجود الخيار أمران، الأوّل وجود التقييد في العقد بالكتابة، و الثاني انتفاء الكتابة في العبد المدفوع، و بعبارة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 301

أخرى مجرّد عدم مطابقة المدفوع للمعقود عليه لا يوجب الخيار؛ ضرورة تحقّقه في الأمة عند العقد على العبد مع عدم الخيار بل البطلان، فالذي يوجب الخيار أن يكون هنا قدر مشترك محفوظ عرفا بحيث يعدّونه نفس المبيع و أنّ المتخلّف بعض صفاته و يكون وجه الخيار حينئذ أخذ الصفة في متعلّق العقد على وجه المدخليّة.

و إن شئت قلت: إنّ أثر هذا التقييد أنّ تخلّفه يوجب الخيار نظير أنّ الخمر شربه حرام، و حينئذ نقول: إنّ في جانب نفي الخيار يكفي انعدام أحد الأمرين فإذا ثبت بالأصل أنّ العقد على العبد مقيّدا بالكتابة ما وقع كفى في رفع الخيار.

فإن قلت: لا بدّ في الحكم بانتفاء الخيار من موضوع، قلت: حاله حالة نفي لزوم الوفاء الذي أثبتّم، فكما قلتم لا وجوب وفاء من ناحية العقد على العبد الغير الكاتب من غير تعرّض بحال شخص العقد الواقع، نقول أيضا: لا حقّ للمشتري في استرداد الثمن من البائع من ناحية العقد و الالتزام الواقع على العبد المقيّد بالكتابة من غير تعرّض أيضا لحال شخص هذا العقد الصادر، هذا حاصل الكلام في الجهة الأولى.

و أمّا الجهة الثانية: فالظاهر عدم إمكان اجتماع نفس مفادي الأصلين من نفي لزوم الوفاء و نفي جواز الاسترداد في المورد الشخصي و هو الثمن الشخصي في المعاملة الشخصيّة؛ للقطع بأنّه ملك البائع إمّا لازم الدفع و إمّا حائز

الاسترداد، فبقي كلا الأمرين مقطوع الخلاف، و هذا غير الأثرين في الموردين اللذين نقطع بمخالفة أحدهما مع الواقع، فإنّه لا مانع من إجراء الأصلين إذا لم يكن مخالفة عمليّة قطعيّة في البين.

و أمّا ما ذكره- قدّس سرّه- من حكومة الأصل المذكور على استصحاب الملك بعد الفسخ بناء على كونه المراد من أصالة اللزوم في كلامه- قدّس سرّه-

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 302

ففيه: أنّ أصالة عدم وقوع العقد على الفاقد على ما مرّ من تقريبه، و يظهر من كلامه- قدّس سرّه- أيضا لا تعرّض فيه لنفي أو إثبات الخيار و إلّا جرى فيه مثل ما أورده على معارضه من إشكال المثبتيّة كما مرّ.

و حينئذ فلا وجه للحكومة أصلا؛ فإنّ الشكّ في بقاء الملك بعد فسخ المشتري مسبّب عن ثبوت حقّ الخيار و عدمه، و فرضنا بقاء الشك السببي بعد الأصل المذكور أيضا بحاله، غاية الأمر أنّ الأصل المذكور يفيد عدم وجوب الوفاء و الدفع إلى البائع، و الاستصحاب مفيد لبقاء ملك البائع بعد الفسخ فيتنافيان و يتعارضان من دون حكومة في البين أصلا.

و إن كان المراد عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و «المؤمنون عند شروطهم»، ففيه: أنّ التمسّك بها في المقام من باب التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة، و كذا الحال في ما ذكره بعد هذا من عموم حرمة أكل المال إلّا أن تكون تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و عموم «و لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه»، و عموم «الناس مسلّطون على أموالهم».

و أمّا ما ذكره في ذيل كلامه من أصلين آخرين أحدهما أصالة عدم وصول حقّ المشتري إليه، و الثاني أصالة عدم انطباق العين الخارجيّة المنتقلة إلى المشتري على متعلّق

العقد. ففي الأوّل منهما أنّه من قبيل استصحاب عدم الغروب عند تحقّق الاستتار و قبل الذهاب حيث لا شكّ في الخارج، و ما هو المشكوك من انطباق عنوان الغروب غير ذي أثر، فإنّ عنوان العوض بما هو هذا العنوان و إن كان مشكوك الوصول لكنّ الأثر لوصول ما هو مصداق هذا العنوان و هو مردّد بين مقطوع الوصول و مقطوع العدم.

و كذلك الحال في الثاني؛ فإنّ عنوان متعلّق العقد حاله حال عنوان متعلّق

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 303

النذر في كونه مشيرا إلى الأفراد الخارجيّة، و حال الوفاء بالعقد حال الوفاء بالنذر و المفروض عدم الشك بحسب الخارج.

و أمّا الثاني: فقد تقدّم أنّ صرف عدم انطباق عين خارجيّة مع معقود عليه لا يوجب الخيار كما رأيت من مثال الأمة و العقد على العبد، بل المعتبر أمران: وجود عقد اقتضى انتقال أصل محفوظ عند العرف، و تخلّف وصف أخذ في ذلك العقد قيدا، فلا بدّ في طرف الخيار من وجود عقد مفروغ الوجود و تحقّق التخلّف في هذا الموضوع المفروغ عنه، فالمحتاج إلى الوجودي هو الخيار، فباستصحاب عدم هذا الوجودي يرتفع الخيار من غير حاجة إلى إثبات موضوع مفروغ عنه، نظير ما إذا رتّب الأثر على قضيّة إن كان زيد قائماً؛ فإنّه يصحّ استصحاب عدم هذا المجموع عند الشكّ في وجود هذا المجموع.

نعم لا يثبت بالأصل المذكور وجوب الوفاء و دفع الثمن، و لكن لا نحتاج إليه و يكفينا إثبات عدم ثبوت خيار استرداد الثمن من البائع و إدخاله في ملك نفسه، و لا نحتاج أيضا إلى تعليق هذا المحمول العدمي أعني اللاخياريّة على الموضوع الخاص من العقد الخارجي، بل نقول: الأصل عدم وقوع العقد

على العبد مقيّدا بالكتابة مع حصول التخلّف، فلا فسخ في الثمن، فيكون معارضا مع أصالة عدم وقوع العقد على المقيّد باللاكتابة؛ لأنّ مقتضاها عدم وجوب الوفاء و جواز الإمساك، و مقتضى الأوّل عدم جواز الفسخ و هما متنافيان.

هذا على تقدير تسليم ما نقل عن العلّامة في باب الخيار و إلّا سقط الأصل الثاني عن الأثر و يبقى الأوّل بلا معارض، و وجه السقوط ما مرّ من أنّ مجرّد عدم وقوع العقد على العبد المقيّد بعدم الكتابة لا يفيد عدم وجوب الوفاء، إذ يمكن تحقّق هذا العدم مع وجوب الوفاء بمعنى حرمة الإمساك عند المطالبة كما في المقام

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 304

حيث إنّ حرمة الإمساك متحقّقة على كلا التقديرين، نعم المتحقّق على تقدير الخيار جواز الفسخ و الاسترداد و هو غير جواز الإمساك مع مطالبة الطرف و تسليمه العوض بدون فسخ و لا إمضاء هذا.

ثمّ إنّه لم يعلم ما وجه فرقه- قدّس سرّه- في أوّل المسألة بين صورة كون البناء من باب الاشتراط أو من باب التقييد حيث جعل الأوّل من باب الأقلّ و الأكثر، و الثاني من باب المتباينين، و الحال أنّ الأوصاف المرئية مطلقا وجوديّة كانت أم عدميّة يكون العقد مبنيّا عليها، و لهذا يثبت الخيار للبائع في صورة كون الصفة عدميّة مثل عدم الكتابة و تبيّن الوجود، و على هذا لا فرق بين الصورتين في حصول التعارض، فالأمر على الأوّل دائر بين اشتراطين و على الثاني بين التقييدين لا الاشتراط و العدم و التقييد و الإطلاق كما يظهر منه- قدّس سرّه.

و أيضا ليس حال الاشتراط إلّا كالتوصيف من حيث إنّه و إن كان سببا مستقلّا بخلاف الوصف لكنّه التزام في

التزام، فلا بدّ من تحقّق الضمنيّة، و ليس حاله حال الالتزامين الغير المرتبط أحدهما بالآخر، و إذن فكما لا يصحّ أصالة عدم التوصيف لعدم الحالة السابقة فكذلك أصالة عدم الاشتراط بلا فرق و حاصل جميع ما ذكرنا أنّ الحقّ تقديم قول البائع.

و أمّا أصالة عدم التغيّر فإن جعلناه أصلا عقلائيّا يوجد بلوازم متعلّقه فهو، و نتيجته أيضا تقديم قول البائع، و إلّا فهو أصل مثبت لاحتياجه إلى إثبات أنّ العقد وقع على السمين.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 305

الفرع الثاني لو اتفقا على التغيّر بعد المشاهدة و وقوع العقد على الوصف المشاهد و اختلفا في تقديم التغيّر على البيع ليثبت الخيار و تأخّره عنه على وجه لا يوجب الخيار

فللمسألة ثلاث صور، الجهل بكلا التأريخين أعني: تاريخ البيع و تاريخ التغيّر، و العلم بالأوّل فقط، و العكس، ففي صورة العلم بتاريخ البيع- كما إذا علم وقوعه أوّل صبيحة يوم الجمعة، و لكنّ الغنم الخارجيّة لم يعلم ما حالها تلك الساعة هل بقيت على سمنها السابق أو عرض الهزال عليها، قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: لا مانع من استصحاب بقاء السمن إلى زمان وقوع البيع فيقال: المبيع هو الغنم بقيد أنّها سمينة وجدانا، و هي في حال البيع كانت سمينة بتطبيق الشرع و بحكم الاستصحاب تعبّدا، فقد تحقّق كلا جزئي موضوع اللزوم، أحدهما وجدانا و الآخر تعبّدا.

لا يقال: موضوع اللزوم عبارة عن اتّصاف العين الخارجية حال العقد على الموصوف حتّى ينطبق العقد على الخارج الموصوف و ينعقد فيه، فهذا الانطباق و الانعقاد لا يثبت بالاستصحاب.

لأنّا نقول: لا منشأ لما ذكرت إلّا صدق عنوان الوفاء بالعقد، فإنّ الوفاء بالعقد على الموصوف إنّما يتحقّق وضعا إذا انتقل إلى ملك المشتري العين الخارجيّة المتّصفة، و حينئذ نقول: لا حاجة لنا إلى توسيط عنوان الوفاء، إذ كما قلنا في الوفاء بالنذر بل كلّ عنوان أخذ باعتبار الوجود الساري

يكون عبرة إلى الأفراد و موضوع الحكم نفس الأفراد، و لهذا يصحّ استصحاب حياة الولد إذا نذر التصدّق بدرهم ما دام الولد حيّا، و حينئذ نقول في المقام: الحكم مرتّب على نفس عنوان انتقال السمين من دون حاجة إلى تطبيق عنوان الوفاء عليه، و إن أبيت إلّا وجود الواسطة عقلا فلا أقلّ من خفائها عرفا؛ لأنّ العرف يقولون: هذا عالم و كلّ عالم واجب الإكرام فهذا واجب الإكرام.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 306

لا يقال: سلّمنا أنّ الحكم لنفس العناوين الخاصّة لا لما هو الجامع لها من عنوان الوفاء، إمّا بدعوى إلغائها عقلا أو خفائها عرفا، و لكن انتقال السمين لا شبهة في كونه محتاجا إليه و استصحاب السمن إلى حال انتقال الذات لإثبات انتقال الموصوف من الأصول المثبتة.

لأنّا نقول: هذا أيضا تحقّق في الأصول عدم عدّه من تلك الأصول؛ لأنّ حاله حال حرمة الشرب في استصحاب الخمريّة، فكما أنّه مفيد لكون شرب هذا المائع شرب الخمر تعبّدا، لأنّ من آثار كونه خمرا أنّ شربه حرام كشرب الخمر، كذلك هنا أيضا نقول: أثر العقد على السمين كون إعطاؤه في الملك موجبا للزوم و عدم الخيار، فاستصحاب السمن في الغنم الخارجيّة مع وقوع العقد عليها بوصف السمن كما هو المحرز وجدانا يفيد أنّ انتقال هذه الغنم الخارجيّة بمنزلة انتقال السمين، فكما كان انتقالها ملزما للعقد فكذا هذه.

هذا كلّه في صورة العلم بتاريخ البيع، و أمّا صورة العلم بتاريخ الهزال فلا وجه لاستصحاب عدم البيع إلى ما بعد الهزال، لأنّه لا يثبت وقوع البيع على المهزول، إلّا أن يقال أثره عدم وجوب الوفاء، و هو نظير أصالة عدم وقوع البيع مقيّدا باللاكتابة في المسألة المتقدّمة، فيجري فيه

ما تقدّم هناك من معارضته بأصالة عدم تحقّق موجب الخيار.

و أمّا صورة الجهل بالتاريخين فعلى مختار شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- من جريان الأصل في المجهولي التأريخ و تساقطهما بالتعارض يتعارضان و يتساقطان، و أمّا على مختارنا من عدم الجريان كما حقّق في الأصول فالمرجع أصالة عدم موجب الخيار لولا معارضته بأصالة عدم موجب اللزوم، و إلّا فالمرجع أصالة بقاء ملك البائع بعد فسخ المشتري، و قد تقدّم بيان كلّ هذا في ما تقدّم.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 307

و لو وجد المبيع تالفا بعد القبض في ما يكفي في قبضه التخلية و اختلفا في تقدّم التلف على البيع و تأخّره، فقد يتوهّم هنا أيضا أنّ مقتضى استصحاب الوجود إلى حال البيع عند معلوميّة تاريخه هو الصحّة كما كان مقتضى استصحاب السمن في الفرع السابق هو اللزوم و لكنّه في غير المحلّ، وجهه أنّ انتقال المعدوم غير معقول على غير وجه قصد تمليكه في طرف الوجود و لا قصد تمليكه بلحاظ البدل مثلا أو قيمة، و الحكم الظاهري و إن كان في موضوع تعبّدي لكن لا بدّ من قابليّة الموضوع التعبّدي لقبول الحكم الظاهري، فإنّه من سنخ الحكم الجدّي و البعث الحقيقي فلا بدّ فيه من قابليّة الموضوع، فلو فرض عدم قابليّة الموضوع للبعث و الحكم عند كونه تعبّديّا كما إذا ترتّب على وجود العالم وجوب تقبيل يده فلا يمكن باستصحاب الوجوب ترتيب أثر تقبيل اليد، فلا محلّ للاستصحاب حينئذ لعدم قابليّة المحلّ للبعث نحو التقبيل، نعم لو فرض القابليّة كما في استصحاب حياة الزوج الموجب على الوكيل الإنفاق على زوجته فلا بأس، لأنّ موضوع البعث حينئذ موجود و هو الوكيل.

فنقول في المقام أيضا: بعد كون

المعدوم غير قابل للنقل و الانتقال لا مجرى لاستصحاب الوجود، إذ معناه الحكم الجدّي بالانتقال و لو ظاهرا، و المفروض أنّ المعدوم غير قابل للانتقال أصلا و لو ظاهرا، نعم يمكن التعبّد في الظاهر بوجود الانتقال في المشكوك؛ لأنّ معناه ترتيب أثر الانتقال، و أمّا التعبّد بوجود المشكوك ليكون معناه التعبّد بانتقاله و انتقال ما بإزائه فلا يمكن.

هذا غاية تقريب عدم جريان الاستصحاب، و مثله الكلام في أصل الصحّة على تقدير الجريان مع إمكان الخدشة في جريانه مع قطع النظر عمّا ذكرنا نظرا إلى أنّه محتاج إلى إحراز عنوان العمل ثمّ الحكم بصحّته بمعنى ترتّب ما يترتّب على

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 308

العنوان المذكور، و حينئذ فالذي نحرز هنا إنّما هو المعنى الإنشائي السببي الذي يكون لغوا صرفا عند عدم وجود المعقود عليه، و يعدّ عاقده فاعلا للقبيح، و هذا المعنى ليس له إلّا أثر تأهّلي و هو مع العلم أيضا غير نافع، إذ يحتاج إلى ضمّ وجود المعقود عليه بل هو مقطوع به لفرض عدم الخلل من سائر الجهات، و الذي يكون إجراء الأصل فيه نافعا و هو النقل المسبّبي العرفي الذي يحكم بطبقة الشرع ليس عنوانه محرزا حتّى يجري فيه أصالة الصحّة.

و الحاصل: أنّ نفس المعنى الإنشائي أيضا و لو مع تفكيكه عن النقل الحقيقي المسبّبي العرفي مورد للحكم الشرعي بالصحّة التأهليّة كما في بيع الفضولي قبل لحوق رضي المالك، هذا.

و لكن ما ذكرنا في منع جريان الاستصحاب من عدم قابليّة جعل الحكم الظاهري مع انعدام الموضوع في مثل المقام لا يلتزم العلماء به في نظائر المقام، مثلا استصحاب النجاسة في الشي ء إذا كان ملاقي ملاقيه موجودا دون ملاقيه يكون من

آثاره نجاسة ملاقية ثمّ نجاسة ملاقي الملاقي، و حيث إنّه ليس إخبارا بل إنشاء من حينه فلا يعقل جعل النجاسة في الشي ء المعدوم في الحال، و لازم ما ذكرنا أنّه إذا لم يعقل التعبّد في الواسطة فلا يجري في ذيها أيضا و إلّا لانفتح باب الأصول المثبتة كما هو واضح، إذ ليس المانع إلّا عدم قابليّة الواسطة للتعبّد مع أنّهم لا يلتزمون بعدم الجريان في ذي الواسطة.

و كذا لو وقع عقد على شيئين موجودين و شككنا في واجديّته لبعض شروط آخر غير وجود المعقود عليه و كان حال الشكّ أحد الشيئين معدوما فإنّه لا شبهة عندهم في جريان أصل الصحّة مع جريان ما ذكرنا فيه حرفا بحرف، و إذن فبعد الغضّ عن أصالة الصحّة بملاحظة ما ذكر فيه من الإشكال لا مانع في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 309

استصحاب الوجود إلّا أحد أمرين كلاهما مدفوع.

الأوّل: أنّ محلّ حكم الشرع بالصحّة أو البطلان إنّما هو المعنى المسبّبي و إثباته بأصالة الوجود بضميمة إحراز الإنشاء السببي وجدانا من الأصول المثبتة، و الثاني: سلّمنا عدم الحاجة إلى واسطة ذلك المعنى و لكن إحراز تقيّد العقد المحرز وجدانا بوجود المعقود عليه بحكم استصحاب وجوده أيضا من الأصول المثبتة؛ لأنّ المؤثّر العقد على الموجود لا العقد على الصورة إذا كان ذوها موجودا في الخارج.

و يمكن دفع الأوّل بأنّ باب المعاملات باب الإمضاء، و معناه حكم الشارع بطبق ما حكمه العرف لا أنّ حكمه في طول حكمهم، و إذن فكما يحكم العرف على الإنشاء المقرون بوجود المعقود عليه بحصول النقل المسبّبي عقيبه كذلك يساعدهم الشرع و يحكم أيضا بحصوله عقيب تلك الأسباب و الشروط، و معنى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ أيضا

ذلك، يعني ما هو بيع عندكم إنا أيضا منكم في رؤيته بيعا و مصدّق لكم، و على هذا فواسطة النقل العرفي ملغاة في حكم الشرع بل هو وارد على نفس الأسباب كما هي المورد لحكم العرف أيضا.

و يمكن دفع الثاني أيضا بأنّ المعتبر في السبب هل هو وجود عقد على العباء مثلا و وجود العباء أيضا حال العقد أو أنّ هنا ثلاثة أشياء معتبرة، هذان مع تقييد العقد أيضا بالوجود الخارجي بحيث انتزع عنوان العقد عن الموجود الخارجي؟ لا يبعد أن يقال بالأوّل؛ فإنّا لا نحتاج إلّا إلى العقد على العباء المعروض للوجود و العدم مع كونه موجودا أيضا، و أمّا تعلّق العقد به بوصف الموجوديّة فيمكن منع اعتباره و لزومه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 310

[المسألة الثامنة لا بدّ من اختبار الطعم و اللون و الرائحة في ما يختلف قيمته باختلاف ذلك]

مسألة لا بدّ من اختبار الطعم و اللون و الرائحة في ما يختلف قيمته باختلاف ذلك

و لا شبهة في ذلك، إنّما الكلام في خصوصيّة الاختبار كما في باب الكيل و الوزن بحيث لو ارتفع الغرر الشخصي بغيره أيضا كان الاختبار لازما كما في ذلك الباب، تحقيق المقام أن يقال: تارة يفرض الكلام في الصفات الدخيلة في القيمة التي هي زائدة على وصف الصحّة مثل مقدار الطعم و الرائحة بعد الفراغ عن صحّة المبيع و عدم معيوبيّته و فساده.

و أخرى يفرض في الصفات التي يدور معها وصف الصحّة و السلامة عن العيوب، و مجمل الكلام في القسم الأوّل أن لا إشكال في انحصار طريق رفع الغرر في الاختبار نوعا و بحسب الغالب و عدم إمكانه بالتوصيف و لا بأصل عقلائي.

أمّا الثاني فلعدم أصل في هذا المقام، و أمّا الأوّل فلعدم اندراج هذه الأوصاف، أعني: مقدار الطعم و الريح و

اللون و كيفيّاتها و نحو ذلك تحت الانضباط، فالطريق منحصر بذوق شي ء من جنسه أو شمّه أو إبصاره، و لكن هذا كما عرفت أمر غالبي فيمكن اتّفاقا رفع الغرر في بعض المقام بغير اختبار شي ء من جنسه بأن يوصف بأمر مباين معه كما إذا كان المبيع شيئا من غير جنس الدبس و لكن كان شبيها به في مقدار الحلاوة، فاشترط في متن العقد كونه بمثل تلك المرتبة من الحلاوة مع عدم ذوق شي ء من جنسه أصلا، فلو فرض رفع الغرر بذلك فلا دليل على عدم الكفاية و وجوب الاختبار بالذوق و نحوه. و أمّا رواية محمّد بن العيص فغير دالّة على الوجوب؛ لأنّ الأمر فيها في مقام الخطر، فغايته جواز الذوق لا وجوبه، نعم لو بنينا في باب الغرر على النوعي لا الشخصي لم يرتفع بحسب ما

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 311

يرتفع نوعا و لكن عرفت ضعفه و أنّ المعتبر هو الرفع الشخصي.

و أمّا القسم الأخير، أعني: ما إذا تمحّض الأمر في استعلام صحّة المبيع و سلامته عن العيب كما في البيض حيث إنّ المقصود عدم حدوث الدم و الفساد فيه، و كذا البطيخ في بعض الموارد فقد يتوهّم هنا أيضا عدم كفاية التوصيف بوصف الصحّة و السلامة و عدم كفايته عن الذوق.

و لكن فيه أنّ التوصيف بعد كونه ممكنا هنا و رافعا للغرر كما تقدّم لا وجه لعدم كفايته، و المفروض عدم خصوصيّة في الذوق بالتعبّد الشرعي، فلا وجه لهذا القول و إن حكي عن السرائر.

إنّما الكلام في الاكتفاء عن الأمرين من الاختبار و التوصيف بأصالة الصحّة و السلامة، و مجمل القول فيه: إنّا نجد من أنفسنا بعد المراجعة وجود بناء العقلاء

على العمل بهذا الأصل مع إمكان تعيين الحال بسهولة من ذوق بالذائقة أو شمّ بالشامّة، و إن لم يكن له ذائقة و لا شامّة فالرجوع إلى واجد الحاسّتين و الاستعلام منه أو الاطمئنان بشخص البائع إذا كان عارفا بحاله و مطمئنا بفعاله، نعم لو يئس من جميع تلك المقدّمات فلم يكن له شامّة صحيحة و لا وجد من له ذلك و تمكّن استعلام الحال منه أو كان العيب المحتمل من الأمور المخفيّة التي يشقّ الاطّلاع عليها كشعرات العانة و كون الجارية لا تحيض و هي في سنّ من تحيض فالأصل في هذه الموارد معمول به.

ألا ترى أنّ من كان له الشامّة الصحيحة أو أمكنه الاستعلام بمقدّمة سهلة و ابتاع جلابا فتبيّن عدم الرائحة له من الأصل يقولون له: لم فعلت ذلك أ لم تكن لك شامّة؟ و هذا بخلاف من فقد الشامّة فلا يستنكرون منه هذا، فهذا دليل على أنّ العقلاء يفرّقون في عملهم بين الموردين، و لعلّ نظر العلماء حيث لم يعتبروا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 312

بأصالة الصحّة إلى ما ذكرنا بملاحظة إمكان الاستعلام و استخبار الحال؛ لأنّ موضوع كلامهم ما لا يفسده الاختبار.

نعم في موارد فقد الحواس و عدم مقدّمة سهلة أخرى للاستعلام بناء العقلاء على العمل بأصالة الصحّة و السلامة عندهم أمارة حيث لا أمارة و يجب الفحص فيها لتحقّق موضوعها، و هل يفرق في مورد بنائهم بين أن يكون العيب المحتمل على فرض وجوده طارئا أو خلقيّا أصليا حادثا من أوّل الوجود كما يظهر من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- تخصيصه بالأوّل.

الإنصاف أنّا لا نجد من أنفسنا الفرق بين الموردين في أنّه بعد اليأس عن الأمارات الأخر يبنون على أصالة

السلامة في كلّ من العينين و يحكمون بأنّه لم يحدث فيه من أوّل وجوده عيب و لا طرأ عليه بعد وجوده.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بعد تخصيصه الأصل بما إذا كان الشكّ في طروّ المفسد فصل بين العيوب التي يستلزم الشكّ فيها الغرر ككون الجارية خنثى و كون الدابّة لا تستطيع المشي أو الركوب و الحمل عليه، و بين العيوب التي لا يستلزم شكّها غررا ككون الجارية ممّن لا تحيض في سنّ الحيض و عدم نبات الشعر في عانة الجارية، فأوجب في القسم الأوّل أحد الأمرين من الاختبار أو الوصف و جوّز في الثاني تركهما، و أمّا حدوث الخيار عند تبيّن العيب فلأجل انصراف الإطلاق إلى الصحيح كانصرافه إلى النقد لا النسية.

و استشكل عليه شيخنا الأستاذ- دام بقاه- بأنّه إذا سلّمتم الانصراف فلم قيّدتم في ذلك القسم من العيوب الموجبة للغرر أحد الأمرين من الاختبار و التوصيف؟ بل يجب القول بكفاية الإطلاق لوجود الانصراف المفيد لفائدة الذكر اللفظي بل هو هو فيرتفع الغرر و يوجب الخيار عند التخلّف أو يقال بالفرق في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 313

الانصراف بين القسمين و هو أيضا بعيد، هذا.

و ربّما يستشكل في الاكتفاء بالأصل العقلائي إذا لم يوجب الوثوق الشخصي في رفع الغرر الشخصي، و فيه: أنّه لو كان الأصل المذكور من الأصول المقرّرة للشاك بما هو شاكّ فمن المعلوم أنّ الأصل المحرز للسلامة الواقعيّة لا يثبت الوثوق بها على تقدير الملازمة بينهما كيف و لا ملازمة أيضا، و أمّا إذا كان طريقا عقلائيّا يمشون على طبقه في أمورهم فلا إشكال، ألا ترى أنّه إذا كان سلوك الطريق المظنون الخطر محظورا عند العرف فقام أمارة عقلائيّة يعتمد

العقلاء عليها في أمورهم و يعاملون معها معاملة العلم على أمن ذلك الطريق فلو سلكه واحد فهل ترى من نفسك أنّه مذموم عند العقلاء و لو لم يرتفع عن نفسه ظنّ الخطر بواسطة تلك الأمارة؟ هذا فتأمّل.

[المسألة التاسعة يجوز ابتياع ما يفسده الاختبار من دون اختبار]

مسألة يجوز ابتياع ما يفسده الاختبار من دون اختبار إجماعا على الظاهر

كما في مكاسب شيخنا المرتضى- قدّس سرّه-، و الكلام في هذه المسألة أيضا تارة في الأوصاف الزائدة على وصف الصحّة و أخرى في الراجعة إليها.

أمّا الأوّل: فالمفروض عدم إمكان الاختبار الغير المفسد و عدم إمكان الضبط و التحديد بالوصف أيضا و لا أصل عقلائيّ أيضا يحرز به، فلا محيص عن اغتفار هذا المقدار، و لو كان الاختلاف بين الأمرين المحتملين كثيرا و لكنّهم يسامحون و يقدمون على جهل بتلك الصفات كما في العبد- حيث إنّ بعض الحالات و الصفات الدخيلة في زيادة القيمة أو نقصانها كثير الدخل يكون محتاجا إلى صحبة تامّة و عشرة طويلة حتّى يعلم بوجودها أو عدمها- فالبناء على الإقدام

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 314

بدون إحراز تلك الصفات، و كذلك في المقام أيضا لم يجر ديدن المعاملين على وضع بطيخ ليذوق المشترون منه ثمّ يبيعون على ذلك الطعم و الحلاوة مع أنّ مراتب الحلاوة مختلفة في الماليّة اختلافا كثيرا، نعم كلّ مقدار أمكن ضبطه يجب.

و أمّا الثاني فلا إشكال في إمكان الاعتماد على الأصل العقلائي و كذلك على التوصيف و لا يمكن الاتّكال على نفس الحكم الشرعي بالخيار لو ظهر العيب، حيث إنّه شامل لمورد عدم التقييد و الكون على نحو الداعويّة لما تقدّم من اعتبار رفع الغرر عرفا مع قطع النظر عن حكم الشرع.

و كيف كان فإذا تبيّن فساد المبيع و

كونه معيبا فإمّا يظهر ذلك قبل الكسر و إمّا بعده، ففي الأوّل لا شبهة في الخيار بين الردّ و الأرش، هذا إذا كان الفاسد متموّلا و معدودا من أفراد المبيع، و أمّا إذا كان غير متموّل أو غير معدود من أفراده فلا شبهة في البطلان، و أمّا بعد الكسر فهذا التصرّف و إن كان قبل الاطلاع على الخيار و هو على القاعدة لا يسقط الخيار لعدم دلالته على الإسقاط، إلّا أنّ في خصوص خيار العيب ورد النصّ بمسقطيّة مطلق التصرّف الموجب لخروج المبيع عن صدق كونه قائماً بعينه، و على هذا فيثبت الأرش بمعنى تفاوت ما بين الصحيح و الفاسد الغير المكسور.

هذا إذا كان للفاسد قيمة و كان من جنس المبيع، و لو فرض خروجه عن التموّل بالكسر كما في البيض الفاسد حيث يصلح للموضع تحت الدجاجة قبل الكسر و بذلك يحصل له ماليّة قليلة و بعد الكسر يخرج عن الماليّة رأسا و أمّا أحد الفرضين فلا إشكال في البطلان.

و أمّا ما نقله شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- عن الدروس من القول بانفساخ البيع من حين تبيّن الفساد في فرض عدم ماليّة الفاسد فلم يظهر له وجه، فإنّه لا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 315

يخلو الحال من أمرين، إمّا يكون متموّلا قبل الكسر و إمّا غير متموّل، فعلى الأوّل لا معنى لانعقاد البيع و على الثاني لا وجه لانفساخه، غاية الأمر ثبوت الأرش، و أمّا تضمين هذا التلف الوارد بسبب الكسر على البائع بواسطة الغرور أو الإتلاف فلا وجه له بعد جهله و عدم اسناد الكسر و الإتلاف إليه مع أنّه على فرضه يوجب الرجوع إلى القيمة دون الثمن.

ثمّ إنّه جعل محلّ ظهور ثمرة هذا

الخلاف في مؤنة نقله من الموضع الذي اشتراه إلى موضع الكسر فقيل بأنّها على القول بملكيّة البائع عليه و على الآخر على المشتري، و قيل على كلّ تقدير على البائع، و قيل على كلّ تقدير على المشتري.

قال شيخنا الأستاذ- أدام اللّه أيام إفاداته الشريفة-: لم يظهر لي وجه للتفصيل المذكور؛ لأنّ الحال لا يخلو من أمرين، إمّا نقول بصدق الغرامة على هذه الأجرة التي دفعها المشتري إلى الأجير، و إمّا لا نقول، فعلى الثاني لا غرم حتّى يرجع إلى البائع، لأنّه دفع مالا و أخذ عوضه، غاية الأمر لم ينفعه المال المذكور، أعني: عمل الأجير و لم يستوف غرضا له، و على الأوّل فإمّا أن نقول بصدق المتلف على البائع، و إمّا لا، و على الثاني أيضا لا وجه للرجوع بناء على كلا التقديرين كان ملكا له أو للمشتري، إذ على تقدير ملكيّة البائع أيضا لم يكن هذا بأمره، و على الأوّل يتعيّن الرجوع على كلا التقديرين، فلا وجه للتفصيل أصلا.

ثمّ الظاهر من الوجوه المذكورة هو الأوّل؛ و ذلك لوقوع الإجارة صحيحة، و معنى صحّتها أنّه وصل إلى المشتري في مقابل الأجرة عمل من الحرّ الأجير، غاية الأمر ما وصل نفع هذا العمل بغرضه و هو غير عدم الماليّة فقد دخل في كيسه ما يوازي الأجرة فلا غرم حتّى يرجع إلى البائع و لو في صورة علم البائع و صدق الغارّ عليه هذا كلّه في مؤنة نقله إلى موضع الكسر.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 316

و أمّا مؤنة نقل القشور من موضع الكسر إذا طالب ذلك مالك المكان أو كان المكان مسجدا أو مشهدا ففصّل فيه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بين كون تلك القشور بعد

خروجها عن الماليّة باقية على صفة الملكيّة، و بين كونها خارجة عن الملكيّة أيضا، ففي الأوّل رجّح كون الأجرة على البائع على التقديرين لأنّها ملكه بعد الفسخ، و في الثاني جعل المشتري مؤاخذا به.

قال شيخنا الأستاذ- أدام اللّه أيّام إفاداته- كلا الحكمين محلّ النظر، أمّا الأوّل فلأنّ مجرّد إضافة الشي ء إلى الإنسان لا يوجب كونه مكلّفا بتفريغ ملكه عن [دار] الغير، نعم إذا كان الواضع أوّلا هو فالبقاء أيضا مستند إلى ذلك الاختبار فيكون داخلا تحت عنوان التصرّف في ملك الغير و الغصب، و أمّا إذا كان الواضع شخصا آخر و كان المتحقّق في حقّ هذا الإنسان مجرّد الإضافة مع اقتداره على إزالة البقاء فلا يكفي لصدق عنوان التصرّف و الغصب، فكيف يمكن الحكم عليه بإيجاب التفريغ.

و أمّا الثاني فإذا فرضنا أنّ بقاء الإضافة المكليّة كافية لصدق إضافة التصرّف البقائي إلى الشخص فلم لا يكفي الإضافة الاختصاصيّة الباقية عند عدم الملكيّة في ذلك؟

ثمّ المحكيّ عن الشيخ و أتباعه أنه لو تبرّأ البائع من العيب في ما لا قيمة لمكسوره صحّ، قال شيخنا الأستاذ- دام علاه-: قد حملوا هذه العبارة على صورة عدم الماليّة رأسا قبل الكسر و لكن لا وجه لذلك بعد فتوى الشيخ بالبطلان لعدم الماليّة و عدم تحقّق معنى البيع مع عدمها فكيف يصحّ مع هذا الشرط، و ليس إلّا كشرط عدم البيع، بل الظاهر من نفس هذه العبارة حيث قال: لا قيمة لمكسورها اختصاص عدم الماليّة بما بعد الكسر، و ضمير قوله صحّ راجع إلى التبرّي، و وجه

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 317

اختصاص المقام بالذكر مع صحّته في جميع المقامات توهّم أن يكون لهذا العيب الذي كان منشأه من عند

البائع خصوصيّة بمعنى أنّ الخروج عن أصل الماليّة الذي هو بعد الكسر عيب كان سببه حاصلا حين كون العين في يد البائع، فيتوهّم أنّه مضمون عليه فلا يصحّ شرط البراءة فذكر الصحّة دفعا لهذا التوهّم، هذا.

و أمّا ما أشار إليه شيخنا في آخر الكلام في الاستشكال في عامّة موارد هذا الشرط بملاحظة رجوعه إلى عدم الاعتداد بوصف السلامة فيوجب الغرر في المعاملة، فيمكن دفعه بأنّه صحيح إذا كان طريق الدفع هو البناء و التقييد بوصف السلامة حيث إنّه لا يمكن جمعه مع شرط البراءة، و أمّا إذا كان المستند في دفع الغرر وجود الطريق المعمول به عند العقلاء على وجود السلامة فلا مانع عن هذا الشرط، و فائدته رفع الخيار عند تبيّن العيب.

[المسألة العاشرة في حكم بيع المسك في فأره]

مسألة بيع المسك في فأره

محلّ إشكاله أمران، الأوّل: حيث النجاسة و الطهارة، و الثاني: حيث رفع الغرر و الجهالة، أمّا الأوّل، فإن فرض توقّف طهارته على التذكية نظير الجلود و الشحوم أشكل حال المعاملة في موارد يعلم انتهاء يد المسلم إلى يد الكافر كما هو المتعارف الآن في أسواق المسلمين.

و أمّا إذا فرض هنا فرد لا يحتاج طهارته إلى التذكية ففي موارد الشكّ يسهل الأمر و يجري قاعدة الطهارة من دون حكومة أصالة عدم التذكية عليه كما في الفرض الأوّل، و الظاهر هو تحقّق فرض الثاني، فإنّ بعض أفراد الفأر عند سقوطه عن الحيوان في حياته لا يعدّ من الأجزاء المبانة عن الحيّ، و ذلك بواسطة بلوغه إلى

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 318

أوان الانقطاع و صيرورته زائدا عن أجزاء بدن الحيوان مثل الثمر على الشجر، هذا بحسب نفس الفأر.

و أمّا المسك فيه فلا يجري فيه استصحاب النجاسة الثابتة حال الدميّة؛

لأنّ هذا من موارد القطع بالاختلاف الموضوع في نظر العرف، فإنّ هذا الذي يسمّونه المسك و يمسحونه على الوجوه و الثياب يعدّ عندهم موضوعا مغايرا كمال المغايرة مع الدم و إن كان أصله و منشؤه الحاصل منه هو الدم، نظير الرماد الحاصل من الخشب و البيض الحاصل من الدجاجة، فإذن لا مانع من قاعدة الطهارة لا في نفس المسك و لا في فأره عند مشكوكيّته من جهة كون قطعه بعد أوان اقتطاعه أو قبله حال كونه جزء البدن و ورود التذكيّة على هذا التقدير عليه و عدمه.

و أمّا الثاني فمحصّل الكلام فيه أنه تارة نتكلّم من حيث الصحّة و الفساد و أخرى من جهة الصفات الزائدة على الصحّة الراجعة إلى مراتب الكمال، فالجهة الأولى يمكن رفع الغرر بأصالة السلامة و بالتوصيف بوصف الصحّة، و أمّا الجهة الثانية فإن فرض إمكان رفعه أيضا إمّا باختبار مسك آخر و اشتراط مثل تلك المرتبة في المبيع، و إمّا باختبار نفسه و لو بإدخال خيط بإبرة في جوفه و إخراجه و شمّه يتعيّن ذلك، و إن لم يفرض إمكان رفعه بهذه الوجوه بحيث دار الأمر بين ترك المعاملة أو فعلها مع وجود الجهالة، فاستظهر شيخنا الأستاذ- دام علاه- حينئذ أنّ العرف لا يرون الإقدام في مثل هذا من الغرر و لا ينصرف أذهانهم من نهى الغرر إلى مثل هذا.

ثمّ لو فرض حصول النقص بسبب إدخال الخيط للاختبار فهل يضمنه المشتري لو لم يشتره أو لا؟ مبنيّ على أنّ الإذن من المالك ظاهر في رفع الضمان أو لا؟

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 319

و التحقيق أنّ التصرّف المأذون فيه لو كان ملازما للنقص كما في المقام إذا فرض إدخال الخيط

قبل ذلك كرارا بحيث لو أدخل مرّة أخرى حصل النقص، أو كان معرضا لحصوله كما لو أذن بالإلقاء في الشطّ، إذ من المحتمل عدم ذهابه و بقائه في بعض سواحل الشط فالظاهر من هذا الإذن رفع الضمان، اللّهمّ إلّا أن يدّعي في خصوص مقام البيع عدم هذا الظهور و أنّه إنّما أذن من حيث رفع الحرمة التكليفيّة و لم يهتك ماله من حيث رفع الضمان الوضعي، و عهدة هذا على مدّعيه.

[المسألة الحادية عشر لا فرق في عدم جواز بيع المجهول بين ضمّ معلوم إليه أو لا]

مسألة لا فرق حسب القاعدة في عدم جواز بيع المجهول بين ضمّ معلوم إليه أو لا

إذ ضمّ المعلوم لا يصيّر المجهول معلوما بل المجموع أيضا مجهول، مثلا لو باع الدابّة و حملها أو بشرط الحمل فكما يعتبر معلوميّة الحمل عند بيعه استقلالا إمّا بإعمال طريق عقلائي رافع للجهل بجهاته الراجعة في زيادة القيمة و نقصانها من الذكورة و الأنوثة و تماميّة الخلقة و عدمها أو باشتراط ذلك في متن العقد، كذلك يعتبر ذلك بأحد النحوين في ما إذا أدرج في المبيع بنحو الجزئية أو الشرطيّة، و لا يثمر معلوميّة البقيّة بحال الحمل.

و هكذا الحال لو باع السمك في الآجام و هو لا يعلم هل هي موجودة أو لا، و على الأوّل بأيّ مقدار من العدد أو الوزن؟ فلا يكفي ضمّ مقدار من السمك الخارجي المعلوم بل لا بدّ من رفع الجهل في نفس سمك الأجمة إمّا بتحصيل الطريق الرافع للجهالة بالوجود و المقدار و سائر الأوصاف الدخيلة أو بالاشتراط، و لو لم يمكن شي ء من الأمرين فلا بدّ من التوقّف و عدم البيع إلّا بعد ما برز و خرج عن الماء، و هكذا الحال بعينه في اللبن في الضرع، و هذا واضح.

نعم يمكن أن

يقال: إنّ بعضا من الأشياء التي لا يحتاج انتقالها إلى المشتري

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 320

إلى لحاظ في الإنشاء و جعل متعلّق بها إمّا جزءا و إمّا شرطا و إمّا استقلالا بإنشاء آخر متولّد عن الإنشاء الأوّل لا يوجب جهلها غررا في البيع، و ذلك مثل مفتاح الباب في بيع الدار إذا تردّد أمره بين غالي القيمة و رخيصها لا يوجب هذا غررا في بيع الدار، إذ البيع لم يتعلّق بحسب الإنشاء بالدار و المفتاح، و لا بها بشرطه، و لا هنا إنشاء مستقل بنقل المفتاح معلول إنشاء نقل الدار؛ فإنّ المفروض عدم احتياج انتقاله إلى شي ء من ذلك و حصوله و لو مع الغفلة و الذهول بل و القطع بعدمه.

و على هذا فما وقع تحت الإنشاء البيعي لم يحدث غررا و ما أتى منه الغرر لم يقع تحت الإنشاء، بل و لو فرض تفسير البيع بالمعنى المسبّبي، أعني: النقل الحقيقي العرفي؛ فإنّه أيضا أمر مباين مع انتقال مثل المفتاح، نعم لو فرض التصريح في متن العقد باسمه شرطا أو شطرا فلا إشكال في مجي ء الغرر بالنسبة إليه.

و بالجملة كلّ ما دخل تحت الإنشاء بأيّ نحو من الدخول كان لا بدّ من مراعاة رفع الغرر فيه من غير فرق بين الكلّ و الجزء و الشرط و المشروط و التابع بأيّ معنى و المتبوع، نعم ربّما يكون التابع شيئا حقيرا غير معتنى بشأنه مثل البيض الموجود في بطن الدجاجة المشتراة، فإنّ الجهل في مثله من حيث الصغر و الكبر لا يحدث غررا هذا.

و لكن هنا أخبارا مستفيضة بعضها صحيحة صريحة في جواز الاكتفاء في رفع الغرر عن مجموع المبيع لارتفاع الجهالة في بعضه مثل

مرسلة البزنطي- التي قال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- إرسالها لوجود سهل فيها سهل- عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- قال: «إذا كانت أجمة ليس فيها قصب أخرج شي ء من السمك فيباع و ما في الأجمة» «1».

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 12، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 263، ح 2.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 321

و رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- في شراء الأجمة ليس فيها قصب إنّما هي ماء «قال: تصيد كفّا من سمك تقول: اشتري منك هذا السمك و ما في هذه الأجمة بكذا و كذا» «1».

و دلالة الخبرين على المدّعى المذكور لا يقبل الإنكار ظاهرا إذ هي بإطلاقها يشمل ما إذا علم أصل وجود السمك و شكّ في مقداره و أنّه المائة مثلا أو الألف، و لا يضرّ ما في الذيل من عدم التصريح بتعيين مقدار الكفّ المخرج، إذ أوّلا نقول: كما يوزن السمك يجوز بالعدّ أيضا كما هو المتعارف الآن، و ثانيا ليست الرواية بهذا الصدد، فهو من هذه الجهة محوّل على محلّه من اعتبار تعيين وزنه، فلا يستشكل أنّ الرواية بظاهرها تدلّ على كفاية ضمّ المجهول إلى المجهول فهي غير معمول بها عند أحد.

نعم لا يمكن التعدّي عن مورد الروايتين فليس فيها دلالة على الكليّة المدّعاة كما لا يمكن استفادة العموم من موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- كما في الفقيه على ما حكي «قال: سألته عن اللبن يشترى و هو في الضرع، فقال:

لا إلّا أن يحلب لك سكرجة فيقول: اشتر منّي هذا اللبن الذي في الأسكرجة و ما في ضروعها بثمن مسمّى، فإن لم يكن في الضرع شي ء كان ما في الأسكرجة»

«2».

و مثله ما في الصحيح على ما حكي إلى ابن محبوب عن إبراهيم الكرخي «قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السلام-: ما تقول في رجل اشترى من رجل أصواف مائة نعجة و ما في بطونها من حمل بكذا و كذا درهما؟ قال: لا بأس بذلك؛ إن لم يكن في بطونها حمل كان رأس ماله في الصوف» «3».

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 12، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 264، ح 6.

(2)- المصدر نفسه: الباب 8، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 259، ح 2.

(3)- المصدر نفسه: الباب 10، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 261، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 322

وجه عدم الإمكان أنّ التعليل مشعر بأنّ النظر ممحّض في جهل الحصول دون الصفة و المقدار فمساقهما مساق ما ورد في الضميمة في العبد الآبق، و كما لا يمكن الحكم هناك بكفاية معلوميّة الضميمة صفة و مقدارا عن معلوميّة صفة العبد لعدم ورود الإطلاق في هذا المقام كذلك في المقام بلا فرق، نعم لا بأس باستفادة العموم، مضافا إلى روايتي السمكة في الآجام من موثّقة إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد اللّه- عليه السلام- «في الرجل يتقبل بجزية رءوس الرجال و بخراج النخل و الآجام و الطير و هو لا يدري لعلّه لا يكون من هذا شي ء أبدا أو يكون، أ يشتريه و في أيّ زمان يشتريه و يتقبّل منه؟ قال- عليه السلام-: إذا علمت أنّ من ذلك شيئا واحدا أنّه قد أدرك فاشتره و تقبّل به» «1».

وجه الاستفادة أنّه إذا عطفت أشياء عديدة غير مرتبطة و وقع السؤال عن الجميع و صار الجواب عن الكلّ بكفاية الضميمة مع أنّ الجهل بالمقدار

أيضا حاصل و لا وجه لاختصاص النظر فيها كما في روايتي السمك بجهل الحصول لأنّ هذا خلاف الإطلاق بدون قرينة شاهدة على التخصيص كما في رواية العبد.

و بالجملة يستفاد من تكرّر موارد الحكم أنّ الحكم غير خاص بموضوع مخصوص، هذا بحسب أصل الدلالة في هذه الروايات الثلاثة على أصل المطلب و على عمومه لكلّ مورد، و أمّا الإيراد بأنّه لا قائل بهذه الكليّة فهو خلاف ما صدّر به عنوان البحث؛ فإنّه عنون بضمّ المعلوم إلى المجهول فأسند المنع إلى المشهور و الصحّة إلى بعض من المتقدّمين و المتأخّرين.

ثمّ إنّه يعلم من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- أنّ هناك قسمين من التابع، أحدهما التابع العرفي، فالجهل به و إن لم يستلزم غررا إلّا أنّ المجعول منه جزءا

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 12، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 264، ح 4.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 323

داخل في معقد الإجماع على إبطال الجهل في المبيع الشامل لأجزائه، نعم لو جعل شرطا خرج عن بيع الغرر و عن معقد الإجماع، و الثاني التابع بمعنى ما يندرج في المبيع من غير إناطة بالجعل بل يدخل و لو مع عدم خطوره ببال المتعاقدين، نظير المفتاح في بيع الدار، فاستظهر عدم الخلاف و الإشكال في عدم مضرّيّة الجهل به إلّا إذا استلزم غررا في نفس المبيع، انتهى المحصّل من مرامه.

و الظاهر أنّ مراده من استثناء الواقع في آخر الكلام ما إذا عدّ التابع وصفا من أوصاف المبيع، مثلا لو فرضنا أنّ العبد يملك و أنّ ما يملكه من قبيل ما يندرج في بيع العبد من غير إناطة بالجعل فلا شبهة أنّ الجهل به من هذا الحيث غير مضرّ و لكن

من أنّه منشأ انتزاع وصف التموّل و الثروة في موضوع المبيع و باختلافه يختلف قيمته اختلافا فاحشا لا بدّ من العلم به، هذا.

و لكنّا لم نعلم ما مراده من القسم الأوّل من التابع و كيف يكون الجهل بالشي ء في حال الجزئية و الشرطيّة مختلفا. إلّا أن يفرض الكلام في أشياء حقيرة في معاملة خطيرة مثل الثمرة على الشجرتين في الدار المردّدة بين منّ أو منّين في معاملة الدار بألف دينار، فإنّ الجهل بمقدار الثمرة حتّى بنحو التخمين لا يوجب غررا في هذه المعاملة و إن كان لو وقعت مستقلّة تحت البيع و الشراء حصل الغرر، و بعد عدم الغرر يكون المرجع هو الإجماع على إضرار الجهالة و هو ليس إلّا في صورة الجزئيّة.

[المسألة الثانية عشر في حكم الإندار]
اشارة

مسألة يجوز أن يندر لظرف ما يوزن مع ظرفه مقدارا يحتمل الزيادة و النقيصة على المشهور

اعلم أنّه بعد ما عرفت لزوم المعرفة بوزن المبيع تفصيلا و أنّ ما يصحّحه العرف من البيع كلّ رطل بدرهم مع عدم تعيين عدد الأرطال نظير ما تعارف

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 324

عندهم من إجارة الدار كلّ ليلة بدرهم بدون تعيين عدد الليالي قد منعه الشارع و أنّه لا بدّ من المعرفة التفصيليّة و إن كان الغرر مندفعا بالنحو المرسوم، فاعلم أنّ المعاملة على الموزون في الظرف على أن يكون المبيع نفس المظروف من ذلك القبيل أيضا، فاشتراكهما في عدم تعيين عدد أرطال نفس المظروف، نعم يتعيّن هنا عدد المجموع و لكنّه غير المبيع و لكنّه جوّز شرعا في هذا الباب ما كان ممنوعا في غيره و هذا لا شبهة فيه.

و لكن هل للإندار التخميني للظرف مدخل في صحّة المعاملة فيكون الشارع قد قنع عن

تعيين مقدار الظرف تحقيقا بتعيينه تخمينا و أغمض عن هذه الجهالة بمقدار المظروف، أو أنّه قنع بنفس تعيين وزن المجموع و لم يوجب تعيين مقدار المبيع حتّى بنحو الإندار التخميني للظرف أيضا؟ و حينئذ فإن وقع المعاملة بثمن معين لم تقع حاجة إلى الإندار أصلا، و إن وقع بنحو التسعير كان المعاملة صحيحة و لكن في مقام تعيين حقّ البائع يحتاج إلى الإندار.

لا بدّ في تشخيص الحال من هذه المرجع المراجعة إلى أخبار المسألة فنقول و على اللّه التوكيل:

منها: موثقة حنان «قال: كنت جالسا عند أبي عبد اللّه- عليه السلام- فقال له معمّر الزيات: إنّا نشتري الزيت في زقاقة و يحسب لنا فيه نقصان لمكان الزقاق، فقال- عليه السلام-: إن كان يزيد و ينقص فلا بأس، و إن كان يزيد و لا ينقص فلا تقربه» «1».

و منها: خبر علي بن جعفر المحكي عن قرب الاسناد «عن أخيه موسى- عليه السلام- قال سألته عن الرجل يشتري المتاع وزنا في الناسية و الجوالق فيقول: ادفع

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 20، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 273، ح 4.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 325

للناسية رطلا أو أقلّ أو أكثر من ذلك أ يحلّ ذلك البيع؟ قال- عليه السلام-: إذا لم يعلم وزن الناسية و الجوالق فلا بأس إذا تراضيا» «1».

و منها: رواية علي بن أبي حمزة «قال: سمعت معمّر الزيات يسأل أبا عبد اللّه- عليه السلام- قال: جعلت فداك- إلى أن قال-: يطرح لظروف السمن و الزيت لكلّ ظرف كذا و كذا رطلا فربّما زاد و ربّما نقص؟ فقال- عليه السلام-: إذا كان ذلك عن تراض منكم فلا بأس» «2».

و الكلام في مقامات:
المقام الأوّل: في تعيين أنّ المستفاد أيّ النحوين من الأخبار

فنقول: الظاهر دخل الإندار في

الصحّة؛ و ذلك لأنّ الظاهر أنّ السائل في هذه الأخبار إنّما يسأل عن كفاية الإندار المرسوم عندهم عن الوزن المعتبر الشرعي المرتكز في ذهنه، و من البعيد أن يكون غرضه أنّي فارغ عن صحّة الشراء و لكنّي أسأل عن أنّ هذه الكيفيّة كافية في تفريغ الذمّة في مقام الأداء و يتعيّن به حقّ البائع من الثمن أو لا، و إن كان الإندار بحسب ما هو المرسوم عند العرف لا يتقوّم به صحّة المعاملة و لكنّهم قد عرفت اقتناعهم بإجارة البيت كلّ ليلة بكذا. فالسؤال عن أنّه كما منع عن ذلك في ذلك المقام هل يمنع منه في هذا المقام أو لا.

نعم لا بأس بقرينة كون المتعارف عدم الالتزام بإيقاع الإندار في مجلس البيع أن يقال بأنّ حال هذا الشرط مثل القبض في بيع الصرف حيث إنّ البيع المسبّبي الشرعي لا يحصل إلّا بعده و لكنّ الإنشاء لا يلزم أن يكون مقارنا له،

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 20، أبواب عقد البيع و شروطه، ص 273، ح 3.

(2)- المصدر نفسه: ص 272، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 326

فيجوز هنا أيضا تأخّر الإندار عن الإيجاب و القبول و لكنّ النقل الشرعي متأخّر عن وقوع الإندار.

المقام الثاني: في تشخيص الحال من جهة اعتبار التراضي المذكور في الأخبار

و أنّه ما وجه الاعتبار و قد كان اعتباره مفروغا عنه في المعاملة شرعا و عرفا فيكون ذلك قرينة على أنّ المراد في الأخبار هو الوجه الآخر، أعني: اعتبار الإندار لتعيين الحقّ لا لمدخليّته في المعاملة.

و يمكن أن يقال إنّه لدفع توهّم أن يكون العلم الإجمالي بالإندار على نحوه المتعارف بين التجّار مع عدم التفات إلى صورته التفصيليّة كافيا في صحّة المعاملة نظير المعاملة بالثمن الذي بيع به من زيد، فإنّه

لا يكفي في العلم بمقدار الثمن هذا الوجه الإجمالي، فكذلك هنا أيضا لا يكفي الإندار بما هو المرسوم عند التجار من دون علم بصورته التفصيليّة، و حينئذ فنقول: مورد الخبر الأوّل ظاهرا هو التراضي، فإنّ الحاسب هو البائع أو وكيله، و المحسوب له هو المشتري فأغني ذلك عن التقييد في كلام الإمام- عليه السلام- فلا إطلاق له حتّى ينافي الخبرين الآخرين.

المقام الثالث: لا إشكال أنّ الأصل على الوجه الذي ذكرنا هو الفساد مع ما عرفت من دخول المورد في عمومات الغرر و الجهالة

و أمّا على ما اختاره شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- فقد اختار مذهب المشهور من جواز إندار ما يحتمل الزيادة و النقيصة، قال- قدّس سرّه-: لأصالة عدم زيادة المبيع عليه و عدم استحقاق البائع أزيد ممّا يعطيه المشتري من الثمن.

قال شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة-: أوّلا: مقتضى الأصلين الاكتفاء بالقدر المتيقّن، فما وجه اختيار مذهب المشهور من تعيين ما يحتمل الزيادة و النقيصة من دون إناطة بالتراضي؟

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 327

و ثانيا: إن كان المراد بالأصل الأوّل استصحاب عدم زيادة المبيع بنحو ليس الناقصة فليس له حالة سابقة و ليس كاستصحاب عدم زيادة ماء الحوض الموجود تدريجا فيه على مقدار الكرّ بأن يقال: قد وجد السمن في الجدل تدريجا و كان أوّل وروده أقلّ من ثمانية أمنان مثلا؛ إذ مع عدم جريانه في الظروف المتّسعة ليس للوجود في الجدل مدخليّة، و أصل الوجود مشكوك الحال من أوّل الأمر.

و إن كان المراد بنحو ليس التامّة فغاية ما يثبت به عدم المبادلة بين المقدار المتّصف بالزيادة و ما يوازيه من الثمن، و أمّا إثبات الحال بواسطة ذلك مع ضميمة الوجدان بأن يقال فالواقع محدود بحدّ كذا مبنيّ على الأصل المثبت، نعم الأصل الثاني- حيث إنّ المقام ممّا دار الأمر فيه بين الأقل و الأكثر

الاستقلاليين- لا مانع منه لإثبات الحدّ الأقلّ الذي لا يحتمل النقيصة و يحتمل الزيادة لكن لا يثبت به الآثار الوضعيّة المترتّبة على دفع الثمن من سقوط الخيار و نحوه.

المقام الرابع: في قوله- عليه السلام-: «إن كان يزيد و ينقص فلا بأس، و إن كان يزيد و لا ينقص فلا تقربه»

الظاهر أنّ المراد بالمتعاطفين فعليّتهما لا احتمالهما، و الظاهر كونهما وصفين لمجموع النقصان المحسوب لا لجزئه، و حينئذ فيتعيّن الحمل على النوع و أنّه متّصف بالزيادة تارة و بالنقيصة أخرى، و لازم ذلك كون الشخص مشكوك الحال، و الظاهر أنّ المناط الواقعي هو الاحتمال، و إنّما ذكر ذلك توطئة له، و المشهور أيضا فهموا ذلك لا أنّهم حملوه على احتمال ابتداء حتّى يكون خلاف الظاهر، و الظاهر رجوع الضمير كما ذكرنا إلى المقدار المحسوب دون الوزن الواقعي للظرف و دون المظروف.

و تظهر الثمرة في الفقرة الأخيرة؛ فإنّه على التقدير الوسط يكون المراد ظهور المبيع أنقص من تخمين بايعه، و على الأوّل و الأخير يكون الأمر بالعكس، و لكن لا فائدة في هذا بعد أنّ الظاهر أنّ القضيّة الأخيرة في مقام التفريع على الأولى و يكون

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 328

المناط هو احتمال الزيادة و النقيصة و عدمه إمّا بعلم الزيادة أو بعلم النقيصة كما هو الظاهر من أمثاله من القضايا.

ثم إنّ شيخنا الأستاذ- دام أيّام إفاداته الشريفة- جعل القضيّة الأخيرة بملاحظة ما سبق من كون المورد صورة التراضي، و إلّا على ما اختاره من الوجه من مدخليّة الإندار في صحّة المعاملة بتقريب أنّه لم يبق وجه للنهي في صورة العلم بالزيادة لو نزلت القضيّة على مقام إيفاء الحقّ بعدم تمام المعاملة؛ لأنّ الفرض حصول التراضي، و لا معنى له عند العلم بتخلّف المدفوع عن الحقّ الواقعي إمّا بالزيادة أو بالنقيصة إلّا الإسقاط أو الهبة،

و هذا بخلاف ما لو حملت على مقام تصحيح المعاملة؛ فإنّه حكم تعبّدي يمكن أن يجعله الشارع خاصّا بمورد دون آخر، هذا.

المقام الخامس: قد ورد الحكم في الأخبار المذكورة في السمن و الزيت و المتاع

و في جانب الظرف في ظروف السمن و الزيت و الناسية و الجوالق، و بعد هذا فإمّا أن يجمد على خصوص هذه الموارد- لكنّه من المستبعد التزامه- و حينئذ فلا وجه للتعدي إلى كلّ ضميمة يضمّ إلى المبيع مع عدم قصد بيع المجموع، فإمّا نتعدّى إلى أمثال ما ذكر ممّا يكون مظروفا و متعارف البيع في الظرف و كان وزن الظرف على حدة شاقّا، و لم يعلم وجه للتعدّي إلى غير ذلك بل لو كنّا و الخبر الأوّل زاد على ما ذكرنا احتمال اعتبار كون المظروف مثل السمن في الزقاق ممّا يلتصق بالظرف و يشقّ تخليص الظرف منه.

ثمّ إنّ هنا رواية أخرى غير الثلاثة التي ذكرناها ربّما يستظهر من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- جعلها من روايات الباب، و لكن ليس في الرواية ما يشهد بذلك فراجعها في كلامه- قدّس سرّه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 329

المقام السادس: في بيع المظروف مع الظرف

أعلم أنّ بيع الشيئين المختلفي الجنس كالحنطة و الشعير بصفقة واحدة و وزن واحد لا إشكال فيه مع اتّحادهما في القيمة، إذ لا يعتبر العلم إلّا بوزن المبيع جملة لا بكلّ جزء جزء منه، و كذلك لو حصل من انضمامهما صورة ثالثة و لو اختلفا قيمة كالسكنجبين و أمثاله، كما أنّه لا إشكال في العدم مع عدم الأمرين، و إن كان أحد المنضمّين ظرفا و الآخر مظروفا كالسمن في البادية من الصفر مع اختلافهما قيمة فإنّه غرر منهيّ عنه و إن كان يجوز بيع السمن في البادية وحدة، فإنّ ذلك لا يوجب تجويز ما ذكرنا، هذا إذا كان الظرف ممّا يوزن، و أمّا إذا كان ممّا يشاهد كالجلد، فبناء على ما ذكرنا يمكن الخدشة فيه، إذ مورد الأخبار لا

شبهة في أنّه صورة انفراد المظروف بالبيع، فلا بدّ من دعوى تنقيح المناط القطعي و أنّي لنا ذلك، فكما أنّ السمن عند انفراده عن الظرف و حال وجوده فيه اختلف حكمه فما الاستبعاد في اختلاف الحكم بين صورة انفراده بالبيع و انضمامه مع الظرف في حال وجوده في الظرف أيضا، بل يمكن الخدشة في الحكم لو انضمّ إلى السمن في الجلد شي ء آخر مثل الكتاب، نعم لا بأس بسمن آخر في الجلد.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 330

[مسألة في وجوب التفقّه و التعلّم في الأصول و الفروع و بيان الحال عند مزاحمته مع الاكتساب]

اعلم أنّ التعلّم في مسائل الأصول واجب بحكم العقل المستقلّ بلزوم دفع ضرر المحتمل؛ لأنّه بعد بعث مدّعي النبوّة يحتمل وجود الصانع و صدق المدّعي و أنّه يعاقبه على ترك الفحص.

و بعبارة أخرى يحتمل وجود الحجّة التي لو فحص ظفر بها لا أنّ هذه القاعدة تصير بيانا و حجة بل احتمال وجود الحجّة في الواقع بحيث يعلمه تفصيلا لو فحص كاف في صحّة العقوبة بحكم العقل، و هذا واضح.

و أمّا التعلّم في مسائل الفروع فينقسم إلى قسمين، الأوّل: ما يجب عينا على كلّ أحد في معاملاته و عباداته لتكليف شخص نفسه، و الثاني: ما يتوقّف عليه قيام أمر الشريعة من قبيل «لو لا القمّيون لاندرست آثار النبوّة» و كذا الواجب في جانب الاكتساب أيضا، ينقسم إلى قسمين، أحدهما: ما يجب على كلّ شخص عينا لإنفاق نفسه و عياله، و الثاني: ما يجب لأجل انتظام أمر نوع العباد و البلاد من صناعة الصناع و غيرها من الواجبات الكفائيّة.

أمّا القسم الأوّل: أعني: الواجب العيني من تحصيل العلم، فالإنسان و إن كان يحتمل أنّه لم يتّفق له في شي ء من المعاملات التي يتصدّاها في عمره خلاف مشروع أصلا و لكنّه

لا يأمن من الوقوع أيضا، و نفس هذا الاحتمال مع فرض كون الحجّة قائمة ملزم عقلي لاختيار أحد أمرين إمّا الاحتياط و إمّا تعيين الحال و طلب

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 331

العلم اجتهادا أو تقليدا، فإن فرضنا استلزام الأوّل لاختلال النظام كان المتعيّن هو الثاني.

فعلم أنّ وجوب التعلّم ليس من باب المقدّمة الوجوديّة إذ قد عرفت إمكان عدم الوقوع في مخالفة مشروع أصلا مع الجهل و لكنّه واجب عقلا للأمنيّة و الاطمئنان، و لا فرق بين الالتفات حال العمل و الغفلة في الأثناء بالنسبة إلى بعض المعاملات و العبادات بعد وجود الالتفات من الأوّل و لا يتوقّف على العلم الإجمالي بوجود غير المشروع في ما يرتكبه، بل نفس الاحتمال حيث إنّه مساوق احتمال وجود الحجّة على العقاب يكفي للبعث العقلي حذرا عن العقاب المحتمل.

و أمّا القسم الأخير من تحصيل العلم و هو ما كان مقدّمة لبقاء الآثار و عدم الاندراس فوجوبه ممّا لا يحتاج إلى مزيد بيان بل هو بمرتبة لا يزاحمه حفظ النفوس الطيّبة المقدّسة، فلو دار الأمر بين بقاء الدين و بقاء النبيّ كان المتعيّن الأوّل، هذا حاصل الكلام في أصل وجوب القسمين.

و أمّا الكلام في المزاحمة فنقول: أمّا القسم الأوّل من التعلّم الواجب العيني لو زاحمه وجوب الكسب المتوقّف عليه حفظ النظام فلا ريب في أولويّة الثاني مع عدم من به الكفاية، و أمّا مع وجوده فلا مزاحمة، و لو زاحمه وجوب الكسب اللازم لقوت نفسه و عياله الواجبي النفقة حيث يحرم على ذي المرّة السوي بقائه معطّلا و جعل نفسه كلّا على الناس بأخذ الزكوات و الصدقات- فإنّ مستحقّ الزكاة غير ذي مرّة- فالواجب عليه التعلّم، و يخرج بذلك

عن كونه ذا مرّة لأنّ الوجوب الشرعي كالعقلي، فيجوز له أخذ الزكاة و التعطّل عن الكسب بالاشتغال بتحصيل العلم الواجب إمّا اجتهادا أو تقليدا.

و أمّا القسم الثاني منه: أعني: ما كان مقدّمة لبقاء الدين فلا يزاحمه شي ء من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 332

نحوي الكسب لا العيني و لا الكفائي عند عدم من به الكفاية في شي ء من الجانبين أو من جانب التعلّم، و أمّا مع وجود من به الكفاية في جانب التعلّم و عدمه في جانب الكسب، المتعين هو الثاني.

و لو فرض في هذه الصورة تزاحمه مع الكسب الواجب العيني فقد يقال إنّه من باب التزاحم بين الواجب و المستحبّ، و من المعلوم تقدّم الكسب الذي هو الواجب أيضا، و لكن يمكن أن يقال: و إن كان التعلّم مستحبّا لكن يمكن استفادة تقييد دليل ذلك الواجب بدليل هذا المستحب، حيث إنّ في أخبار طلب العلم ما يقرب هذا المضمون من «أنّ اللّه قد ضمن و تكفّل لطالب العلم رزقه» فيعلم بذلك أنّ الخطاب بالكسب في أدلّته خاص بغير طالب العلم.

إن قلت: ما استندت في حرمة التعطيل عن الكسب عند عدم الاشتغال بالعلم من كونه ذا مرّة سويّا و لا يستحقّ حينئذ الزكاة موجود في حال الاشتغال أيضا، لأنّ الاستحباب الشرعي ليس كالوجوب الشرعي حتّى يقال: إنّه كالوجوب العقلي سالب للعنوان المذكور.

قلت: إذا فرض فعليّة الاستحباب في حقّه و أراد العمل بهذا الحكم الفعليّ و صار مشتغلا به فهو عرفا خارج عن العنوان المذكور ما دام باقيا على بنائه و شغله.

هذا جملة ما استفدته في هذه المسألة من بحث مولانا الأستاذ- أطال اللّه تعالى إفاداته.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 333

[القول في النقد و النسيئة]

اشارة

القول في النقد

و النسيئة «1»

ينقسم البيع باعتبار التقديم و التأخير في أحد العوضين إلى أربعة أقسام:

بيع الحاضر بالحاضر سواء كانا كليين أم شخصيّين و هو النقد، و بيع المؤجّل بالمؤجّل- و هما لا محالة كلّيان- و هو بيع الكالي بالكالي، و بيع الحاضر بالثمن المؤجّل- سواء كان الحاضر كلّيا أم شخصيّا- و هو بيع النسية، و بيع المؤجّل بالحاضر و هو السلم.

و اعلم أوّلا: أنّ عنوان بيع الكالي بالكالي ليس في الأخبار على ما حكي، و لو فرض وجود بيع الدين بالدين فيها لكان الظاهر من هذا العنوان هو الدين الذي ثبت عنوان دينيّته مع قطع النظر عن هذا البيع، فينحصر فرده في ما هو صحيح بالاتّفاق من بيع دين ثابت للبائع في ذمّة شخص من ذلك الشخص بإزاء دين ثابت لهذا الشخص على ذمّة ثالث، و على فرض صدقه على الدين الذي ثبت دينيّته بهذا البيع لم يكن وجه لتخصيصه بصورة التأجيل، و ذلك لصدق الدين على الثابت في الذمّة من غير فرق بين تعجيله و تأجيله، ألا ترى أنّ الدين عند حلول أجله دين و لا ينتفي عنه موضوع الدينيّة؟

______________________________

(1)- كان هذا البحث في نسخة المؤلّف- دام ظلّه- كمتاجر الشيخ الأنصاري- رحمه اللّه- بعد بحث الخيارات فلا تغفل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 334

فالحاصل أنّ الحكم في خصوص الفرد الذي قالوه، أعني: الدين الحاصل دينيّته بهذا البيع مع كونه مؤجّلا لا شاهد عليه إلّا الإجماع على فرض ثبوته.

[و ينبغي ذكر هذه المسائل]

[المسألة الأولى إطلاق العقد يقتضي النقد و الملكية]

مسألة: اعلم أنّ العقد عند عدم تقييد الأجل يفيد الملكيّة، و مقتضى الملكية وجوب الدفع إلى صاحب المال، غاية الأمر مع شرطه الذي هو بذل الطرف الآخر أو تمكينه، و لو امتنع يجبر و لا خيار، و

هذا مراد التذكرة حيث علّل- على المحكيّ كون الإطلاق مقتضيا للنقد- بأنّ قضيّة العقد انتقال كلّ من العوضين إلى الآخر، فيجب الخروج عن العهدة متى طولب صاحبها، و بالجملة: النقد مقتضى الأصل الأوّلي في الأملاك فخلافه يحتاج إلى دليل.

و أمّا كون الإطلاق منصرفا إلى اشتراء النقد فلا نسلّم ذلك و مجرّد كونه داعيا غالبيّا لا يثمر، و يدلّ على الحكم- مضافا إلى ذلك- الموثق: «في رجل اشترى من رجل جارية بثمن مسمّى ثمّ افترقا؟ فقال: وجب البيع، و الثمن إذا لم يكونا شرطاه فهو نقد» «1».

ثمّ إنّ الشرط يمكن أن يكون لنفع البائع، و يمكن أن يكون لنفع المشتري، و المعتبر كيفيّة اعتبار المنشئ، فتارة يكون الملحوظ في جعل الأجل- إمّا في طرف الثمن كما في النسية أو في المثمن كما في السلم- نفع المشتري في الأوّل و البائع في الثاني، أعني: لا يكون في ضيق من جهة الأداء و فوريّته عند حصول المطالبة كما هو قضيّة طبع العقد على ما عرفت بل يكون التأخير في المدة المضروبة له جائزا.

و ربّما يكون الملحوظ فيه نفع الطرفين، أعني: أنّه لا يجب عليه الإقدام الفوري عقيب المطالبة، و الطرف الآخر أيضا يستحقّ عليه فوريّة الأداء عند حلول

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 1، من أبواب أحكام العقود، ص 366، ح 2.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 335

الأجل، ففي الصورة الأولى متى حلّ الأجل و سامح كان عاصيا و يجبر و في الصورة الثانية علاوة على العصيان تخلّف عن شرطه، فيحصل للجانب الآخر خيار تخلّف الشرط، هذا بالنسبة إلى ما بعد الأجل، و كذا بالنسبة إلى ما قبله، أعني: تارة يكون الملحوظ نفع المشتري في النسية و البائع

في السلم كما عرفت، و أخرى يكون الملحوظ نفعهما أعني: أنّ الطرف الآخر أيضا يستحقّ الامتناع لو بذل الآخر و أراد تفريغ عهدته، و المدار في ذلك كيفيّة اعتبار المنشئ.

و الظاهر المتعارف من الشرط من الحيثيّة الثانية، أعني: ما قبل الأجل ملاحظة نفع من عليه الحقّ؛ لأنّ نفع من له الحقّ فرض نادر لا يحمل عليه الإطلاق، و إذن فمقتضى القاعدة أنّه لو تبرّع المشتري في النسية بالأداء قبل الأجل أو البائع في السلم كذلك ليس للطرف الآخر الامتناع عن القبول؛ إذ بعد عدم الشرط- كما هو المفروض من قيام الظاهر عليه- يكون على حسب القاعدة الأوّليّة، و هو تسلّط من عليه الحقّ في مقام تفريغ ذمّته و عدم الحقّ لمن له الحقّ في الامتناع عن الأخذ و القبول.

لكنّ الذي يمنع الفقيه عن الفتوى أنّهم ادّعوا الإجماع أو عدم الخلاف في جواز الامتناع، و إن احتمل أن يكون نظرهم إلى سلب عنوان الماليّة عنه قبل الأجل، كما يحتمل أن يكون هذا أيضا وجه إجماعهم على عدم جواز بيع المشتري في السلم قبل حلول الأجل، و من المعلوم بطلان هذا الوجه لأنّه مال فعلا في عهدة الطرف، و الأجل ظرف للإمهال في الأداء و إلّا فاللازم بطلان أصل المبايعة، لوقوعها على ما ليس بمال فعلا و إنّما يصير مالا بعد ذلك و هو غير كاف، لكنّ الفقيه لا يجسر بمجرّد هذا الاحتمال على رفع اليد عن مقتضى الإجماعين، هذا من الحيثيّة الثانية.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 336

و أمّا الكلام من الحيثيّة الأولى، أعني: ما بعد الأجل، فالظاهر من جعل الأقساط للثمن أو المثمن ملاحظة نفع الطرفين، إذ نشاهد أنّه لو سامح في رأس الأجل عن

أداء القسط المقرّر يرى نفسه مخلفا للقول لا مجرّد كونه عاصيا، و هذا دليل على ملاحظة الأمرين معا في الشروط، و على هذا فلو أخّر كان للآخر خيار تخلّف الشرط.

ثمّ المحكيّ عن المشهور أنّ اشتراط التعجيل تأكيد لمقتضى الإطلاق، و أنت خبير بفساد هذا الكلام بظاهره، نعم لو قلنا بانصراف الإطلاق إلى الاشتراط صحّ لكن عرفت منعه، و حينئذ فالإطلاق لا يقتضي إلّا وجوب التعجيل بالوجوب التكليفي، و أمّا لو انضمّ الاشتراط فيصدق على المسامحة عنوان خلف القول و الشرط فيستحقّ الطرف الآخر للفسخ كما في كلّ شرط، فأين التأكيد؟ نعم الظاهر أنّ طبع الشرط طبع ما كان مقتضى العقد لا أنّه جعل شيئا زائدا عليه، فلا بدّ من التكلّم في مقتضى العقد و أنّه ماذا؟

لا إشكال في أنّه ليس مقتضاه الفوريّة الغير المنوطة برضا من له الحقّ بمعنى أنّه لا يفرق في وجوبه الفوري رضاه بالتأخير و عدمه، بل لا كلام في أنّه برضاه بالتأخير يسقط الوجوب، و أمّا لو كان غافلا و خاليا عن الرضا و الكراهة، أو يكون ملتفتا و لا يطالب لأجل مانع من الإظهار مثل الاحتشام عن المطلوب منه، فلا دليل على السقوط فيه، فقولهم: عند عدم المطالبة ينتفي الفوريّة القدر المتيقّن منه هو الرضا القلبي المستكشف إمّا بطريق قطعي أو كاشف عرفي مثل السكوت في بعض المواضع.

و أمّا صورة الخلوّ عن الأمرين فهي باقية تحت القاعدة الأوّليّة؛ و ذلك لأنّ كلمة عدم المطالبة بحسب اللغة و إن كان أعمّ من صورة الخلوّ و لكنّه عرفا ظاهر

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 337

في طلب البقاء، نظير كلمة (فلان غير راض) حيث إنّه ظاهر في أنّه كاره و إن كان

لغة أعمّ منه و من الغافل الصرف.

إذا عرفت ذلك فنقول: الظاهر من حال المشترط أيضا أنّه يلزم المشروط بمثل هذا المعنى، أعني: أنّه ما لم يرض بالبقاء يكون ملزما بالأداء، فلا إلزام مع الرضا، فإن كان المراد من التأكيد هذه الجهة فلا كلام، هذا.

[المسألة الثانية في اشتراط تأجيل الثمن مدة معينة غير محتملة مفهوما و لا مصداقا للزيادة و النقصان الغير المتسامح فيهما]

مسألة لا إشكال في أنّه لو اشترطا أجلا في النسية غير معيّن مفهوما، مثل أن يجعلاه (مهرجان) و لم يعلما ما المراد بهذه اللفظة و أنّه أوّل الاعتدال الخريفي يكون باطلا للغرر.

و أمّا إذا عرفا المفهوم كالنيروز أو رأس شهر رجب و لكن لم يعرفا ماذا مقدار ما بينهما و ما بين الأجل لعدم علمهما بأنّ هذا اليوم أيّ يوم من الشهر أو لعدم العلم بأنّ الشهر ثلاثون كاملا أو تسعة و عشرون، و كذا التأجيل بآخر اليوم مع عدم العلم بساعات بقين من اليوم فإنّه لا إشكال في بطلان صورة الاشتراط بنفس المردّد بين هذه الأمور و كونه غررا، كان يجعل الأجل مردّدا بين ثلاثين أو تسعة و عشرين أو ست ساعات أو خمس.

و أمّا في صورة جعل الأجل نفس المفهوم المردّد مصداقه فقد يقال بالصحّة، و يقاس بالبيع بعيار البلد مع عدم المعرفة بالمصداق، فإنّه قليلا ما يعرف المتعاقدان اشتمال المنّ مثلا على أيّ مقدار من المثاقيل على التفصيل، مع أنّه لو تردّد في الوزن بين مقدارين من المثقال فهو غير جائز، و ربّما احتمل الاكتفاء بالمعرفة عند العامّة.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 338

قال شيخنا الأستاذ- أطال اللّه بقاه-: الظاهر صحّة المعاملة في كلا الفرضين، أعني: صورة عدم المعرفة بمصداق الأجل مع معرفة المفهوم، و صورة عدم المعرفة بمصداق وزن البلد مع معرفة المفهوم، لكن كلّ من البابين

بملاك خاص به غير جار في الآخر.

أمّا في التوقيت بالأجل، فلأنّ الأجل و هو رأس المدّة و لو لم يعلم مقدار المسافة الفاصلة في البين أمر معلوم، فآخر الشهر أو آخر السنة أو أوّل رجب أجل معلوم عرفا لا جهل فيه، بخلاف يوم موت زيد و يوم الحصاد و قدوم الحاج، فإنّه ليس تحت انضباط بحيث وقع في كلّ شهر في يوم معيّن مثلا، أو في كلّ سنة كذلك، و نحن إذا راجعنا أخبار باب السلم و رأينا الاكتفاء فيه بالأجل المعلوم فنعلم أنّ باب النسية ليس فيه شي ء أزيد من ذلك الباب.

و أمّا الجهل بمقدار الفصل حيث إنّه مردّد بين عددين متفاوتين تفاوتا فاحشا فلعلّ السرّ في عدم لزوم الغرر أنّ حوائج الناس غالبا مقسّطة على تلك الآجال، مثلا احتياج الناس إلى النقد غالبا في رأس النيروز أو في رأس الشهر، و الحاصل يحدث عند هذه الآجال حوائج مخصوصة و يحصل الحاجة إلى النقد فيها لأجل رفع تلك الحوائج، فإذا علم أنّ رأس الاعتدال الخريفي يحصل بيده النقد، و المفروض أنّه يوم شراء الكتيراء، أو القطن أو الحاجة الكذائية فهو عالم بوصوله إلى النقد يوم احتياجه للحاجة الكذائية، فلا غرر.

و أمّا في المعاملة بعيار البلد مع عدم العلم بمقدار مثاقيله، فلعلّ الوجه في عدم الغرر أنّ الاتّكال غالبا في تعيينها على تعيين شخص خبير رئيس في المملكة فهو قد عيّن العيار بالمداقّة، و سائر الناس اتّكلوا على تعيينه، فهم عارفون إجمالا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 339

بصحّته و انضباطه، و أمّا احتمال كفاية علم العامّة ففيه ما لا يخفى من الوهن بعد أنّ المعتبر رفع الغرر عند المتعاقدين.

و بالجملة: حال الآجال غير حال

العيار، فإنّ الآجال معلومة مضبوطة في حدّ أنفسها من غير اتّكال على أحد، فرأس الشهر من المواقيت المعلومة و لو لم يعلم المسافة إليه و عدد الأيّام الواسطة في البين، و أمّا وزنة البلد فهي و قطعة حجر أخرى غير وزنه متساوية في عدم المعرفة إلّا بجسمهما المحسوس، فالاتّكال على تشخيص الخبير المؤسّس.

ثمّ بعد تعيين مدّة الأجل لا فرق بين القصير و الطويل ما لم يخرج عن حدّ العقلائية و أمّا إذا فرض- من جهة كثرة طول المدّة كألف سنة- صيرورة المعاملة سفهيّة مثل بيع ما يساوي عشرة دراهم بعشرة آلاف دينار إلى رأس ألف سنة، فإنّ كثرة الثمن لا تخرج عن كونها سفهيّة لأنّه لا يعلم ماذا يصير حال المشتري بعد الألف هل يكون موجودا بوارثه أو منقرضا و هل يكون ذا مال أو بلا مال ففي الحقيقة يعدّ هذا تفويتا لعشرة دراهم. و بالجملة الحكم بالفساد لأجل كون المعاملة سفهيّة متّجه، و أمّا احتمال خروجها عن ذلك بواسطة حكم الشارع عليه بالحلول عند الموت ففاسد، لأنّ حكم الشارع يتعلّق بالموضوعات بملاحظة حالها قبل الحكم و لا يلاحظ أنّها بما ذا تتّصف بعد ورود الحكم، فإذا فرضنا أنّ الحكم في المعاملة مخصوص بالمعاملة الغير السفهيّة فالمتّبع وجود هذا العنوان مع قطع النظر عن حكم الشارع، و لا ينظر إلى عدمه بملاحظة حكم الشارع كما هو الحال في الضرر و الغرر، هذا.

و لكن شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- جعل هذا من أفراد الشرط المخالف للسنّة بملاحظة أنّ الشارع جعل الموت سببا للحلول، و جعل الأجل ألف سنة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 340

ينافي ذلك، و هو منه عجيب، فإنّ الشرط إذا كان مخالفا للسنّة لا

يكون صحيحا، و إذا كان فاسدا فلا ينعقد من الأوّل فكيف يحكم بكونه حالًّا عند الموت، فهذا الحكم مفروض في الشرط الصحيح.

و بعبارة أخرى: الالتزام الشرطي لا إطلاق له بالنسبة إلى ورود نفسه، و الحكم وارد بهذه الملاحظة، و مثل هذا لا يعدّ مخالفا، و إن شئت قلت: الموضوع هو الشرط الذي يكون صحيحا لو لا هذه الجهة، نعم لو شرط أنّ الموت لا يكون سببا للحلول كان مخالفا للسنّة، و أمّا شرط الأجل فلا، كيف و إلّا يلزم سدّ باب صيرورة الموت سببا للحلول رأسا لصيرورة الشرط فاسدا من الأوّل بواسطة طروّ الموت قبل الأجل، و لعلّه- قدّس سرّه- أشار إلى هذا بقوله- قدّس سرّه-:

فافهم.

[المسألة الثالثة في حكم من باع بثمن حالا و بأزيد منه مؤجلا]

مسألة لو باع نقدا بثمن و مؤجّلا بأزيد منه فهل يحكم بالفساد رأسا و عدم ترتّب الأثر عليه مطلقا- لا المقصود و لا غيره كبيع أحد العبدين- أو يحكم بالصحّة و ترتّب الأثر المقصود أو يحكم بعدم ترتّب الأثر المقصود و وقوعه موضوعا لحكم شرعي تعبّدي و هو استحقاق البائع أقلّ الثمنين في أبعد الأجلين؟

و ليعلم أوّلا: أنّ محلّ كلامنا صورة الترديد في الثمن، فيخرج منه ما إذا جعل الثمن واحدا معيّنا و شرط أنّه لو أخّر زاد عليه مقدارا، فإنّه من شرط الربا و يكون فاسدا و غير مفسد على ما مرّ من عدم إفساد الشرط الفاسد، و يخرج أيضا ما إذا باع بالثمن الأقلّ معلّقا على النقد و باع بيعا آخر بالثمن الأكثر معلّقا بالتأجيل، فإنّه فاسد من جهة التعليق.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 341

فالكلام ممحّض في البيع المنجّز مع الترديد في الثمن، و هو الذي وقع التعبير عنه في الأخبار بشرطين في بيع تارة، و

بيعين في بيع أخرى، و صفقتين في صفقة ثالثة، و الأقوى فيه القول بالفساد بمعنى عدم ترتّب الأثر المقصود و كونه موضوعا للحكم شرعا باستحقاق البائع بإزاء المبيع أقلّ الثمنين في أبعد الأجلين.

أمّا الفساد؛ فلأجل ما ورد من النهي عن شرطين في بيع و بيعين في بيع و صفقتين في صفقة، و قوله- عليه السلام-: «من ساوم بثمنين أحدهما عاجل و الآخر نظرة فليسمّ أحدهما قبل الصفقة» «1» فإنّه إمّا يحمل ذلك النهي و هذا الأمر على الإرشاد و إمّا على التحريم، فعلى الأوّل يدلّ على الفساد، بمعنى أنّه إذا أردت أن ينفذ مقصودك فافعل هكذا، و على الثاني لا ينافي مع ما دلّ على الفساد بهذا المعنى مع ترتّب أثر آخر و هو ما دلّ على المطلب الثاني و هو روايتان.

إحداهما: رواية محمّد بن قيس المعتبرة «قال أمير المؤمنين- عليه السلام-: من باع سلعة فقال: إنّ ثمنها كذا و كذا يدا بيد و ثمنها كذا و كذا نظرة فخذها بأيّ ثمن شئت و جعل صفقتها واحدة فليس له إلّا أقلّهما و إن كانت نظرة» «2» فإنّ هذا ظاهر في أنّه ليس للبائع استحقاق أزيد من الأقلّ، و إن كان على وجه النظرة فليس له استحقاق الزيادة و لا استحقاق المطالبة قبل الأجل، نعم لا ينافي هذا مع وجوب التعجيل على المشتري و كونه عاصيا بالتأخير نظير من اشترى نسية و نذر قبل الأجل أداء الثمن، فإنّه عاص بالتأخير لمخالفة النذر و لكنّ البائع غير مستحقّ للمطالبة قبل الأجل.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 2، من أبواب أحكام العقود، ص 367، ح 1.

(2)- المصدر نفسه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 342

و الثانية: رواية السكوني «عن جعفر-

عليه السلام- عن أبيه عن آبائه- عليهم السلام-:

أنّ عليا- عليه السلام- قضى في رجل باع بيعا و اشترط شرطين بالنقد كذا و بالنسية كذا، فأخذ المتاع على ذلك الشرط؟ فقال- عليه السلام- هو بأقلّ الثمنين و أبعد الأجلين، يقول: ليس له إلّا أقلّ النقدين إلى الأجل الذي أجّله بنسية» «1».

و هذا صريح في عدم استحقاق البائع لا الأزيد من الأقلّ و لا المطالبة قبل الأجل، نعم، هذا أيضا لا ينافي مع عصيان المشتري بالتأخير، و أمّا حمل الروايتين على صورة البيع بثمن نقدا و اشتراط الربا، أعني: لو أخّر يزيد مقدارا فيأبى عنه ظاهرهما من كون جعل الثمن على هذا النحو أي الترديد، غاية الأمر أطلق في الثانية لفظ الاشتراط على هذا الجعل، لكن فيه ما هو أظهر من هذا يدلّ على كون المراد أنّ الثمن المجعول أمر مردّد، و لا داعي إلى الصرف و التأويل بعد عدم منافاة ظاهر الخبر مع عقل أو نقل قطعي.

و أبعد من هذا حمل الخبرين على صورة التلف و مساواة ثمن المثل للثمن النقد، فيدلّ على الفساد رأسا. و أنت خبير بأنّ هذا من التأويلات التي لا يجوّزها إلّا قيام عقل أو نقل قطعي على خلاف متفاهم الرواية، و أين هذا من المقام؟

نعم هذا الحكم مخالف للقواعد و العمومات الدالّة على أنّ العقود تابعة للقصود و لكنّها قابلة للتخصيص «2» و رفع اليد عن مقتضاها بالدليل، و الروايتان صالحتان للدليلية و جامعتان لأركانها، فإنّ سندهما عرفت أنّه في غاية الاعتبار، و كذلك دلالتهما غير قابلة للتأويل، و أمّا وجه الصدور فالأصل العقلائي قائم على حمل كلام المتكلّم على الصدور بغرض الجدّ و بيان الواقع.

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 2،

من أبواب أحكام العقود، ص 367، ح 2.

(2)- كما في نسيان الأجل في نكاح المتعة فإنّه ينقلب دائما. منه دام ظلّه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 343

نعم ربّما تكون الرواية في غاية الاعتبار سندا و دلالة و لكنّ الأصحاب أعرضوا عن الإفتاء بمضمونها مع ما هي عليه من قوّة السند و الدلالة كما هو الحال في ما دلّ على إجزاء الأغسال المستحبّة عن الوضوء الواردة بمضمون «أيّ وضوء أنقى من الغسل» «1» فإنّها صحيحة صريحة في المطلب، و مع ذلك أعرض الأصحاب عن الإفتاء بمضمونها، فيوجب إعراض هؤلاء المهرة سقوط ذلك الأصل العقلائي في حقّه كسقوط أصل عدم السهو في حقّ من رأينا منه السهو كثيرا.

و هذا المعنى أيضا غير متحقّق في المقام، فإنّ العلماء طرّا عاملون بهذين الخبرين متّكلين عليه، غاية الأمر إنّهم بين عامل بظاهرهما كما اخترناه و بين موجّه لهما بأحد الاحتمالين السابقين، و لا يخفى أنّ التوجيه أيضا شاهد على الاعتماد بجهات السند، غاية الأمر إنّه لم ينهض عندهم دلالتهما على حدّ تأسيس حكم جديد في مقابل العمومات و القواعد، و بواسطة هذا الاستبعاد و الاستيحاش وقعوا في ما وقعوا.

و أنت خبير بأنّ هذا غير مستوحش بعد ورود الدليل، و قد عرفت تماميّته من الجهات الثلاث و اللّه العالم بحقائق أحكامه، ثمّ إنّ الحكم لمّا يكون على خلاف القاعدة يجب الاقتصار فيه على مورد النصّ فلا يتعدّى إلى ما إذا جعلا ثمنين في أجلين بل يحكم فيه على حسب القواعد بالبطلان.

[المسألة الرابعة في حكم دفع الثمن المؤجل قبل حلول الأجل]

مسألة لا يجب على المشتري دفع الثمن المؤجّل قبل الأجل و إن طالبه البائع، لأنّه

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، الباب 34، من أبواب الجنابة، ص 515، ح 4.

كتاب البيع (للأراكي)،

ج 2، ص: 344

فائدة التأجيل، إنّما الكلام في أنّه لو تبرّع بالدفع قبل الأجل يجب على البائع القبول أو لا؟ و مثله الكلام في السلم و في كلّ دين مؤجّل إذا تبرّع المديون بالدفع قبل الأجل، و الظاهر أنّ جواز إسقاط المديون أجل الدين أيضا و أنّه يسقط أو لا متّحد الملاك مع المسألة السابقة.

فقد يقال في كليهما بأنّه لا وجه لعدم الوجوب و عدم السقوط بعد أنّ شرط التأجيل- على ما هو الغالب الذي يكاد يلحق خلافه لغاية شذوذه بالمعدوم- شرط روعي فيه نفع المديون و الإرفاق بحاله فينتزع منه الحق له فقط.

و أمّا الانتزاع للبائع بأن يكون له حقّ أن يبقى الدين في المدّة في ذمّة المديون ففي غاية الندرة و لا يحمل عليه المتعارف في أيدي الناس، و على هذا فبإسقاط المشتري حقّه يسقط كسائر الحقوق الحاصلة بالشرط، و كذا يجب على البائع القبول عند تبرّعه بالأداء قبل الأجل، اللّهمّ إلّا أن يكون هنا إجماع و أنّه من قبيل الحكم «1» و غير قابل للإسقاط و التغيير، فلا يجب و لا يسقط، هذا ما يقال.

و لكن يمكن توجيه ما نسب إلى المشهور من غير خلاف يعرف إلّا من العامّة بما يستفاد من كلام العلّامة- أعلى اللّه مقامه- في التذكرة، و حاصله: أنّه تارة يكون المبيع و الثمن نفس المتاع و النقد، و التأجيل شرط خارجي كشرط الكتابة، فحينئذ يجي ء فيه ما ذكر حرفا بحرف، و أخرى يكون هذا الاختلاف راجعا إلى الاختلاف في المبيع و الثمن، لا بمعنى أنّ المبيع هو الكلّي في ذلك الوقت أو النقد كذلك حتّى يكون باردا، بل بمعنى أنّ المبيع موصوف بكونه مستقرّا في ذمّة البائع إلى

رأس الأجل الكذائي، و كذا الثمن في النسية في ذمّة المشتري، و هذان وصفان

______________________________

(1)- و أنّ النقد و النسية نوعان، لا من قبيل المطلق و المشروط فيه الأجل.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 345

كالعربية في ما إذا باع الفرس العربي، لا أنّهما شرطان، فإنّ المتبادر من بيع النقد و النسية و السلم و الكالي بالكالي أنّ تلك أوصاف للعوضين فيتّصف بها البيع و تصير أقساما له.

و على هذا فيتّجه ما ذكروه في كلا الفرعين؛ إذ التبرّع بالأداء حينئذ أداء لغير ما كان وقع عليه العقد، نظير إعطاء البائع الحنطة الجيّدة مع كون المبيع الحنطة الرديّة، فإنّه و إن لوحظ في هذا الوصف إرفاق البائع و نفعه و لكن ليس له التبرّع بإعطاء الجيّد و إلزام المشتري بقبوله، و كذلك لا يقبل الاسقاط.

نعم، يلزم على هذا أنّه لا يقبل التقايل أيضا مع أنّ ظاهر بعضهم قبوله، فإنّ الوصف بانفراده لا يقبل التقايل، كما لو تقايلا على إسقاط وصف الجودة أو الرداءة.

و يمكن توجيه كلام ذلك البعض بأن يقال: إنّ مراده بالتقايل هو الإعطاء لغير الجنس بتراضي الطرفين، فإنّه يعدّ مصداقا للوفاء عرفا، كما إذا طالب أحدهما الحنطة فتراضيا بالشعير، فإنّه يعدّ وفاء جعليا حينئذ، فكذا في المقام إذا تراضيا على إسقاط الأجل و إعطاء العوض نقدا، فإطلاق التقايل عليه من باب المسامحة.

نعم يبقى ما في كلام هذا البعض من عدم تصوير التقايل في صورة نذر التأجيل معلّلا بأنّ التقايل في العقود لا في النذور، فإنّه إن كان المراد نذر أن يوقع المشتري شراء مؤجّلا أو البائع بيعا كذلك فبالايقاع خرجا عن عهدة النذر و يقبل العقد.

و إن كان المراد أنّه بعد إيقاع العقد مؤجّلا لو

نذر المشتري أن لا يؤدّي قبل الأجل فلا يقبل التقايل، ففيه أنّه عاص بهذا التراضي و حانث للنذر لا أنّه غير

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 346

مؤثّر أثره الوضعي، و كذا إن أريد نذر البائع بعد العقد مؤجّلا أن لا يأخذ الثمن قبل الأجل فإنّ تراضيه مفوّت لموضوع نذره، نظير ما إذا نذر غسل الميّت فأحرقه فإنّه عاص و لكنّ التكليف ساقط، فكذا في ما نحن فيه التقايل يؤثّر أثّره، و يجب على البائع القبول و على المشتري الأداء بعده، و هما عاصيان بإقدامهما على التقايل المفوّت لموضوع النذر، لأنّ موضوعه صورة عدم سقوط الوصف و بقائه متعلّقا للحق.

[المسألة الخامسة في حكم من دفع الثمن قبل حلول الأجل]

مسألة قالوا: كلّ دين حالّ يجب على مالكه قبوله عند دفع المديون إليه، إذ لا حقّ له في إبقاء ذمّة الغير مشغولة بحقّه، فهذا إضرار و ظلم و مخالفة لسلطنة الناس على أنفسهم، ثمّ لو امتنع تنتقل ولاية القبض إلى الحاكم الشرعي لأنّه وليّ الممتنع.

و استشكل عليه شيخنا الأستاذ- دام ظلّه- أوّلا بأنّه ما الدليل على أنّ الكلّي الثابت في ذمّة شخص في حال كونه متعيّنا بأسبابه للملكيّة لشخص آخر محتاج في تطبيقه على مصداق إلى قبض الدائن و قبوله بحيث لو لم يقبض لم يتعيّن في المدفوع، فإنّ الثابت في ذمّة المديون قد تحقّق أسباب ملكيّته للدائن بالإيجاب و القبول أو بسبب آخر، فيكون ما في الذمّة متّصفا بالملكيّة للدائن، فإذا خوطب المديون بأداء هذا المال إلى صاحبه فمعناه أنّ اختيار التطبيق إليه، لأنّه يدفع إليه ماله.

نعم لو أراد التمليك بنفس هذا الإعطاء يوجّه أن يقال لا بدّ من قبوله، و أمّا إذا فرض كونه ملكه من قبل فحاله حال الوديعة و الأمانة حيث

ليس المعتبر من الأداء فيهما إلّا إحضار الودعي و الأمين العين عند المالك، و لو امتنع هو عن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 347

القبض فإنّ الأداء يتحقّق بهذا، و كذا في ما نحن فيه، الكلّي صار ملكا للدائن و إذا خوطب المديون بأداء هذا المال فاللازم كون الاختيار إليه كما في مرحلة الامتثال للأمر.

و مثل ما ذكرنا يجري في الفقير الكلّي الذي قد ملكه اللّه الزكاة حيث قالوا يعتبر في مالكيّته قبضه و قبوله، فإنّه يرد أيضا أنّه ليس إعطاء لغير المالك حتّى يحتاج إلى القبول بل إلى المالك بالأسباب السابقة على الإعطاء، فإذا قيل أعط مال الفقير إيّاه فعند الإعطاء يعطيه ماله لا ما يحتاج في الماليّة له إلى قبوله، و بالجملة معنى أداء مال الفقير كون الاختيار بيد المعطي في التشخيص من دون مدخليّة لقبول المعطى (بالفتح).

و ثانيا: سلّمنا الاحتياج في التعيّن إلى قبول المعطى و لا يكفي صرف الإقباض الحاصل من ناحية المديون، و لكن ما الدليل على أنّ هذا القبول واجب على الدائن، فإنّه ليس في التأخير إضرار على المديون كليّة. نعم، ربّما يفرض كونه كذلك لكنّ الحكم على وجه الكليّة استنادا إلى قاعدة لا ضرر محلّ كلام، فإنّ لنا أن نفرض موردا لا ضرر و لا خوف على المديون أصلا.

و ثالثا: سلّمنا أنّه خلاف قاعدة لا ضرر فيجب عليه القبول، لكن ما الدليل على قيام الحاكم مقامه مع الامتناع إمّا ابتداء أو بعد الإكراه على الكلام فيه؟ فإنّ القبض لو قلنا به ليس المراد به إلّا الرضا الباطني من دون حاجة إلى إنشاء خارجي، فليس حاله كالعقد الإنشائي الذي ينوب الحاكم منابه في إجرائه لو امتنع كما في بيع

العين المرهونة، و أمّا الرضا الباطني الغير المحتاج إلى الإنشاء فاللازم بقاعدة لا ضرر سقوط عن الاعتبار عند امتناعه، لأنّه أمر غير حاصل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 348

على كلّ حال سواء رضي الحاكم أم لا، فأيّ دليل على أنّه بعد سقوط رضاه يكون الأمر دائرا مدار رضا الحاكم؟ هذا.

و لكن يمكن أن يقال: إنّا لو أغمضنا عن الإشكال الأوّل و قلنا إنّ الوفاء أمر يحتاج إلى طرفين كالعقد فالإشكالان الأخيران قابلان للذبّ، أمّا الأوّل: فلأنّ نفس الكون تحت دين الغير عرفا ضرر و إيذاء على الشخص و لو كان الدائن في كمال الرفق و الملاطفة، و لا أقلّ من أنّه في معرض أن يموت بلا مال يتركه و لا وارث يؤدّي عنه فيبقى تحت الدين.

لا يقال: سلّمنا أنّه ضرر و لكنّه مقدم في أصل إحداث الدين الذي لازمه الاحتياج في الأداء إلى قبول الطرف على هذا الضرر.

لأنّا نقول: و إن كان الاحتياج من أحكام الدين شرعا و عرفا لكنّه غير الإقدام عليه، مثلا لو أقدم على عارية خشبة للوضع في البناء فوضعها ثمّ عاد المعير و طالبها، فلا يمكن أن يقال: أنّ تخريب البناء ضرر قد أقدم المستعير عليه، كما حكي ذلك عن صاحب المسالك- قدّس سرّه-، لأنّه و إن كان ذلك من أحكام العارية لكن ليس بناء العارية لأجل الغرض المذكور على العود، بل المستعير مطمئن الخاطر بأنّه لا يعود، و هكذا في مقامنا هو مطمئنّ الخاطر بأنّه متى أحضر عنده المال يقبله، فعدم القبول أمر غير مقدم عليه و إن كان أمرا جائزا.

و أمّا الثاني: فيمكن أن يقال: إنّه بعد فرض كون الأداء و الوفاء محتاجين إلى طرفين و المفروض وجوب

القبول لأجل الضرر و امتناع الدائن عنه فسقوط القبول عن الجزئيّة في التأثير يكون مثل ما إذا وجب البيع لأجل الضرر و امتنع البائع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 349

فيقال بتحقّق الملكيّة بلا بيع، فإنّه لا يمكن ذلك بل اللازم القول بتصدّي الحاكم للبيع لأجل دفع الضرر عن الفقراء، و هكذا هنا يقال بتصدّي الحاكم للقبض و القبول لأجل دفع الضرر عن المديون، و لا أقلّ من أن يقال: إنّ دليل لا ضرر إنّما يسقط بمقدار الضرورة، فإذا لم يمكن القبض بمباشرة الدائن و رضاه يسقط قيديّة الرضا لا أصل القبض و لا قيد المباشرة، فإذا لم يتمكّن من قيد المباشرة أيضا فلا وجه لرفع اليد عن أصل القبض فيتصدّاه الحاكم.

و تحصّل من جميع ما ذكرنا من أوّل المسألة أنّا كما قلنا بالدليل على لزوم القبول في تحقق البيع الخارجي مع أنّ مفهومه عبارة عن المبادلة- فمن الممكن أن يكتفي الولي من الطرفين كالولي عن الصغيرين بلفظ (بعت) في بيع مال أحدهما من الآخر- كذلك نقول: ما الدليل على لزوم القبول في أداء الدين الكلّي و تشخيصه في الخارج و عدم كفاية التخلية بين صاحب الدين و بين المصداق الخارجي؟ و كذا في باب الزكاة ما الدليل على لزوم قبول الفقير الزكاة و عدم كفاية التخلية المذكورة؟ فإنّ دليل لزوم الإيفاء و الأداء مع وضوح صدقهما بنفس التخلية و لو لم يرض الطرف دليل على أنّ اختيار التعيين بيد المديون في البابين.

و دليل السلطنة على النفس أو المال لا يفيد اشتراط التعيين برضا صاحب الدين بعد دلالة الدليل المذكور على الاختيار المذكور، فتنصرف السلطنة إلى أشياء أخر من البيع و سائر التصرّفات دون التطبيق.

و

على فرض التسليم و دلالة دليل السلطنة على اشتراط القبول ففي باب البيع قد علمنا بالاحتياج إليه و عدم سقوطه بحال، و أمّا هنا فلم نعلم ذلك، و القاعدة حاكمة على جميع العمومات التي منها دليل السلطنة، فلم لا نقول

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 350

حينئذ- أعني: صورة لزوم الضرر من امتناع صاحب الدين على المديون- بسقوطه عن الشرطيّة و كفاية التخلية.

و على فرض التسليم و أنّه في هذا المقام أيضا لا محيص عن تحقّق القبول فالقول بأنّه لا بدّ حينئذ من إجبار الحاكم لصاحب الدين على القبول مبني على القول بأنّ طيب النفس المعتبر في الباب متحقّق مع الإكراه على خلاف ما اختاره شيخنا المرتضى في محلّه من عدم تحقّقه و لو كان متحقّقا في صورة الإلجاء و الاضطرار.

و أمّا على القول بعدم تحقّقه كما اختاره الشيخ فلا وجه للإجبار، بل لا بدّ من قبول نفس الحاكم، و القول بأنّ نفس القبول وراء الرضا و طيب النفس، فالرضا معتبر من الحاكم و القبول من الدائن، ففيه أنّ القبض معتبر من باب الكاشفية و المظهريّة للرضا و الطيب، فإذا علم عدمهما فهو ساقط عن الاعتبار.

و الحاصل: تارة نقول: القبول شي ء، و طيب النفس شي ء آخر قيد له فإذا لم يمكن القيد فلا وجه لرفع اليد عن الأصل، و أخرى نقول: القبول ليس شيئا مستقلا بل اعتباره من باب الكشف عن الطيب فإذا علم عدم المكشوف فهذا اللفظ الخالي غير مفيد شيئا فلا بدّ من الانتقال إلى قبول الحاكم.

ثمّ على القول الآخر، أعني: تحقّق الطيب مع الإكراه لا وجه لتخصيص الإجبار بالحاكم بما هو حاكم و صاحب ولاية، فإنّ معنى ولايته أنّه يقوم مقام من

هو وليّه كالصغير و الغائب أو الممتنع، غاية الأمر هما قاصران و هذا مقصّر، فيفعل الحاكم ما كان فعلا للمولّى عليه، و هذا غير متحقّق هنا، نعم من باب الأمر بالمعروف جاز أن يجبره و لكن هذا ليس شأنه من حيث هو حاكم كما هو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 351

واضح.

و يجري هذا الكلام في باب الشروط الفعليّة أيضا إذا امتنع المشروط عليه عن الوفاء، حيث يفتون بإجبار الحاكم، فإنّه يرد أيضا أنّه إن كان من باب الولاية فليس هذا محلّها، لأنّ محلّها تصدّيه فعل المولّى عليه القاصر أو المقصّر، و إن كان من باب الأمر بالمعروف فليس وظيفة للحاكم بما هو حاكم، إلّا أن يقال: وجه الاختصاص به أنّه ذو قوّة و اقتدار و تمكّن من الإجبار دون غيره بحسب الغالب.

و من العجب أنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- قد صرّح بعد فرض تعذّر إجبار الحاكم و تعذّر قبضه بإجبار المؤمنين و إن لم يكونوا عدولا، معلّلا بأنّ هذا من المعروف الذي أمر به كلّ أحد فلا اختصاص له بالعدول، و مع هذا جعل إجبار الحاكم مقدّما على إجبار غيره.

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- قوى في صورة عدم تمكّن الإجبار عدم تصدّي العدول للقبض و عدم قيامهم مقام الحاكم، و فيه أيضا إشكال، فإنّه و إن كان دليل ولاية السلطان على الممتنع لا يشمل إلّا الحاكم، و لكنّ الدليل الذي دلّ في أمور القصر بولاية العدول- و هو أنّه أمر نعلم بعدم رضا الشارع بإهماله و عدم إجرائه، و الأمر دائر بين مساواة جميع الطبقات أو الاختصاص بطائفة دون غيرها فتكون هذه الطائفة متيقّنا- بعينه موجود في الممتنع في كلّ باب، مثلا لو امتنع الراهن

عن بيع المرهون و تعذّر الحاكم و لم يمكن للعدول إجباره و لكن تمكّنوا من مباشرة البيع فهل يمكن أن يقال بعدم الجواز؟ و إن قلنا به فما الفرق بينه و بين المقام؟

ثمّ إنّه- قدّس سرّه- بعد اختيار العدم في قبض العدول اختيار في مقام

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 352

التفصّي عن ضرر المديون بأنّه يعزل المدفوع من جملة أمواله و يكون هو معدودا من أمواله إلى أن يقبضه الدائن فيخرج حينئذ عن ملكه إلى ملك الدائن، و لكن لو تلف قبل قبضه فتلفه من مال الدائن دون مالكه الذي هو المديون، و ذلك لأنّ هذا مقتضى الجمع بين دليل لا ضرر و سائر القواعد، فإنّ ما دلّ على اشتراط ملكيّة الدائن بالقبض يمكن حفظه مع دفع الضرر عن المديون.

لا يقال: لا يخلو أنّ الذمّة إمّا مشغولة بالدين و إمّا بريئة، فعلى الأوّل لا وجه للضمان على الدائن، و على الثاني فقد تشخّص الحقّ بالمدفوع.

لأنّا نقول: بل الذمّة بريئة و لم يتشخّص مع ذلك الدين بالمدفوع، بل متعلّق به تعلّق حقّ المجنيّ عليه برقبة العبد الجاني، و هذا مثل ما ذكروه في باب الزكاة من تعلّق الحقّ برقبة العين الخارجية لا بذمّة المالك مع كون المال ملكا للمالك، هذا ما ذكره- قدّس سرّه- و أورد عليه شيخنا الأستاذ- دام بقاه- أوّلا: بأنّ قاعدة لا ضرر شأنها رفع الحكم الذي نشأ من قبله الضرر لا رفع الضرر بأيّ نحو أمكن، فلا بدّ من النظر إلى أنّ أيّ حكم في المقام يولّد الضرر من ناحيته، و لا شكّ أنّه الحكم بمدخليّة القبض في انتقال الذمّة إلى الخارج، فلا بدّ من رفع هذا و القول بأنّ المعتبر

حينئذ هو الأداء و التخلية، و أمّا جعل ضمان المال على الدائن مع كونه مالا للمديون فهو حكم رافع للضرر، لكن ليس شأن القاعدة، لأنّها ناظرة إلى الأحكام المجعولة في الشريعة المتولّد منها في بعض الموارد الضرر، و الذي يتولّد منه الضرر طبعا هو ما ذكرنا لأنّه بعد بقاء المدخليّة بحالها حتّى في الحال التي فرضناها فالمدفوع مال للمديون و ذمّته مشغولة و ضمان ماله على نفسه، فالذي نشأ منه الضرر هو الحكم

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 353

بالمدخليّة المذكورة لا الحكم بكون ضمان المال على مالكه. و ترتّب ما ذكر، أعني:

كون المال باقيا على ملك صاحبه و كون الذمّة بريئة عن الدين و تعلّق الدين برقبة المال على العزل سلّمنا إمكانه في مرحلة الثبوت و لكنّا نطالب بدليله في مرحلة الإثبات، فإنّ لا ضرر لا يحدث كلّ شي ء ممكن، و الأحكام الثبوتية في مقامنا أمور:

أحدها: أصل بقاء الدين، و الثاني: مدخليّة القبض في التشخص بالمدفوع من حيث براءة الذمّة، و الثالث: مدخليّته فيه من حيث حصول الملكيّة و لم يكن هنا حكم ضرري على موضوع العزل حتّى ينفى بالقاعدة و يثبت خلافه، فترتيب الأحكام المذكورة على موضوع العزل و إن كان رافعا للضرر لكنّه خارج عن عهدة دليل نفي الضرر.

نعم يمكن أن يقال مع الغض عمّا ذكرنا سابقا: إنّ الأداء أمر بسيط، و محقّقة في الخارج أمران، الإقباض و القبض، فالذي ارتفع بدليل لا ضرر مدخليّة القبض في إبراء الذمّة، و إمّا دخله في الملك فباق بحاله، و لا تنفيه القاعدة، و لكن هذا غير العزل و التخلية، فإنّهما متحقّقان بأن يعيّن المال عنده و في منزله و لو لم يعلم الدائن بالحال،

و لا ينافي كونه ممتنعا فإنّه يتحقّق بأن أظهر له أوّلا الحضور للاستيفاء فأنكر و امتنع ثمّ أتى المديون منزله و عيّن الدين في مال، فإنّ ظاهر كلام شيخنا الأجل كفاية ذلك، بل و كذا ظاهر كلام المحقّق الثاني و صاحب المسالك حيث ينقل منهما التفصيل في مسألة وجوب الحفظ بين صورة الإتيان و الطرح عنده فلا وجوب، و بين صورة العرض أو الإعلام بالحال فالوجوب ثابت، فإنّ الظاهر تسليمهما أنّ العزل الخالي عن الإعلام و العرض كاف في مسألة التبرية و أنّ هذا تفصيل في مسألة وجوب الحفظ، نعم أهملا صورة واحدة و هو العزل الخالي.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 354

و لعلّ مقصود المفصّل أنّه بالإتيان و الطرح تحصل الملكيّة فلا يجب الحفظ بملاحظة أنّه ليس المعتبر في حصولها أزيد منه كما قوّيناه، و أمّا لو لم يأت يعني في صورة تعذّر ذلك فحينئذ يتعيّن براءة الذمّة بالعزل فيجب الحفظ ثمّ بعد تعلّق الحقّ برقبة المال الظاهر أنّ التصرّف المتلف غير جائز و إن كان موجبا للضمان و لكنّه حرام شرعا كما هو الحال في كلّ مال متعلّق لحقّ الغير، فإنّ تفويته حرام شرعا و موجب للضمان، فلا وجه لما صرّح به شيخنا في المقام من الحكم بالجواز و لا فائدة في كون الدائن راضيا بالتصرّف، فإنّ رضاه بالثبوت في الذّمة و عدم التعلّق بالخارج، و المفروض عدم حصول ذلك.

ثمّ إنّ من العجيب تردّد جامع المقاصد في ما إذا أجبر الغاصب أحد الشريكين على دفع نصيب شريكه أو غصب نفس الغاصب سهم بعض الشركاء في العين المشتركة بنيّة كونه سهم بعضهم، حيث تردّد في ثبوت ولاية القسمة للشريك الآخر حتى يكون محفوظا من

ضرر ظلم الغاصب بأن يعيّن نصيب نفسه في غير ما أخذه الغاصب و نصيب الشريك في ما أخذه.

وجه الاستعجاب أنّ الأخذ و الغصب يوجّه إلى العين الخارجيّة المفروض كونها بجميع ذرّاتها مشتركة بين الاثنين، فالضرر متوجّه إليهما بنسبة واحدة و صرف كون الغاصب يأخذه بعنوان كونه مال فلان لا يخرجه عن واقعة، و قاعدة لا ضرر لا تفي في مثل هذا بإيراد الضرر على شخص آخر ليحفظ مال المورد عن الضرر، فلا وجه لتوهّم ثبوت ولاية القسمة بقاعدة لا ضرر، نعم هنا طريق تفصّ عن الضرر و هو أن يبيع الشريك نصف نفسه المشاع، فإنّ النصف المشاع مختصّ به و ليس مشتركا، فإذا عيّنه بكونه مختصّا به و لا يطلق لفظ النصف حتى يقع مورد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 355

الإشكال، فلا إشكال في وقوع البيع حينئذ بتمامه في مال هذا الشريك و يتمحّض الغصب في مال الشريك الآخر، هذا.

[المسألة السادسة في حكم تأجيل الثمن الحال بأزيد منه]

مسألة لا إشكال في أنّه كما يصدق الربا بقرض عشرة دراهم مثلا بشرط أداء اثنى عشر يصدق أيضا بقرض عشرة بمثلها إلى شهر ثمّ إذا انقضى الشهر أضاف مدّة أخرى بإزاء درهمين، إذ لا فرق في صدق الربا بين الإحداث و الإبقاء، فإنّ حقيقته أخذ الزيادة عن رأس المال بإزاء الأجل و هذا متحقّق في المسألتين.

إنّما الكلام في ما ذكروه للتفصّي عن الربا من أن يبيع المقترض شيئا بأقلّ من ثمنه و يشترط الإمهال في الدين السابق إلى مدّة و الزيادة في أجله، فهل يخرج بهذا عن عنوان الربا المحرّم أو لا؟ فإنّ العنوان الذي وقع تحت المنع هو القرض الذي جرّ النفع بواسطة جعلهما و شرطهما و لم يتقيّد بوقوع الاشتراط و الجعل

في نفس عقد القرض، بل لو وقع في ضمن عقد خارجي أيضا و لكن صدق كون القرض هو الذي جرّ النفع بتوسّط جعلهما كفي في الحرمة.

مثلا لو اشترطا في ضمن بيع شي ء يساوي مائة بخمسين أن يقرضه المشتري ألفا إلى سنة فهذا القرض الخارجي و إن كان ليس في ضمنه اشتراط نفع، و لكن يصدق أنّه بالشرط في ما بين المقرض و المقترض صار هذا القرض ممّا يجرّ النفع، فإنّه بسببه يخرج عقد البيع الواقع مع الشرط عن التزلزل الذي يحدث فيه على فرض التخلّف عن القرض المشترط، و هذه فائدة جرّها فعل القرض خارجا و تحقّق له ببركة الاشتراط، و القول بانصراف كلمة جرّ النفع إلى صورة كونه باشتراط في ضمن نفس عقد القرض غير مسموع من قائله.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 356

و حينئذ نقول: نحن و إن استشكلنا في الفرع المذكور وفاقا للوحيد البهبهاني في رسالته الفارسيّة المعمولة في المعاملات- حيث قوى صدق الربا و إن علّق عليه الميرزا الشيرازي- قدّس سرّهما- بأنّ العبارة غير صافية- و لكن الظاهر عدم جريان ذلك الإشكال في مسألتنا، أعني: ما إذا اشترط زيادة الأجل في ضمن عقد بيع ما يساوي مائة مثلا بخمسين.

وجه الفرق أنّ فائدة خروج عقد البيع عن التزلزل التي جرّها فعل القرض خارجا في تلك المسألة غير متفرّعة في هذه المسألة على هذا الإبقاء الذي في ضمن البيع، لأنّ عقد البيع غير متزلزل، بواسطة تحقّق شرطه بتحقّق نفس البيع، فإنّه شرط النتيجة و ليس لها تخلّف، فلا يكون العقد في معرض التزلزل حتّى يرفع تلك المعرضيّة إبقاء القرض.

و حاصل الدعاوي في المقام أمور:

الأوّل: أنّه كما أنّ القرض ابتداء بزيادة شي ء بإزاء الأجل

ربا عرفا، كذلك القرض الحال تأخير مدّته و اضافة مدّة على مدّته بزيادة شي ء أيضا قرض ربويّ عرفا و لا نحتاج في إثبات الحرمة و الفساد إلى أزيد من عمومات الربا من غير حاجة إلى أخبار خاصّة مضافا إلى وجودها.

الثاني: أنّه لا فرق بين جعل ذلك، أعني: الزيادة بإزاء طول المدّة بنحو الشرط الابتدائي أو بجعله شرطا في ضمن عقد بيع أو صلح، فإنّه من قبيل الشرط الفاسد.

الثالث: لو جعل الزيادة التي تكون بحسب الغرض بإزاء طول الأجل و تأخيره ثمن بيع محاباتي، و اشترط في ضمنه الإمهال في مدّة القرض الحال بنحو

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 357

شرط الفعل فهذا داخل في عنوان القرض الذي جرّ النفع بتوسّط الاشتراط، إذ كما أنّ الاشتراط في ضمن القرض يوجب صدق العنوان المذكور كذلك في ضمن عقد آخر. فيقال: فعل القرض الخارجي بواسطة الاشتراط في ضمن ذلك البيع المحاباتي مع نفس ذلك البيع أوجبا نفعا للمقرض و هو حصول ملكيّة عشرة توأمين غاية الأمر أصل الملك معلول البيع، و لزومه و عدم انفكاكه بالقرض الخارجي و هو شي ء أتى من قبل الشرط، فإنّ الشرط و إن يتعلّق بمفاده بهذا المعنى إلّا أنّ لازمه العرفي حصول هذه الخاصيّة للقرض، فيصحّ أنّ الالتزام الواقع بين الشخصين أعطى هذه الخاصيّة للقرض.

و دعوى انصراف الأدلّة العامّة في باب الربا القرضي إلى صورة الاشتراط في ضمن نفس القرض دون خارجه، أو إلى ما إذا كان الالتزام بمفاده الابتدائي متعلّقا بالنفع دون لازمه العرفي، كما ترى، و لا أقلّ من أن يكون احتمالا موجبا للإشكال و عدم الجزم بالصحّة كما هو المشهور، و أمّا الأخبار الخاصة في الباب فظاهرها غير هذه الصورة،

أعني: الصورة التي سنذكرها.

الرابع: لو اشترط في ضمن البيع المحاباتي المذكور نفس طول مدّة القرض السابق الذي حلّ أجله فالظاهر عدم انطباق العنوان المتقدّم عليه.

لا يقال: في هذه الصورة أيضا لو لم يتحقّق شرط النتيجة لمانع لكان ملكيّة ذلك الثمن الأزيد متزلزلا، فصدق إنّ هذه النتيجة، أعني: حصول زيادة المدّة التي هي القرض الاستمراري أوجبت نفعا للمقرض و هو بواسطة الاشتراط، فما الفرق بينه و بين صورة شرط الفعل؟

لأنّا نقول: الفرق أنّ نفس انعقاد طول القرض و انعقاد المبادلة البيعيّة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 358

متحقّقان في عرض واحد بصيغة البيع، لا أن يكون انعقاد المبايعة أوّلا بنحو التزلزل ثمّ انعقد القرض البقائي في طوله و أوجب استحكام ذلك المنعقد الأوّلي، و إن كان لو فرض فساد هذا الشرط كان موجبا للخيار لكن لا يلازم أن يكون استحكام العقد البيعي في صورة الصحّة مستندا إلى انعقاده، بل هما معلولان لعلّة ثالثة، ألا ترى أنّ اجزاء المبيع كلّ منها يحصل النقل و الانتقال فيها بسبب العقد في عرض واحد و مع ذلك لو تبيّن فساد بعضها يوجب الخيار في البقيّة، هذا مضافا إلى أنّ أخبار المسألة كلّها ناظرة إلى هذه الصورة، أعني: شرط النتيجة و هي ناصّة في الصحّة.

[المسألة السابعة في حكم بيع العين الشخصية المبتاعة بثمن مؤجل]

مسألة لا إشكال حسب القواعد في صحّة بيع ما اشتراه الإنسان مؤجّلا بثمن حالّ أو مؤجّل من بائعه أو غيره بذلك الثمن أو أزيد أو أنقص قبل الأجل أم بعده، بل و لو اشترط ذلك في ضمن العقد الأوّل، فإنّ مقتضى القاعدة صحّة الجميع، نعم خالف المشهور في صورة اشتراط بيعه من بائعه، و خالف الشيخ مع عدم الشرط في صورة البيع من البائع بأنقص من

الثمن إمّا بعد حلول الأجل أو في الأعمّ منه و ممّا قبله، و استند إلى بعض الأخبار.

و اللازم أوّلا النظر فيها، و على فرض تماميّة الدلالة، النظر في الأخبار المقابلة الدالّة على الصحّة في هذه الصورة و إن كنّا غير محتاجين إلى هذه الطائفة لو لا تلك الأخبار لموافقة الصحّة مع القواعد، لكن لأجل التقابل مع تلك الأخبار صارت محتاجا إليها.

فنقول و باللّه الاستعانة و الاستمداد من آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أمّا الخبر الأوّل فلا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 359

دلالة فيه على مدّعى الشيخ من وجوه، الأوّل: إنّ المدّعى بحسب الظاهر مشتمل على قيود: أن يكون البيع الأوّل مؤجّلا و يكون الثاني بأنقص من ثمن الأوّل و يكون المثمن في الثاني عين المثمن في الأوّل بشخصه، و يكون الثمن مجانسا لثمن الأوّل و يكون الثاني واقعا بعد الأجل في الأوّل، أو أنّ المدّعى أعمّ من هذه الجهة كما يظهر من الحدائق، و المذكور في الخبر لا ينطبق على تمام هذه القيود، لأنّ الموجود فيه كلمة (طعام)، و ظاهره المغايرة مع الأوّل شخصا. و إلّا ناسب الإتيان بها محلّاة باللام.

و الثاني: لو أغمضنا عن ذلك فليس فيه كون الثمن في الثاني أنقص أو أزيد أو مساويا، و الثالث: قوله: لا تشتره، فإنّه لا خير فيه يلوح منه الإرشاد إلى كراهة هذا الشراء لا فساده.

و أمّا الخبر الثاني: فتغيّر السعر فيه و إن كان أعمّ لغة من الزيادة و النقيصة و لكن حسب قرينة المقام ظاهر في الزيادة، و ذلك لأنّه إذا تغيّر سعر الطعام عن سعره الأوّل الذي كان له حين البيع الأوّل بالزيادة فاللازم أن يأخذ بعض ما

أعطاه في مقام مطالبة ثمنه و هذا أوجب وحشة السائل بعد قول الإمام- عليه السلام- له «اشتره منه بسعر يومه»، و قال: أفهم أصلحك اللّه أنّه طعامي الذي اشتراه منّي، [فلما استوحش ذلك قال له الإمام- عليه السلام-]: «لا تأخذه منه حتى يبيعه و يعطيك»، يعني: أمّا الآن فحيث يثقل عليك أخذ مالك بأزيد من قيمته الأولى فاصبر حتّى يبيعه من غيرك و يعطيك ثمنك من قيمته [و لهذا قال السائل]: أرغم اللّه أنفي رخّص لي فلمّا رددت عليه شدّد عليّ؟ «1».

______________________________

(1)- الوسائل: ج 13، الباب 12، من أبواب السلف، ص 75، ح 5.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 360

و على هذا لا دلالة فيه بمرام الشيخ إلّا أن يقال: إنّه استفاد من قوله: لا تأخذه، من حيث إنّ مفاده أنّ ما أحببته من أخذ مالك بأنقص أو مساو للثمن الأوّل ليس بجائز فاصبر حتّى يبيعه، و لكن فيه أنّه حينئذ لا دلالة فيه على خصوص النقص بل يعمّ المساواة، فالدليل أعمّ من المدّعى.

و الحاصل: أنّ مراد الإمام- عليه السلام- من المنع عقيب الرخصة إمّا ما زعمه السائل من التحريم و كان من باب أنّه لما ردّ على الإمام قوله- عليه السلام- استحقّ بذلك التشديد، كما في قضية ذبح بقرة بني إسرائيل كلّما سألوا اشتد عليهم الأمر، و إمّا ما هو الظاهر من الرواية من الإرشاد و تنبيه السائل على ما يرفع الاستيحاش عن ذهنه، يعني كما أنّ البيع من غيرك جائز و لا تستوحش منه فاعلم أنّه ليس بمالك فالبيع منك أيضا جائز فعلى الأخير لا دلالة على مدّعى الشيخ بل الدلالة على خلافه، و أمّا على الأوّل فهو حكم مختصّ بمورده، أعني: السائل،

فإنّ التشديد في حقّه لكونه في مقام الردّ و الاعتراض فلا ربط له بغيره.

هذا ما استدلّ به الشيخ و قد عرفت عدم تماميّة دلالتها على مرامه فلا حاجة لنا إلى الأخبار المقابلة و إن كان دلالتها بالعموم تامّة، أمّا خبر بشار بن يسار فواضح.

و أمّا خبر الغنم: فربّما يستشكل في دلالته على التعميم لصورة أنقصيّة ثمن المعاملة الثانية بأنّها صريحة في المساواة لمكان قوله: بدراهمك التي عندي، و لكنّ الجواب أنّ قوله في الصدر: كان له على رجل دراهم من ثمن غنم، إمّا خاص ببعض الدراهم بناء على كون (من) للتبعيض، و إمّا أعمّ من الكلّ و البعض بناء على كونه للبيان، و على فرض كونه البعض يكون الثمن أنقص؛ لأنّ ظاهر قوله

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 361

خذ هذه الغنم، الإشارة إلى تلك الغنم المشتراة لا غيرها و لا بعضها، فالخبر إمّا خاص بالأنقص و إمّا مطلق شامل له.

و أمّا خبر العينة: فدلالته بالعموم أيضا واضح بناء على ما هو معنى العينة، فإنّ معناها أن يبيع المقرض بعد حلول أجل القرض و استدعاء المقترض زيادة أجل آخر شيئا يساوي خمسة مثلا بخمسة عشر مثلا، ثمّ يشتريه من المقترض بخمسة حتى يكون العشرة نفعا لزيادة مدّة القرض، و هذا أعمّ من حيث كون المعاملة الأولى نقدا أم نسية، و كذا من حيث كون الثانية في مجلس الأولى أم بعده، قبل انقضاء الأجل أم بعده، و ذلك لأجل قوله في قبال قول أهل المسجد حيث قالوا بتخصيص الصحّة بصورة تأخير الثاني عن الأوّل بأشهر، و قال- عليه السلام-:

إنّما هذا تقديم و تأخير و لا بأس، و أمّا أنقصيّة ثمن الثاني عن الأوّل فمأخوذ في مفاد

العينة كما عرفت.

و أمّا خبر علي بن جعفر: فالظاهر منه و إن لم يكن فيه كلمة (إلى أجل) أيضا هو التأجيل، و كذا وقوع الثاني بعد أجل الأوّل، فإنّ وقوع هاتين المعاملتين في مجلس واحد بعيد من أغراض المتعاملين بحسب النوع، كما أنّ تأخير الثمن في الحال أيضا بعيد، كما أنّ وقوع الثاني قبل انقضاء المدّة في الأولى أيضا لا داعي إليه، فالصورة التي ينصرف إليها الكلام ما إذا كان البيع الأوّل مؤجّلا و حلّ الأجل و لم يكن واجدا للثمن فأقدم على بيعه بالثمن الأنقص، و هذه الزيادة و النقيصة أيضا كانتا لأجل المؤجليّة و النقديّة، فلا يبعد أن يقال بظهور هذا الخبر في خصوص موضوع البحث على كلتا نسختيها و اللّه العالم.

بقي الكلام في أساس آخر نسب إلى شيخ الطائفة، و أنّه يستفاد من بعض

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 362

الأخبار و من علّة مصرّحة في خبر علي بن جعفر حيث سأله عن رجل له على آخر تمر أو حنطة أو شعير فلمّا جاء الأجل أراد أن يأخذ الدائن بقيمتها دراهم. فقال- عليه السلام-: إذا قوّمها دراهم فسد؛ لأنّ الأصل الذي يشتري به دراهم فلا يصلح دراهم بدراهم» «1». بدعوى أنّ المستفاد منها أنّ التبديل بالدرهم و أخذ الدرهم مكان ما في الذمّة من الأجناس غير جائز، إذ ربّما يتفاوت سعر الحال مع سعر حال الشراء و المفروض أنّ الذي وقع ثمنا لها في المعاملة الأولى الدراهم، فمع هذا التبديل الآخر بالدرهم تصير المعاملة بين الدرهم و الدرهم و ربّما يزيد أو ينقص و لا يصلح بإطلاقه بل لا بدّ من رعاية مساواة الدرهمين.

فإن قلت: لا إشكال في أنّه ليس بحقيقة المعاملة

بين الدرهم و الدرهم فلا بدّ من التنزيل على التعبّد و التنزيل الحكمي، و على هذا فمن المحتمل أن يكون التنزيل في جهة فوت القبض المعتبر في الصرف لا من جهة اعتبار المساواة المعتبر في المتجانسين، فلا ربط له بغير الدراهم و الدنانير.

قلت: أوّلا يمكن كون النظر إلى جميع الآثار، و ثانيا يمكن استظهار كون التنزيل من جهة المجانسة و لزوم الزيادة و النقيصة لا من حيث فوات المجلس و القبض فيه، هذا ما يقال و قد سكت شيخنا الأجلّ المرتضى- قدّس سرّه- عن جوابه.

و يمكن أن يقال: إنّ كلمة «إذا قوّمها دراهم فسد» ناظرة إلى حال البيع لا حال الاستيفاء يعني أنّ هذا الاستيفاء للطعام بالدراهم له صورتان، إحداهما: أن يكون واقعا تحت الالتزام و التعهّد في ضمن البيع الأوّل يعني اشترط المشتري على البائع أن يقوّم الجنس في رأس الأجل بهذا المبلغ من الدراهم التي هي أزيد أو

______________________________

(1)- الوسائل: ج 13، الباب 11، من أبواب السلف، ص 71، ح 12.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 363

أنقص من الثمن، و الثانية: أن لا يكون كذلك، ففي الصورة الأولى تفسد دون الثانية، و على هذا يخرج عن المساس بمقامنا و يصير من جزئيات مسألة اشتراط البيع الثاني في ضمن الأوّل التي هي المسألة الثانية.

لا يقال: هذا خلاف الظاهر؛ لأنّ الظاهر منه ما هو المصرّح به في أخبار أخر واردة في باب السلم و هو التصريح بأنّ المسلم فيه إذا تعذّر عند الأجل فلا يجوز أن يأخذ المشتري إلّا رأس ماله لا أزيد، فإنّ ملاحظة هذه الأخبار تدفع احتمال كون النظر من جهة اعتبار القبض في المجلس المعتبر في الصرف، و كذا احتمال كون المراد

هو الاشتراط في ضمن البيع الأوّل، نعم يرد حينئذ أنّ المضمون حينئذ خلاف المشهور، و يمكن الجواب بأنّه حيث إنّ الظاهر من بعض الأخبار هو الرخصة و لو بالأزيد فمقتضى [الجمع] هو الحمل على الكراهة.

لأنّا نقول: أوّلا لا نسلّم أنّه خلاف الظاهر؛ لأنّ الضمير راجع إلى التمر أو الحنطة أو الشعير، و أمّا كونه بوصف الاستقرار في الذمّة فلا ظهور فيه فمن الممكن أنّ المراد إذا قيّد في أوّل عقد جعلها في الذمّة كونها مقوّمة في رأس الأجل بالقيمة الزائدة، و مجرّد أنّه ذكر في بعض الأخبار ما ذكر لا يصير دليلا على المراد في هذا الخبر، و الجمع الذي ذكر من الحمل على الكراهة و إن كان متأتّيا في سائر الأخبار لا يتأتّى في هذا الخبر لمكان قوله: فسد؛ فإنّه لا يلائم مع الكراهة، و إذن فمن الممكن الحمل الذي ذكرنا و ليس المضمون كما عرفت خلاف المشهور أيضا، هذا.

و أمّا المسألة الثانية، أعني: اشتراط البيع من البائع في ضمن البيع الأوّل فالمشهور على البطلان و استدلّوا بوجوه: الأوّل: ما في كلام العلّامة- قدّس سرّه- من قضيّة الدور، و ربّما يحتمل أنّ مراد العلّامة هو الشرط الأصولي، فإنّه إذا كان البيع مشروطا بالبيع من المالك و من المعلوم توقّفه على انتقال الملك و المشروط أيضا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 364

متوقّف على الشرط جاء الدور، و لكنّه بعيد عن ساحته- أعلى اللّه مقامه.

و ربّما يحتمل ابتناؤه على مطلب آخر و هو: أنّ تصرّفات من عليه الخيار غير نافذة في زمن الخيار بمعنى معرضيّة العقد للزوال، و على هذا فنفوذ العقد الثاني محتاج إلى الاستقرار، و الاستقرار أيضا موقوف على وقوعه، و لكنّه يرد

أنّه وارد بعينه في شرط البيع من غير المالك مع أنّ العلّامة تفطّن به و لم يقل فيه بجريان الدور، فلا يمكن أن يكون مراده هذا الوجه.

و ربّما يحتمل أيضا أن يكون الكلام مبنيّا على مذاق شيخ الطائفة من توقّف حصول الملك للمشتري على انقضاء زمن معرضيّة العقد للزوال بالفسخ، فإنّ البيع من المالك موقوف حينئذ على حصول الملك و هو أيضا موقوف على البيع منه الذي به يسقط المعرضيّة المذكورة و هذا غير جار في البيع من غير المالك، لأنّه على نحو الفضوليّة و الوكالة متمشّ غاية الأمر يصير من جزئيات من باع ثمّ ملك و هذا أيضا لا يحتمل إرادته لأنّ مذهب العلّامة عدم توقّف الملك على انقضاء الخيار.

و ربّما يحتمل أيضا أن يكون مبنيّا على أنّ تأثير البيع في النقل موقوف على أنّ السبب المتقدّم قد زال أثره بالمرّة، و بالنسبة إلى المالك قد بقي من أثر السبب المتقدّم شي ء، و لهذا نقول بالفسخ بعود عين الملك السابق و ليس كما في الهبة فإنّه تملّك جديد كتملّك المباحات، و تسميته بالاسترداد و الرجوع بملاحظة الملكيّة السابقة نوعا لا شخصا.

و الحاصل: أنّ اعتبار البيع عرفا لا يتمشّى في صورة بقاء أثر السبب الأوّل و كونه كالملك للمالك الأوّل نظير عدم اعتبار التزويج في الزوجة المطلّقة الرجعيّة

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 365

حيث إنّها لم تصر أجنبيّة بل هي في حكم الزوجة، و التزويج لا بدّ من إيراده في الأجنبية، و هذا أيضا لا يمكن نسبته إليه- قدّس سرّه- لوضوح الخدشة في كبراه بورود الإيراد في صورة عدم الخيار رأسا أيضا فيلزم عدم جواز البيع من المالك الأوّل رأسا و لو بعد الخيار

أو في البيع الذي ليس فيه خيار أو [إذ ظ] لا أقلّ من جواز التقايل و التفاسخ فإنّ به أيضا يعود عين الملك السابق لا الملك الجديد.

و الذي حمل عليه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- الدور المذكور هو ابتناؤه على مسألة أنّ الشرط الفاسد مفسد للعقد، فإنّه على هذا يكون صحّة العقد مشروطة بصحّة الشرط و متوقّفة عليها توقّف الشي ء على عدم مانعه، و أمّا توقّف صحّة الشرط على صحّة العقد في مسألتنا فهو مبنيّ على أنّ من شروط صحّة الشرط أن يكون معقولا في نفسه مع قطع النظر عن البيع الذي وقع فيه، و البيع من المالك غير معقول في ذاته إلّا بتوسّط ملكيّة المشتري و بعد زوال ملكيّة البائع، و المفروض أنّ هذا أيضا متوقّف على البيع المتوقّف على المعقوليّة في حدّ ذاته.

و بعبارة أوضح: معقولية البيع من المالك مع قطع النظر عن البيع المشروط فيه متوقّفة على ملكيّة المشتري و لو من غير ناحية البيع، و الملكيّة حسب الفرض من عدم تحقّق سبب آخر غير البيع متوقّفة على المعقوليّة المزبورة.

و أجاب عن هذا التقرير شيخنا الأستاذ- أطال اللّه بقاه- بأنّا نمنع على تقدير القول بمفسديّة الشرط الفاسد كون فساد الشرط علّة لفساد المشروط، و لا ينافيه التعبير بالمفسديّة، فإنّ مبناه أنّ المقصود واحد و متقيّد، و من المعلوم أنّ المقصود الواحد لا ينعقد في ما إذا كان القصد مؤثّرا مع عدم انعقاد بعض أبعاضه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 366

و الحاصل: كما أنّ الانعقاد نسبته إلى جميع أبعاض هذا المقصود الواحد نسبة واحدة كذلك عدمه أيضا، لا أنّ عدم انعقاد هذا البعض مستند إلى عدم انعقاد ذلك، نعم عدم انعقاد الكلّ مسبّب عن

عدم انعقاد هذا البعض و لكنّ البعض ليس له انعقاد فعليّ بل انعقاد تأهّلي و هو محفوظ بحاله، و أمّا الفعليّة الضمنيّة في ضمن الكلّ فنسبة عدمها إلى الجزأين نسبة واحدة و ينسب العدم إليهما في عرض واحد.

و بعبارة أخرى: لا يجتمع صحّة هذا مع عدم صحّة ذاك نظير القدرة التي هي شرط صحّة الأمر، حيث إنّ الأمر لا يجتمع مع العجز حال العمل، لا أنّه متوقّف على القدرة السابقة حتى لا يمكن تأتّي القدرة بنفس الأمر، فهنا أيضا المعقوليّة شرط لصحّة الشرط و لكن لا يلزم أن تكون محفوظة مع قطع النظر عن صحّة البيع بل و لو تأتى بنفس البيع.

و بالجملة: أوّلا نمنع توقّف صحّة العقد على صحّة الشرط بناء على مفسديّة الشرط الفاسد، كيف و إلّا لزم الدور في عامّة الشروط، لأنّ صحّة العقد متوقّفة على صحّتها حسب الفرض، و صحّتها أيضا متوقّفة على صحّة العقد، لأنّ الشرط في ضمن العقد الفاسد فاسد.

و ثانيا: نمنع لزوم كون الشرط معقولا و مقدورا مع قطع النظر عن البيع المشروط فيه لم لا يجوز أن يكون كالقدرة في الامتثال؟ بمعنى أن يكون حال تعلّق أوف بهذا الشرط غير مقدور و حصلت القدرة بنفس هذا الحكم.

و ثالثا: سلّمنا أنّ حكم الوفاء بالشرط لا بدّ و أن يتعلّق بالشرط المقدور سابقا على هذا الحكم لكن لا يلزم بمجرّده دور؛ إذ نقول: لا مانع من أن يتعلّق أوف أوّلا بالمبادلة ثمّ في الرتبة المتأخّرة يتعلّق بالشرط كما في تصرّف ذي الخيار في ما انتقل

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 367

عنه، حيث يؤثّر أثرين طوليّين أوّلا في النقل إلى نفسه ثمّ إلى طرفه، فهنا أيضا يحصل النقل و

الانتقال أوّلا ثمّ يلزم عليه البيع.

و على كلّ حال فالدور غير وارد لعدم التوقّف- بناء على ما هو الحقّ- في شي ء من الجانبين و بناء على المماشاة في جانب واحد، فهذا الوجه أيضا لا يمكن نسبته إلى العلّامة.

بقي التكلّم في خبر حسين بن المنذر الوارد في السؤال عن العينة، أعني:

البيع ثمّ الاشتراء من المشتري في ذاك المكان حيث قال: «إن كان المشتري مختارا في البيع و البائع مختارا في الشراء لا بأس» «1» و مفهومه أنّه لو لم يكونا أو أحدهما مختارين بأن اشترطا في ما بينهما ذلك ففيه البأس، ثمّ نقل السائل عن أهل المسجد أنّهم قالوا: لو وقع الشراء في غير ذاك المكان و بعد انقضاء أشهر صحّ و إلّا ففي ذاك المكان و بهذه العجلة لا يصحّ، فقال الإمام- عليه السلام-: لا بأس بالتقديم و التأخير، فإنّه قد يقرب دلالته على فساد البيع الأوّل المشتمل على الشرط كما هو مدّعى المشهور و فهمه صاحب الحدائق- رحمه اللّه. و إن استشكله شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بأن يقال: إنّ أهل المسجد و السائل توهّموا أنّ البيع ما لم ينقض عليه مدّة لم يحصل أثره، فلو أوقع البيع الثاني كان هذا موجبا لبطلان تمام العمل من البيع الأوّل و الثاني، أمّا الثاني فلعدم انتقال الملك بعد، و أمّا الأوّل فلأنّه لم يصبر حتّى يتنجّز أثره.

و الحاصل: أنّ الفصل الزماني مصحّح للبيعين، و أمّا الوصل فمانع عن مجي ء أثر الأوّل، و عدم أثر الأوّل يوجب عدم أثر الثاني، فالإمام- عليه السلام- قرّره في هذا الأمر الارتكازي في صورة الاشتراط، يعني: ما توهّمته و توهّموا من بطلان كلا

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 5، من أبواب أحكام

العقود، ص 370، ح 4.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 368

البيعين أمر صحيح في صورة الاشتراط و إن كان منشؤه و هو احتمال دخالة مضيّ مدّة على تصرّف الآخر في حصول المبادلة فاسدا لكن أصل الشبهة و هو فساد البيع الأوّل و الثاني صحيح، و أمّا لو لم يشترطا في متن العقد و أوقعا الثاني عن تراض بينهما في المجلس الواحد متّصلا بالبيع الأوّل فالتوهّم باطل بل البيعان كلاهما صحيحان.

لكن يمكن أن يقال: إنّ السؤال وقع عن صحّة البيع الثاني و فساده كما يشهد به خلاف أهل المسجد، و الإمام- عليه السلام- حكم بفساده في صورة الاشتراط و وقوع البيع الثاني عن وفاء به و رؤية نفسه غير مختار على الترك، و هذا إنّما يدلّ على فساد الشرط، إذ لا يجتمع صحته و فساد البيع المشروط، و أمّا صحّة البيع الأوّل و فساده فإمّا مسكوت عنه و إمّا إنّ الكلام بعد الفراغ عن صحّته.

لا يقال: الالتزام بالعقد مبنيّا على زعم فاسد- مثل توهّم أنّه نذر أن يبيع و الحال أنّه لم ينذر- ليس رافعا للطيب المعتبر في المعاملة، فكذا هنا إذا كان الشرط فاسدا لا يصير دليلا على فساد البيع لفقد الطيب.

لأنّا نقول: ليس المدرك فقد الطيب حتّى يرد النقض بما ذكرت، بل هذا حكم تعبّدي تعلّق بصورة وقوع البيع بهذا الالتزام، و يظهر الثمر في ما إذا اشترط في البيع الأوّل ثمّ أسقطا الشرط و أوقعاه لا عن وفاء بذاك الشرط بل لأجل تراضيهما، فإنّه لا مانع من الصحّة بناء على ما ذكرنا، و بناء على الوجه الأوّل يلزم الحكم بالفساد، لأنّ الحكم راجع إلى مجموع البيعين في صورة شرط ثانيهما في الأوّل و

هذه الصورة داخلة فيها.

و ممّا ذكرنا في خبر ابن المنذر تعلم الكلام في خبر علي بن جعفر الوارد في من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 369

باع ثوبا بعشرة إلى أجل و اشتراه بخمسة نقدا قال- عليه السلام-: «إذا لم يشترطا و رضيا فلا بأس»، فإنّ الكلام فيه هو بعينه ما ذكر في سابقه، لكن من المحتمل أن يكون جهة السؤال في هذه الرواية كون الثمن أنقص لا حيث كونه شراء لما باعه.

و محصّل الوجهين المتقدّمين في الرواية الأولى أنّه بعد الفراغ عن أنّ السؤال و محطّ نظر السائل و المجيب صحّة المعاملة الثانية و فسادها لكن منشأ احتمال الفساد فيها هل هو فساد الأولى بمعنى عدم تحقّق القصد إلى حقيقة فكّ الملك عن نفسه و نقله إلى صاحبه؟ أو أنّ المنشأ احتمال الفساد في نفس الثانية مع صحّة الأولى بملاحظة عدم مضي مقدار من الزمان و عدم قابليّة المحلّ للنقل بعد؟ لا يبعد أن يكون جهة السؤال هو الأوّل.

ألا ترى أنّه لو اتّفق الشراء الثاني من غير بناء عليه من الأوّل بل كان بصرف الاتفاق بأن حدث لهما داع إلى النقل الجديد إلى المالك الأوّل بعد وقوع المعاملة الأولى بقصد البقاء عليها فهل يحتمل أن يكون الثاني فاسدا مع أنّ الاتّصال محفوظ؟ فالظاهر أنّ جهة السؤال و الاحتمال هو فساد البيع الأوّل من أجل عدم تحقّق المبادلة و المبايعة.

و على هذا فالجواب ورد بصحّة هذا الخيال في صورة الاشتراط، يعني: إن اشتراط ذلك فكأنّه ما باع و لم يقصد جدّا إلى حقيقة المبايعة و لم يقطع عن نفسه علاقة الملكيّة، و أمّا لو أطلق و كان الواقع صرف مقاولة بحيث وقع الثاني عن رضي

به حاله لا عن التزام كان في البيع الأوّل فهذا صحيح.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 370

[القول في القبض]

اشارة

القول في القبض

اعلم أنّ الوفاء بالبيع على تقدير ارتباط أَوْفُوا بِالْعُقُودِ بباب المعاملات- و إن استشكلنا فيه و قلنا باختصاصه بالعهود- عبارة عن إيجاد ما التزم به في الإنشاء خارجا مطابقا لما التزم به، فإذا كان قد التزم و أنشأ تملّك الطرف المقابل فهو قد أنشأ و جعل كونه سلطانا على هذا المال، فالوفاء هو التّسليط له على هذا المال خارجا، لا أنّ مجرّد البناء القلبي و عقد القلب كاف في الوفاء و لو كان عمله على الخلاف بعنوان العصيان، كما أنّ الوفاء بالبيعة عبارة عن الإتيان بمقتضى البيعة خارجا لا أن اعتقد قلبا و لكن خالفه عصيانا في الخارج.

لكن يقع الكلام في أنّه هل المعتبر في الخارج هو وصول المال تحت سلطنة الطرف المقابل بجميع مقدّماته سواء المتمشيّة من البائع أم من المشتري؟ أو اللازم هو إعطاء السلطنة بالقدر الذي تحت قدرة البائع دون الأعمّ منه و ممّا هو على عهدة المشتري؟ لا يبعد الثاني: فإنّ الإنشاء إنّما تعلّق بالتسليط من قبله و لهذا يحتاج إلى قبول المشتري، فالوفاء بهذا الأمر النسبيّ هو الإتيان في الخارج بما هو مرتبط به دون ما هو مرتبط بالمشتري، لكن هذا كلّه بالنسبة إلى الحكم التكليفي مضافا إلى أنّ دليل وجوب الوفاء غير مربوط بباب العقود.

و أمّا من حيث الحكم الوضعي فمن الممكن تعلّقه بالإقباض الذي هو غير

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 371

منفكّ عن القبض كالكسر الغير المنفكّ عن الانكسار، و الحاصل لا ملازمة بين التكليف و الوضع، فإذا فرضنا أنّ التكليف بالإقباض بهذا المعنى على وجه الإطلاق لا

يجوز بل اللازم إمّا إرجاعه إلى ما هو من فعل البائع و إمّا مشروطا بحضور المشتري للتسلّم فلا ملازمة بينه و بين أن لا يمكن صيرورته موضوعا للوضع، مثل اشتراط صحّة فرد من البيع كالصرف و السلم أو صحّة الهبة أو الرهن أو الوقف، أو حرمة البيع في ما يكال أو يوزن أو كراهته قبل الإقباض، فاللازم مراجعة دليل كلّ مقام.

فمن المقامات مسألة رفع ضمان البائع للمبيع، و الدليل فيه النبوي: «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» «1» و رواية عقبة بن خالد المشتملة على أنّ «ضمان المتاع على البائع حتى يقبضه و يخرجه من بيته» «2»، أمّا النبوي فالظاهر من القبض و إن كان لغة هو الأخذ باليد أو بتمام الكفّ و منه القبضة و لكنّ الظاهر أنّه جي ء به كناية عن الاستيلاء و الدخول تحت السلطنة، و حيث إنّه أضيف إلى عامّة الأموال من المنقول و غيره و ما يتناول باليد و غيره فلا محالة يكون الاستيلاء و الدخول في قبضة التصرّف بالنسبة إلى كلّ شي ء على حسبه.

مثلا لو قيل: زيد قد أدخل جميع ما يملكه تحت استيلاء عمرو و في قبضة اقتداره و كان في ما يملكه الدار و العقار و المركب و الكتاب و غير ذلك فلا محالة يكون الاستيلاء بالنسبة إلى هذه الأمور متفاوتا في الخارج. و على كلّ حال ظاهر الخبر الأوّل جعل القبض الذي هو فعل المشتري رافعا للضمان.

و أمّا الخبر الثاني: فالظاهر من كلمة (يقبضه) أيضا هذا المعنى، فإنّ معنى

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل: ج 13، الباب 9، من أبواب الخيار، ص 303، ح 1.

(2)- الوسائل: ج 12، الباب 10، من أبواب الخيار، ص 358،

ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 372

الإقباض هو الملازم للقبض كالكسر الملازم للانكسار، و أمّا عنوان الإخراج من البيت فمن الواضح عدم موضوعيّة للبيت، فهو نظير البيت في آية وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهٰاجِراً إِلَى اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ الآية «1». حيث إنّها عامّة لمن ليس له بيت و يسكن المسجد أو المخروبة، فالظاهر أنّه كناية عن الإخراج عن تحت السلطنة لكن من المعلوم أيضا أنّه ليس المراد ذلك و لو بالإلقاء في الصحراء بل خصوص ما كان بمحضر من المشتري، و في عرضه قبوله و تسلّمه حيث إنّ الغالب عدم انفكاك الإخراج بهذا النحو عن قبوله، فلا يبعد أن يجعل كناية عنه.

و الحاصل: أن يكون المراد من إخراج المال عن تحت سلطنة البائع هو إدخاله تحت سلطنة المشتري، فيتّحد مع مفاد الإقباض، و على هذا فلا مخالفة بين ظاهري الخبرين بل هما معا دالّان على أنّ رافع الضمان فعل المشتري.

لا يقال: ما ذكرته جار في قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» لأنّ التأدية بدون الأداء محال كالكسر بدون الانكسار. لأنّا نقول: إن أمكن الالتزام نلتزم بذلك في ذلك الباب أيضا و إلّا فذلك التسلّم الخارجي أوجب رفع اليد عن مقتضى الظاهر و ليس هو في مقامنا فالقياس مع الفارق.

و يمكن أن يقال في كلا الخبرين أنّه لا يفهم من قولهم- عليهم السلام-: تلف المبيع قبل قبضه من مال البائع، صورة كون المال في ما بينهما محلّا للنزاع، فالبايع يقول: خذ و المشتري يمتنع بل هو ناظر إلى صورة عدم إقدام البائع على الإحضار و التسليم، و إذن فيبقى صورة الإقدام و الامتناع

مسكوتا عنها.

و حينئذ فهل نرجع إلى استصحاب كون الضمان على البائع لو تلف أو إلى

______________________________

(1)- النساء/ 100.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 373

عامّ موجود في البين يقتضي ضمان المشتري؟ لا يبعد الثاني بملاحظة بعض الأخبار المتقدّمة في بيع الشرط المستفاد منها الملازمة بين ثبوت النماء و الضمان فيقال: إنّ النماء كان للمشتري فبقاعدة الملازمة المذكورة يكون الضمان عليه، و ليس هنا مقام الرجوع إلى الاستصحاب؛ لأنّ القدر المتيقّن الخروج عن تحت هذه القاعدة صورة عدم القبض لعدم الإقدام على التسليم، فيبقى غيرها تحتها لفرض سكوت المخصّص عن حكم الغير.

لا يقال: المستفاد من تلك الأخبار إنّما هو الملازمة بين الضمان و النماء يعني كلّما ثبت الضمان ثبت النماء لا العكس. لأنّا نقول: مع ذلك يفيدنا. لأنّا نقول:

كان الضمان قبل هذا الحال على شخص و النماء لشخص آخر و في هذا الحال نشكّ في التفكيك و مقتضى عموم التعليل عدمه، و أنّه كما يكون النماء للمشتري يكون الضمان عليه، لأنّ ثبوت النماء للبائع مقطوع العدم.

و الحاصل: أنّ تخصيص قاعدة (من عليه الغرم فله الغنم) المستفادة من العموم المذكور إلى الحال معلوم فلو كان الأمر من بعد ذلك أيضا بهذا المنوال لزم تخصيص أزيد، و لا يبقى بعد هذا إشكال غير أنّه ليس لهذا العموم عموم أزماني، و لكنّه أيضا مدفوع بأنّا نتمسّك بعمومه الحالي مثل حالتي الفسق و العدالة في الفرد الواحد إذا كان متيقّن الخروج و لو في إحدى حالتيه فإنّه يؤخذ حينئذ بإطلاق الكلام بالنسبة إلى الأخرى و إن لم يمكن بالنسبة إلى العموم الأفرادي، فكذا في المقام كما هو واضح.

فتحصّل أنّ معيار رفع الضمان فعل البائع بلا مدخل لفعل المشتري، و يؤيّد هذا

ما أشرنا إليه سابقا من أنّ البائع إنّما تعهّد في إنشائه التسليط من قبله

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 374

لا مطلقا، و معناه أن يوجد المقدّمات بحيث لم يكن بين المال و بين المشتري حائل غير إقدام نفس المشتري على قبوله، فإذا عمل البائع بهذا خارجا فقد خرج عن العهدة، و الحاصل ليس للضمان مع العمل المذكور على طبق الإنشاء وجه، هذا.

بقي في المقام مطلب آخر و هو: أنّ القبض الذي يرفع الضمان قد عرفته في غير المكيل و الموزون، و أمّا فيهما فهنا احتمالات:

الأوّل: أن يكون رافع الضمان و رافع الحرمة أو الكراهة أو المصحّح- على الوجوه الآتية في محلّه إن شاء اللّه تعالى- بالنسبة إلى البيع الثاني شيئا واحدا و هو الاستيلاء بطريق الكيل و الوزن، فللخصوصيّة مدخل في الحكمين و ليس مناطهما كما في غير المكيل و الموزون بالنسبة إلى رفع الضمان مجرّد الاستيلاء بلا ضمّ خصوصيّة زائدة.

الثاني: أن يكون أيضا شيئا واحدا و هو نفس الكيل و الوزن و إن لم يتحقّق معهما الاستيلاء للمشتري بل كان المتاع تحت استيلاء البائع بعد، فكان في هذا الباب تعبّد شرعي بأنّه يرتفع الضمان بنفس هذا و إن لم يتحقّق الاستيلاء و أنّ هذا قبض شرعا تعبّدا.

الثالث: أن يكون رافع الضمان مثل سائر الأبواب هو الاستيلاء و القبض الحقيقي، و موجب ارتفاع الكراهة أو الحرمة أو المصحّح للبيع الثانوي هو أحد الأمرين الأوّلين من الاستيلاء الخاص أو نفس الكيل و الوزن و إن لم يكن في ضمن الاستيلاء.

و الظاهر إمكان دعوى القطع بأنّ رفع الضمان في هذا الباب لم يرد فيه تعبّد من الشارع بأنّه خصوص الكيل أو الوزن أو المقيّد بهما، و

لا يستفاد هذا من

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 375

الأخبار الواردة في النهي عن البيع الثانوي قبل القبض أيضا.

و أمّا بالنسبة إلى حكم البيع الثانوي فاعلم أنّ في الأخبار المذكورة التعبير بالنهي عن البيع الثانوي قبل القبض تارة و قبل الكيل أو الوزن أخرى، و في بعضها ذكر في السؤال بيع المكيل و الموزون قبل قبضه، و في الجواب نهى عن البيع قبل الكيل أو الوزن، و يحصل من ملاحظة هذا و ملاحظة أنّ المتعارف في الخارج في كيفيّة تسليم المكيلات و الموزونات هو بطريق الكيل و الوزن- دون أن يسلّم مقدارا و يؤخّر الكيل و الوزن أو يكال و يوزن و يؤخّر التسليم بل الأمران في مجلس واحد بل نفس الكيل و الوزن هو التسليم بمعنى أنّهما كيفيّته- احتمالان:

أحدهما؛ أن يكون لخصوصيّة وقوع التسليم و القبض بهذه الكيفيّة موضوعيّة و مدخليّة في حكم رفع الحرمة أو الكراهة أو إيجاب الصحّة.

الثاني: أن يكون لأجل المعرّفية و الإشارة إلى ذلك المتعارف الخارجي، و يمكن استظهار الثاني كما عرفت أنّ في بعض الأخبار ذكر القبض بدون إشارة إلى الكيفيّة فمن المحتمل قويّا بل الظاهر أن يكون ذكر الكيفيّة في البعض الآخر أيضا لنكتة الغلبة، هذا.

بقي في المقام سؤالان:

الأوّل: في غير المكيل و الموزون الذي لا يعتبر في بيعه ثانيا قبض المشتري المتاع من البائع لو باعه من ثالث قبل القبض فتلف في يد البائع الأوّل، فهل قاعدة ضمان التلف قبل القبض جارية بالنسبة إلى كليهما؟ فكلّ من البائعين ضامن لمشتريه، و حيث إنّ الضمان هنا معاوضي و معناه انفساخ المعاوضة فيقدّر

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 376

المبيع في آنين قبل التلف ملكا للبائع الثاني فينتقل

الثمن إلى المشتري الثاني ثمّ يقدّر في الآن المتأخّر المتصل بالتلف في ملك البائع الأوّل فينتقل الثمن إلى المشتري الأوّل؟ أو أنّها جارية بالنسبة إلى البائع الأوّل فقط دون الثاني؟ و لازمه بطلان المعاملة الثانية من هذا الحين فيشترك نتيجة مع الأوّل، أو جارية بالنسبة إلى الثاني فقط؟

و السؤال الثاني: أنّه على تقدير شمولها للبائع الأوّل فلو أقبض المتاع للمشتري الثاني فتلف فلا إشكال في أنّه و البائع الثاني بريئان عن الضمان؛ لأنّ القبض المعتبر إنّما هو بالنسبة إلى ذي الحقّ و هو المشتري الثاني؛ فإنّ الأوّل غير مالك، و أمّا لو أقبضه للمشتري الأوّل فهل هو كما لو أقبضه للغاصب في عدم إفادته إبرائه أو لا؟

أمّا السؤال الأوّل: فالظاهر انصراف دليل القاعدة عن البائع الأوّل، فإنّه حين تعهّده إنّما تعهد بالإيفاء إلى شخص مشتريه، و هو بالفرض ممتنع، لعدم بقاء الموضوع بواسطة اختيار نفس المشتري، و بالجملة: إنّما تعهّد بذلك ما دام ذا حقّ على المال لا مطلقا، و لو زال علاقته و قد قلنا إنّ منصرف الدليل هو الوفاء بعين ما تعهّده إنشاء خارجا، نعم بالنسبة إلى البائع الثاني هذا المعنى متحقّق، و صرف عدم كون المال في يده لا يضرّ، و على هذا فالآن الذي قبل التلف حسب القاعدة يصير المال للبائع الثاني و الثمن الذي عنده للمشتري الثاني، و حيث إنّ المال تلف في يد البائع الأوّل و هو ملك البائع الثاني في الآن الذي قبل التلف فتجري قاعدة ضمان اليد و يحكم بضمان البائع الأوّل للبائع الثاني المثل أو القيمة. نعم ينبغي استثناء ما إذا كان حبس المبيع عند البائع الأوّل بحقّ بأن حبسه لأخذ الثمن، فإنه حينئذ أمانة شرعيّة

فلا ضمان إلّا مع التعدّي و التفريط.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 377

و حاصل الكلام في القبض الرافع للضمان سواء في المكيل و الموزون أم غيرهما: أنّ مقتضى الجمود على لفظي القبض الواقع في النبوي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإقباض الواقع في الرواية هو اعتبار الوصول بيد المشتري الذي هو فرع قبوله، و عدم كفاية التخلية بل و لا الإحضار بمحضره ليقبله ما لم يقبل.

لكن من المحتمل أن يكون مناط الحكم هذا و أن يكون ما هو ملازم له غالبا ممّا هو مستند إلى البائع، أعني: رفع المانع من ناحيته و الإحضار بمحضر المشتري، فإنّ هذا ملازم غالبا مع قبول المشتري و الوصول تحت استيلائه، و من النادر أن يردّ المشتري متاعه المشترى بعد إحضار البائع لأن يأخذه، فمن المحتمل أن يكون ذكر عنوان القبض و الاستيلاء الذي هو نتيجة الأمرين من الإحضار و القبول من باب ذكر قيد اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ «1» الواقع في الآية الشريفة لنكتة الغلبة لا لنكتة الإناطة.

غاية الفرق أنّه في الآية الشريفة انعقد الظهور في الإطلاق و في مقامنا لا ينعقد الظهور في كون المناط ما هو من شأن البائع و من ناحيته بل يحصل الإجمال فيسقط عن الاستدلال في المورد النادر و هو التفكيك بين الإحضار و القبول، فيجي ء المحلّ لاستصحاب الضمان الثابت على البائع قبل هذا الإحضار الذي شكّ في ارتفاعه بسببه.

و لكن قلنا: نتشبّث بذيل العموم المتقدّم لإثبات عدم الضمان عليه و كون التلف على نفس المشتري، و لازم هذا أن يختلف الحال في المقامات من جهة وجود هذا العموم القاطع للاستصحاب المذكور و عدمه، ففي ما نحن فيه، أعني:

______________________________

(1)- النساء/ 23.

كتاب البيع

(للأراكي)، ج 2، ص: 378

حكم رافعيّة الضمان في البيع، العموم موجود، و أمّا في باب اشتراط الهبة و الصدقة و الرهن و الوقف بالقبض فاستصحاب عدم الانعقاد جار إلّا أن يكون في أدلّة تشريع أحد المذكورات أو كلّها إطلاق أو عموم حتّى نأخذ به و نرفع اليد عن الاستصحاب.

و قد يقال: إنّ عموم دليل السلطنة موجود، و لكنّه مدفوع بما في كلام شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- من سكوتها عن تشريع أسباب التصرّف، و المقصود: أنّا مع قولنا بأنّ رافع الضمان في باب البيع هو فعل البائع لسنا نخلو بين أن نقول بأنّ القبض المعتبر في سائر الأبواب أيضا ذلك، فلقائل التفريق، و القول فيها بأنّ المناط هو الاستيلاء الذي هو نتيجة الفعلين أو نفس القبول استنادا إلى الاستصحاب المذكور مع عدم العموم الحاكم. هذا هو الحال في القبض الرافع للضمان سواء في المكيل و الموزون أم غيرهما.

و أمّا القبض المعتبر في المكيل و الموزون لصحّة البيع الثاني أو جوازه في مقابل الحرمة أو الكراهة فمحصّل الكلام فيه: أنّ وقوع التعبير بأنّه لا تبع المكيل و الموزون حتّى تكيله أو تزنه بعد السؤال عن بيعهما قبل القبض، إمّا ظاهر في أنّ المراد بالكيل و الوزن هو القبض و التعبير إنّما هو لنكتة الغلبة كما تقدّم، و إمّا مجمل و لا أقلّ من ذلك لتساوي الاحتمالين، إذ لا يمكن دعوى الظهور في الموضوعية للكيل و الوزن، فغاية الأمر عدم إمكان التمسّك بالإطلاق الذي هو متصل بهذا الكلام أو في سؤال السائل لهذا الجواب.

و أمّا الإطلاق المنفصل الذي قد عرفت وجوده في بعض الأخبار حيث إنّ السؤال و الجواب كليهما مشتمل على ذكر القبض بدون تعرّض للكيل و

الوزن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 379

فالتمسّك به بمكان من الإمكان.

و بعبارة أخرى: الغلبة صارت بحدّ أوجبت سقوط ظهور القيد في التقييد و لم تصر بحدّ أوجبت انصراف المطلق المنفصل إلى الغالب، إذ ليس غيره نادرا جدّا، نعم الإطلاق المتّصل يصير محفوفا بما يصلح للقرينية فيسقط عن قابلية الاستدلال.

لا يقال: كما أوجبت إجمال القيد فلتوجب إجمال المطلق و سقوطه عن الإطلاق و إن لم توجب الانصراف، لأنّا نقول: أوّلا لنا أن نتمسّك بالقبض الواقع في النبوي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كلّ مبيع تلف إلخ» حيث إنّه في غاية الظهور في نفس القبض من دون اعتبار شي ء معه، و بعد إثبات أنّ القبض الرافع للضمان في المكيل و الموزون هذا، نقول: بأنّ المعتبر في البيع الثاني أيضا ذلك للإجماع الذي ادّعوه على اتّحاد القبض في البابين على خلاف ما احتمله في المسالك.

و ثانيا: حقيقة القبض عند العرف نفس الاستيلاء من دون دخل للكيل و الوزن في حقيقته، و إنّما المحتمل كونه بصرف التعبّد الشرعي دخيلا في الموضوع، و هذا لا يدخل احتماله في ذهن العرف بإلقاء حقيقة القبض، و لو فرض التفاتهم إلى الغلبة المذكورة فلا يتوقّفون بل يحكمون بأنّ الحكم دائر مدار حقيقة القبض و إن كان هو في الوجود ملازما غالبا مع شي ء آخر غير مرتبط بحقيقته فهو من المقارنات للموضوع.

و حاصل الإشكال في المقام: أنّ المتكلّم بالمطلق إذا كان الغالب من أفراد ذلك المطلق واجدا لقيد كذا مثل الماء بالنسبة إلى العذب و الإنسان بالنسبة إلى ذي رأس واحد فلا نقض لغرضه لو لم يذكر القيد، فلا تتم المقدّمات لدفع هذا القيد

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 380

الغالبي.

و

حاصل الجواب: أنّ المفروض كفاية مسمّى القبض في باب رفع الضمان بلا مدخليّة تعبّد فيه، و الإجماع أيضا قائم على أنّ ما هو القبض في ذلك الباب قبض في هذا الباب و لا حاجة إلى ما عدا القبض، فحينئذ إن كان هناك تعبّد من الشارع بأنّ الفرد الفلاني ليس بقبض تعبّدا كان مقدّما على ذلك.

و لكن غاية ما في الباب أنّ الدليل ساكت عن الفرد الغير المجامع مع الكيل و الوزن لا أنّه متعرّض لسلب القبضيّة عنه تعبّدا، فما حكم على الإنسان بشي ء غير متعرّض لذي رأسين لا أنّه يسلب عنه عنوان الإنسانيّة تعبّدا، فلو قطعنا بأنّ الحكم الكذائي لا يحتاج إلى أزيد من الإنسانية فلا يكون الأوّل تقييدا فيه.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 381

[القول في أحكام القبض]

اشارة

القول في أحكام القبض

الأوّل: إنّ المبيع قبل قبضه في ضمان البائع، و الأولى التعرّض هنا لمفاد النبوي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» «1» فنقول و على اللّه التوكّل: فيه ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أنّ المبيع التالف يكون من جملة أموال البائع بأن يكون (من) تبعيضيّة، و حيث لا يعقل ملكيّة التالف يحمل بدلالة الاقتضاء على ما قبل التلف.

و الثاني: أنّه ينشأ تلفه من ماله، و من هناك يظهر تلفه و خسارته، فنفس الدليل متكفّل حينئذ لثبوت الملكيّة قبل التلف.

الثالث: أن يكون المراد أنّ نفس التلف وارد على كيس البائع و هو المتخسّر بهذا التلف فيفيد ثبوت ضمان المثل أو القيمة على البائع للمشتري، و يمكن دعوى كون الأخير خلاف الظاهر، لأنّ التعبير بأنّ التلف من كيس فلان و إن كان شائعا في مقام تحميل الضمان عليه، و لكنّ التعبير بأنّ

التلف من ماله غير متعارف، فيتعيّن الأمر في أحد الأوّلين، و مقتضاهما حصول ملكيّة التالف قبل تلفه للبائع، و حيث إنّ مقتضى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ حصول أصل الملك و بقائه فاللازم القصر في تخصيص ذلك على مقدار الضرورة و هو الآن العقلي الغير القابل للتجزّي.

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل: ج 13، الباب 9، من أبواب الخيار، ص 303، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 382

و يمكن الخدشة فيه بأنّه تارة نقول: أصل حصول الملك قطعي و كذلك عدم زواله إلّا بمقدار ينافي كون التالف من مال البائع، فحينئذ يصحّ ما ذكر.

و أخرى نقول: لا قطع خارجي بل لا بدّ من رعاية مقتضى الجمع بين الأدلّة فحينئذ لم لا يجوز أن يقال بتخصيص أحلّ اللّه البيع بأن يكون شرط صحّة البيع هو القبض؟ فما لم يقبض فلا بيع، و بعبارة: لا بدّ على كلّ حال من تخصيص عام، إمّا عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و إمّا عموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ، و ليس الثاني بأكثر من الأوّل.

اللّهمّ إلّا أن يقال بأنّ الدليل في مرحلة بقاء الملك و عدم زواله ليس عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، إمّا لعدم ارتباطه بالعقود المعامليّة رأسا، و إمّا لعدم ارتباطه بمقام بقاء الملك و زواله، بل الدليل في مرحلته هو استصحاب الملك، فيكون عموم الاستصحاب أولى بالتصرّف، لأنّه أصل في مقابل الدليل بخلاف عموم أحلّ فإنّه دليل.

إلّا أن يقال: إنّ الأمر دائر بين القول بعدم الملك قبل القبض ليكون تخصيصا في أَحَلَّ و بين القول بحصول الانفساخ قبل التلف آنا ما ليلزم التخصيص في ثلاث قواعد، قاعدة سلطنة الناس على أموالهم و قاعدة سلطنتهم على النفوس و قاعدة الخراج بالضمان، أمّا الأولى فللزوم خروج

المبيع عن ملك المشتري، و كذا الثمن عن ملك البائع بلا اختيارهما و أمّا الثاني فللزوم عود المبيع إلى ملك البائع و عود الثمن إلى ملك المشتري مع عدم رضاهما، و أمّا الثالث فلأنّ النماء للمشتري و التلف على البائع و قد كان مفاد القاعدة ثبوتهما لشخص واحد، فإذا دار الأمر بين تخصيص ثلاث قواعد و بين تخصيص قاعدة واحدة فالثاني أولى.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 383

و يمكن أن يجاب عن قاعدة الخراج بالضمان بأنّها غير مخصّصة على القول بالانفساخ، لأنّ موضوعها صورة محفوظيّة الملك، فكأنّه قيل: ما دام المال ملكا لأحد فالنماء و الضمان متلازمان و كلاهما ثابتان في حق المالك، فإذا فرض اختلاف الموضوع بأن صار آنا ما قبل التلف ملكا للبائع فهذا ليس تخصيصا في القاعدة، فإنّه لو فرض له نماء في هذا الآن كان أيضا للبائع، نعم لو اقتضى قاعدة عدم الخروج عن الملك كان هذا منافيا معها.

و أمّا قاعدة السلطنة على المال و النفس فهما متأخّران رتبة عن عموم أحل؛ فإنّ الأخير محقّق للموضوع بالنسبة إليهما فإذا تحقّق موضوع ماليّة المبيع للمشتري و الثمن للبائع يجي ء المحلّ للقاعدتين، فيكون الانفساخ منافيا معهما، و أمّا إذا فرض التصرّف في دليل أحلّ و القول بعدم حصول الملك للجانبين فلا تخصيص فيهما أصلا.

و حينئذ فإن كان اللازم في مثل ذلك إيراد التصرّف في العام الأخير؛ لأنّ العام الأوّل ليس في عرضه معارض فيؤخذ بعمومه فإذا أخذنا به يتعيّن التخصيص في ما بعده تعيّن القول في ما نحن فيه بحصول الملك أوّلا ثمّ الانفساخ آنا ما قبل التلف، لكنّ المطلب محلّ مناقشة بل العرف يتوقّفون في ما بين إيراد التخصيص على أيّ من

العامّين و لا يجعلون صرف التقدّم الرتبي مرجّحا.

و إذن فلا يبقى دليل لصحّة البيع قبل القبض فيكون مقتضى الأصل هو الفساد إلّا أن نتمسّك للصحّة بما في أخبار النهي عن بيع المكيل و الموزون قبل قبضهما من استثناء بيع التولية، و كذلك تجويز البيع قبل القبض مطلقا في غير المكيل و الموزون، فإنّه لو كان القبض شرط صحّة العقد الأوّل لما كان لجواز البيع

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 384

في المكيل و الموزون تولية و في غيرهما مطلقا وجه، فهذا دليل على أنّ القبض في صورة المرابحة أيضا ليس لأجل دخالته في صحّة البيع الأوّل بل لتصحيح أو تجويز أو رفع كراهة البيع الثاني، فإذا تحقّق أصل حصول الملك يتعيّن القول بالانفساخ آنا ما للاقتصار في خلاف القاعدة على مقدار الضرورة.

و يمكن الخدشة أيضا بأنّ مصبّ الأخبار المذكورة بيع الكلّي و ضمان التلف قبل القبض ليس فيه لعدم الموضوع إلّا إذا كان كلّيا في المعيّن، فغاية الأمر أنّ القبض ليس شرط الصحّة في بيع الكلّي، و يبقى الشخصي تحت عموم ما دلّ على الفساد إلّا مع القبض إلّا أن يدّعى القطع بعدم الفرق.

و يمكن دفع أصل الإشكال بأن يقال: ظاهر قوله- عليه السلام-: «كلّ مبيع تلف إلخ» بمقتضى الظهور المنعقد في عامّة القضايا في كون الموضوع علّة للحكم أنّ التلف سبب لملكيّة البائع، و هذا لا يجامع مع الملكيّة السابقة فإنّ المعلول لا يتقدّم على العلّة، و الملكيّة المتأخّرة أيضا غير معقولة، فلا بدّ من الحمل على معاملة الملكيّة و معناها إرجاع الثمن إلى المشتري، و حينئذ فدليل صحّة أصل البيع و بقائه محفوظ بحاله، و كذا يترتّب آثار الملكيّة من أوّل العقد إلى

حين التلف و من هذا الحين يعامل معاملة ملك البائع من حيث ردّ الثمن، و لا يعارض ما ذكرنا ظهور قوله: «من مال بائعه» في كونه على وجه الماليّة الحقيقيّة لا التنزيليّة؛ فإنّ ظهور السببيّة أقوى، هذا.

و قد يقام البرهان علاوة على الظهور على إرادة التنزيل لا التحقيق بأحد نحوين: الأوّل: أنّ من قال بالملك الحقيقي قال بأنّه في جزء لا يتجزّأ من الزمان و هو مبنيّ على القول بالجزء الذي لا يتجزّأ و بناء على البطلان كلّ جزء من الزمان

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 385

تدريجيّ و لا ينتهي إلى ما لا جزء له، ففي أيّ مقدار منه يفرض حصول الملكيّة يمكن الأقلّ منه فيبقى الترجيح في ما بين المراتب بلا مرجّح، و هذا المحذور إنّما نشأ من الملك الحقيقي، و أمّا التنزيلي فلا محذور فيه فإنّا بعد التلف نعامل معاملة حصول الملك في الآن الذي لا يتجزّأ قبل التلف.

و الثاني: أنّ المال الذي يتلف في الآن المتّصل لا ماليّة له، إذ لا يرغب في بذل المال بإزائه أحد، فلا يتحقّق حقيقة الماليّة في الآن المتّصل بالتلف نعم يمكن التنزيل، هذا ما يقال، لكنّ الحق بطلان كلا الوجهين.

أمّا الوجه الأوّل ففيه: أوّلا: إنّا سلّمنا الملكيّة في جزء من الزمان لكن لزوم الترجيح بلا مرجّح إنّما هو في ما إذا كنّا نحن المتصدّين للتخصيص، و أمّا إذا كشفنا بالتلف عن تخصيص الشارع الملك بقدر قليل فلا يرد إشكال علينا.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب البيع (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

كتاب البيع (للأراكي)؛ ج 2، ص: 385

و ثانيا: لنا أن نقول حال هذه الملكيّة حال الفصل و الوصل

و الخروج و الدخول حيث إنّها أمور دفعيّة آنية الحصول و ليست في جزء من الزمان، فلم لا يجوز أن يكون حال الملكيّة أيضا كذلك؟

و أمّا الوجه الثاني ففيه: أنّ عدم رغبة أحد أعمّ من الماليّة، فربّ مال لا يرغب أحد في شرائه كالجوهر الغالي القيمة، و أيضا فلازم ما ذكر عدم تصوّر التلف للمال و هو بديهيّ البطلان.

ثمّ إنّ ثمرة القول: بالملكيّة التنزيليّة و الحقيقيّة بعد الاشتراك في أنّ النماء المتخلّل بين العقد و التلف للمشتري تظهر في مؤنة تجهيز العبد، فعلى الأوّل يكون على المشتري و على الثاني على البائع، أمّا الثاني فواضح، و أمّا الأوّل فلأنّ التنزيل لا يشمل مثل هذا الأثر، إذ فرق بين قولنا: كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 386

البائع و بين كلّ عبد تلف، فظاهر الأوّل هو بالنسبة إلى آثار المعاملة من ملكيّة الثمن، فالمقصود استرجاع الثمن من البائع، نعم ربّما يمكن دعوى الظهور في الثاني في ما يعمّ مؤنة التجهيز أيضا بدعوى أنّها من الآثار الظاهرة.

ثمّ إنّه لا يبعد أن يقال: إنّ التلف أعمّ من التلف الحقيقي و من تعذّر الوصول مع عدم رجاء العود عادة، فإنّه بنظر العرف يعدّ تلفا و بعد كون الموضوع ما هو التلف عند أهل العرف يكون مصداقا لموضوع الحكم بالدقّة، و لكن لو تمكّن منه على خلاف العادة بعد اليأس منه، فهل هذا من قبيل إعادة المعدوم فنتكلّم في أنّه يعود إلى المشتري، أو يبقى على ملك البائع أو حكم ملكه، أو يفرّق بين القول بالكشف الحقيقي و الحكمي، أو ينكشف أنّه لم يكن هناك تلف؟

و بعبارة أخرى: اليأس العادي من العود هل

هو مأخوذ موضوعا أو طريقا؟

فعلى الأوّل يكون العود من قبيل إعادة المعدوم، و على الثاني نكشف أنّ ما تخيّلناه معدوما ما كان معدوما.

رجّح شيخنا الأستاذ- دام بقاه- الثاني بشهادة أنّه لو كان أحد يعلم بأنّ البحر بعد زمان قليل يجفّ و يتمكّن من الجوهر الذي وقع فيه فعند هذا الأحد لا يصدق عنوان التلف، بل هو يقول: ما عرض بالمال شي ء لا أنّه يقول: إنّه كالميّت الذي سيعود بالإحياء، و على هذا فلا مجال للتكلّم المذكور، بل المبيع ملك المشتري من الأوّل، و الآن باق أيضا عليه، لعدم وقوع التلف قبل القبض، نعم يجي ء هذا الكلام بالنسبة إلى الموت الحقيقي مع إعادة صاحب الإعجاز إيّاه و لسنا بمقام تعيين حكم هذا الفرض النادر.

ثمّ إنّ المبيع تارة شخصيّ و أخرى كلّي، و الكلّي تارة في الذمّة و أخرى في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 387

الخارج مثل الصاع من الصبرة الخارجية المعيّنة، أمّا الكلّي في الذمّة فليس له تلف قبل القبض حتّى نتكلّم فيه، و أمّا القسمان الآخران فيتصوّر فيهما ذلك، فهل القبض الرافع للضمان في كلّ منهما يشترط فيه وقوعه بإذن البائع أو يكفي و لو كان باستقلال يد المشتري و لو لم يطّلع البائع أو منع؟ الظاهر الكفاية في الشخصي و كذا في الكلّي الخارجي مع ثبوت يده على تمام الصبرة التي بيع صاع منها، نعم مع استيلاء يده على خصوص صاع من الصبرة لا قبض.

أمّا الثاني: فواضح، لأنّ التعيين بيد البائع فما لم يعيّن لا ينطبق المبيع على المقبوض، فلو تلف تمام الصبرة يصدق تلف المبيع قبل القبض، و أمّا الأوّل فيمكن أن يستفاد من النصّ سواء النبوي أم رواية عقبة: أنّ الاستيلاء

و الكون تحت يد المشتري هو المعيار، و أنّ التعبير بالإقباض الواقع في الرواية أيضا ليس لأجل موضوعيّة في الاستناد إلى إقباض البائع و إذنه و رضاه، بل إنّما أخذ توصّلا إلى الوصول إلى المشتري، و لهذا لو كان بيد المشتري من الابتداء لا يتوهّم من النصّ جريان الضمان فيه، و لا ينافي هذا ما قلناه سابقا من أنّ النصّ ساكت عن الإقباض المنفكّ عن القبض؛ لأنّا بمناسبة الحكم و الموضوع نجعل الإقباض عبرة إلى القبض و حكم الضمان الثابت في ما قبله ساكت عن صورة تقصير المشتري في ترك القبض مع خروج البائع عمّا في عهدته.

هذا كلّه في التلف السماوي، و أمّا غيره فإمّا يكون من إتلاف المشتري و إمّا من إتلاف البائع، و إمّا من الأجنبي، أمّا إتلاف المشتري فالظاهر انصراف النصّ إلى غيره بل و كذلك إتلاف البائع، فلا يقال: تلف المبيع قبل القبض، بل يقال:

أتلفه البائع، كما أنّ إتلاف الأجنبي لا إشكال في اندراجه، بل السرقة منصوصة في

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 388

رواية عقبة بن خالد.

بقي الكلام في ما احتمله الشيخ- قدّس سرّه- من احتساب إتلاف المشتري في ما إذا قدّم البائع الطعام المبيع إليه فأكله من إتلاف البائع، و قياسه بما إذا قدّم الغاصب المغصوب إلى المالك فأتلفه، و الظاهر عدم الوجه للانفساخ في هذه الصورة، فإنّه لا شبهة في تحقّق القبض حينئذ و كون التلف بعده، نعم قاعدة الغرور لو فرض تحقّقه جارية و حاكمة بضمان القيمة الواقعيّة على البائع، و لو فرض أنّه إتلاف من البائع لكون السبب أقوى فغايته شمول دليل من أتلف و ثبوت الضمان بالقيمة الواقعيّة أيضا.

و أمّا ما احتمله- قدّس سرّه- في

مطلق إتلاف البائع من التخيير بين الثمن و القيمة فلا يمكن أن يكون وجهه تعارض قاعدتي الإتلاف و التلف قبل القبض، فإنّ النسبة بينهما عموم من وجه، و العامّان من وجه لا يرجع بعد تساقطهما في مورد التعارض إلى التخيير- فإنّه خاص بالمتباينين- بل إلى سائر القواعد و الأصول، و إن كان وجهه التزاحم بين السّببين- و لعلّه ظاهر العبارة- ففيه: أنّه إن أريد بالانفساخ في قاعدة التلف هو الحقيقي منه فلا تزاحم أصلا؛ لأنّ قاعدة التلف واردة على قاعدة الإتلاف و جاعلة للمال من نفس البائع، و كذلك إن كان المراد هو التنزيلي منه، فإنّ التنزيل منزلة مال البائع آنا ما قبل التلف أظهر الآثار المرغّبة فيه هو كون ضمانه على نفسه، و عدم كونه ضامنا للغير بتلفه، فتكون القاعدة حينئذ حاكمة على قاعدة الإتلاف.

و على كلّ حال لا يتمّ التزاحم إلّا أن يقال: إنّه بناء على التنزيل و الكشف الحكمي يتحقّق التزاحم، إذ هنا سبب يقتضي التضمين بالمثل أو القيمة و سبب

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 389

يقتضي المعاملة مع التلف معاملة مال البائع الذي تلف في يده و لا مرجّح لأحدهما على الآخر، و صرف أنّ الثاني مقتضى للمعاملة مع التلف معاملة مال البائع إنّما ينفع في مقام المعارضة، و أمّا في مقام المزاحمة فهما في عرض واحد، فلا محيص عن التخيير. و الحاصل: أنّ الحكومة إنّما تنفع في مقام الدلالة و الإثبات و كلامنا في مرحلة الثبوت.

و إن قيل إنّه بحسب هذه المرحلة أيضا تارة كلّ من السببين يقتضي شيئا معاندا لما يقتضيه الآخر، بحيث يكون الاقتضاء الأوّلي لكلّ منهما لذلك المعاند، فهذا مقام التزاحم، و أخرى يكون أحدهما مقتضيا

لشي ء و الآخر مقتضيا لأن لا يكون الأوّل مقتضيا كما في المقام حيث مقتضى أحدهما التضمين بالمثل أو القيمة و مقتضى الآخر المعاملة مع التالف معاملة ملك نفس المتلف، فهذا الثاني لأجل التقدّم الرتبي مقدّم على الأوّل، لكنّه أيضا محلّ خدشة، فإنّه ربّما يكون سببيّة الأوّل ناقصة و يكون الثاني راجعا إلى نقص في شرائط عليّة الأوّل، و أخرى يكون المفروض تماميّة الأوّل في جهات العلّية الحيثيّة لو لا الابتلاء بجهة المزاحمة، فإن كان الثاني يمنع تقدّم الثاني.

هذا هو الكلام في التخيير بناء على مذاق السببيّة، و أمّا بناء على ما اختاره شيخنا المرتضى و قوّاه من بنائه على خيار تعذّر التسليم فهو لا إشكال فيه لو تمّت الكبرى، أعني: أصل ثبوت الخيار عند تعذّر التسليم و إن كان في تقوية شيخنا المسألة المتفرّعة عليه دلالة على أنّه مفروغ عنه عنده؛ فإنّه بعد ثبوت هذا الأصل نقول: المشتري بواسطة تعذّر تسليم المبيع مخيّر بين الفسخ و الإمضاء، فإن أمضى البيع كان له تضمين البائع بالمثل أو القيمة لقاعدة الإتلاف، و إن فسخه كان له الثمن.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 390

و قد يقال في إثبات الأصل المذكور: إنّه مقتضى قاعدة نفي الضرر عن المشتري حيث خرج الثمن عن كيسه و لم تصل يده إلى عوضه، و جبران هذا الضرر إنّما هو بالخيار، و فيه: أنّه يمكن الانجبار بالضمان و تغريم البائع بالبدل الواقعي.

لا يقال: فكيف في خيار الغبن قلتم بثبوت الخيار مع إمكان جعل الضّمان هناك؟ لأنّا نقول: إثبات الضمان هناك حكم وجوديّ و ليس قضيّة نفي الضرر إلّا رفع الحكم الذي نشأ منه الضرر و هو إطلاق حكم لزوم العقد بالنسبة إلى صورة عدم

بذل التّفاوت، و أمّا هنا فلا حاجة إلى إثبات حكم بقاعدة نفي الضرر، فإنّ الضمان ثابت بأدلّته، فليس في حكم الشرع ضرر.

و قد يقال: إنّه مقتضى العقد، فإنّه التسليم و التسلّم لا أحدهما فقط فإذا امتنع أحدهما فليس خلاف مقتضى القرار إباء الطرف الآخر، و فيه: أنّ غايته حصول عهدة لكلّ من المتعاقدين بالنسبة إلى تسليم المال الذي انتقل عنه، و هذا ليس مقتضيا للفسخ بل التضمين بالبدل الواقعي، فإنّه و إن لم يتعهّد إنشاء إلّا نفس المبدل و لكنّ العهدة عرفا مقتضية لإعطاء البدل عند عدم إمكان المبدل، و لا يرد الإشكال بصورة انتفاء المبيع رأسا حين البيع، فإنّ ما ذكرنا في فرض انعقاد أصل المبادلة صحيحا، و في هذا الفرض لم ينعقد أصل المبادلة، فكأنّه في موضوع تحقّق المبادلة تحقّق عهدته بالإعطاء و التسليم، فإذا امتنع فمقتضى العهدة هو إعطاء البدل لا اختيار الفسخ الذي هو المدّعى، و بالجملة لم نعرف دليلا لخيار تعذّر التسليم غير قاعدة لا ضرر، و قد عرفت الخدشة فيها أيضا.

ثمّ في مورد قلنا بثبوت القيمة هل للبائع إذا لم يأخذ الثمن أن يحبسه إلى أن يأخذ الثمن كما كان يحبس نفس المبيع لذلك أو لا؟ الظاهر أنّه يجوز و ذلك لأنّ

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 391

الدليل على ذلك في نفس المبدل أنّه قضيّة نفس إنشاء التمليك و التملّك، فإنّ لازم ذلك هو نقل النقد إلى كيس البائع و الجنس إلى بيت المشتري و التعبير في الفارسية ب (داد و ستد) تعبير بهذا اللازم، فليس النقل بلا انتقال من قضيّة العقد، و لا تركه خلاف مقتضاه.

و الحاصل: لازم التمليك و التملّك هو وقوع النقل المكاني من الطرفين

أعني: نقل كلّ عوض إلى محلّ استيلاء صاحب الآخر و تحت يده المعرّى عن قصد الإنشاء الذي لعلّه محطّ نظر القائلين بالإباحة في مسألة المعاطاة- و إن أعطت ظواهر الكلمات خلاف ذلك- فهو المراد لبّا، بمعنى أن المقصود صورة ليس إلّا صرف الإعطاء و القبض على نحو ما يوقعان عقيب إنشاء التمليك و التملّك بحيث يكون النظر إلى نفس وصول العين الخارجيّة الذي هو نتيجة الملكيّة، فنظرهما إلى نفس الدرهم و المتاع بلا إنشاء تمليك و تملّك أصلا و وساطته في البين، لا صورة وقوعهما بقصد الإنشاء حتّى يكون الإنشاء فعليّا، فإنّ صاحب القول بالإباحة أجلّ شأنا من إنكار صدق البيع في صورة وقوع الفعل بقصد الإنشاء.

و بالجملة: هذا المعنى، أعني: صرف القبض و الإقباض الخالي عن الإنشاء هو لازم معنى البيع و إنشاء المبادلة، فلا ينفكّ إنشاء الملزوم عن إنشاء الالتزام بلازمه، فإذا لم يقدم أحد الطرفين بهذا اللازم فللآخر الامتناع، لأنّه ليس هذا الامتناع خلاف الوفاء، و إذا جرى ذلك في المبدل جرى في البدل أيضا، إذ ليس للفرع زيادة على الأصل.

و حاصل الكلام في غير مورد شمول دليل التلف قبل القبض أعمّ من إتلاف البائع أم الأجنبي أو الثمن أو سائر المعاوضات غير البيع أنّ الضمان

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 392

المعاوضي إن صحّ جعله على طبق القاعدة فلا كلام في الكلّ بتقريب ما مرّ من أنّ المعاوضة كما تكون تمليكا بإزاء كذلك تكون بلازم المعنى نقلا و رفعا بإزاء فلا نقل في صورة عدم ما بإزاه، و لكن إتمام هذا مشكل لما مرّ من أنّ غاية هذا هو التعهّد بالإقباض عند القبض فله الامتناع مع عدم القبض نظير ما إذا

تخلّف الشرط بل لعلّه منه حقيقة فغايته الخيار بحيث يصدق على الإمضاء أنّه وفاء لا الانفساخ.

و على هذا فإجراء ضمان المعاوضة في غير مورد شمول النصّ مشكل، و أمّا إتلاف الأجنبي فقسم منه داخل في التلف السماوي كما في السرقة، فإنّه بالنسبة إلى السارق، المتحقّق ضمان اليد لا الإتلاف، و أمّا بالنسبة إلى المسروق منه فالصادق عنوان التلف، و قسم منه لا يشمله التلف السماوي و هو ما إذا أتلفه الغير المعيّن بشخصه بأن كسر الكأس مثلا، فهذا أيضا كإتلاف البائع يبعد شمول النصّ له فيجي ء فيه ما مرّ في إتلاف البائع من الكلام إلّا أن يثبت هنا إجماع على التخيير بين القيمة و الثمن كما ادّعي.

و أمّا جريان ضمان المعاوضة في الثمن فمبنيّ بعد بطلان القاعدة المشار إليها آنفا على أحد أمرين:

الأوّل: استظهار ضمان المعاوضة من ذيل رواية عقبة بقرينة وحدة السياق، و أنّه أريد بكلمة الضمان في قوله- عليه السلام-: «فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقّه حتّى يردّ ماله إليه» «1» ما تقدّم ذكره في الصدر من قوله: «من مال صاحب المتاع» بعد سؤال السائل أنّه: إذا استرق المتاع الغير المقبوض من البائع فهو من مال من يكون؟ فإنّه إذا علم أنّه أريد من الصدر ضمان المعاوضة فيبعد أن يراد

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 10، من أبواب الخيار، ص 358، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 393

من الذيل ضمان اليد، فكأنّه قيل: إنّ عين الحال الذي كان للبائع بالنسبة إلى مشتريه يتحقّق بعد إقباضه المبيع في المشتري بالنسبة إلى البائع، و لا ينافي أنّ هذا مختصّ بالثمن الشخصي و هو فرد نادر فيحمل الضمان على إرادة الدين الثابت حتّى يكون

محمولا على الثمن الكلّي الذي هو الغالب، إذ فيه أنّ كلمة الضمان ليس معناها المديونيّة و أيضا الغاية غير لائقة حينئذ، فإنّ قول القائل: أنت مديون حتى تردّ بمنزلة قول القائل: هذا واجب عليك حتّى تفعله ركيك مستبشع، فهذا قرينة على إرادة الفرد النادر و التعرّض للفرد النادر غير حمل الإطلاق على الفرد النادر.

نعم يرد على هذا أنّ تفريع الضمان في الثمن على إعطاء المثمن ممّا لم يقل به أحد، و يمكن أن يجاب أنّه شاهد على قول من قال بأنّ حقّ المشتري بتسليم المبيع أقدم من حقّ البائع، إذ حينئذ يتأخّر ضمان المشتري عن زمان إقباض المبيع.

الثاني: و هو إن تمّ يجري في سائر المعاوضات أيضا و هو استظهار إرادة مطلق النقل و الانتقال من مادة البيع المذكور في النبوي و ذكره من باب المثال، كما علم ذلك بمناسبة الحكم و الموضوع في حكم الخمس المتعلّق بالأرض التي اشتراها الذمّي من المسلم، فإنّه يتعدّى إلى صورة الصلح مع الذمّي و الهبة المعوّضة معه و سائر المعاوضات.

فنقول في المقام أيضا مناسبة حكم الانفساخ كون البائع متعهّدا بالتسليم و هذا معنى مشترك في الثمن و في العوضين في عامّة المعاوضات، و الحاصل أنّه من الممكن اختصاص العنوان بالحكم كما في اعتبار القبض في المجلس في الصرف و الخيار بين الردّ و الأرش، حيث إنّ الدليل فيهما ورد في البيع و لا يجري في الصلح

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 394

و غيره، و لكن قد يلقى العنوان من جهة المناسبة المقاميّة كما في منع بيع أمّ الولد حيث إنّ الظاهر كون المانع هو الولد من دون خصوصيّة البيع، أو خمس الأرض التي اشتراها الذمّي من المسلم،

فإنّ الظاهر أنّ الوجه مطلق انتقال الأرض و صيرورة الذمّي مالكا لها من دون خصوصيّة للبيع.

فمن الممكن أو الظاهر أنّ وجه الضمان في التلف قبل القبض كون البائع ذا عهدة بإعطائه و تسليط المشتري عليه من دون خصوصيّة للبيع كما عبّر في رواية عقبة عن هذا المعنى بقوله: من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتّى يخرج المتاع من بيته و يقبضه.

و لا يشكل أنّه على هذا لا وجه لتخصيص الضمان في طرف الثمن بما بعد إقباض المثمن كما هو ظاهر ذيل رواية عقبة، بل اللازم كونه مطلقا لأنّ العهدة كذلك.

فإنّه يقال: يمكن أن يكون قوله- عليه السلام-: فإذا أخرجه، تتمّة للكلام السابق أعني قوله: من مال صاحب المتاع حتى و يخرجه يعني إذا أخرجه ارتفع ضمان البائع و الباقي هو ضمان المشتري، لا أنّ التطبيق جي ء به لأجل ضمان المشتري.

و هيهنا كلام من المحقّق الميرزا محمد تقي الشيرازي استبعد شيخنا الأستاذ- دام ظلّه- انتسابه إليه، و هو الاستناد في تعميم الحكم في عامّة المعاوضات بكون حقيقة المعاوضة متقوّمة و متقيّدة بالإقباض و القبض، فمع العدم لا معاوضة لتقيّد الرضا به.

ثمّ استشكل بأنّ نهايته الخيار كما في تخلّف الشرط فأجاب بأنّا في مطلق تخلّف الشرط نقول بأنّ مقتضاه هو الفساد، و إنّما ثبت الخيار في بعض الموارد للدليل، ثمّ استشكل بأنّا نستصحب الصحّة الثابتة قبل القبض، فأجاب أوّلا

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 395

بمنع الصحّة من الرأس و أنّ القبض شرط الصحّة، و ثانيا: بأنّه إذا لم يتحقّق القبض نستكشف البطلان من رأس، فهو من قبيل الشرط المتأخّر.

و أنت ترى أنّ جميع هذه الكلمات بعيدة منه- قدّس سرّه- حتّى القول بأنّ قوام المعاوضة

بذلك، فإنّ نهاية الأمر أنّ إنشاء التمليك و التملّك متضمّن للالتزام و التعهّد بالتسليط و التسلّط، لا أن يكون العقد مقيّدا به بحيث لا عقد مع عدمه، فغاية الأمر حينئذ هو الخيار و أين هو من الانفساخ كما هو المدّعى؟

هذا كلّه في تلف المبيع كلّه.

و أمّا تلف بعضه و وصفه فقد يقال بأنّه إذا كان البعض ممّا يقسّط عليه الثمن يجري فيه قاعدة التلف قبل القبض فيحكم بالانفساخ بالنسبة إليه و إلى مقابله من الثمن، و إذا كان ممّا لا يقسّط فحكمه حكم العيب و هو الخيار بين الردّ و الأرش، فإنّ قضيّة كون العيب من مال بائعه أنّه لا بدّ من تقدير البيع من هذه الجهة كأن لم يقع، و مقتضى هذا هو الخيار بين الردّ و الأرش.

و فيه: أوّلا: أنّ هذا فرع وجود دليل عامّ للجزء و الوصف و المفروض أنّه مختصّ بالمبيع و هو لا يشمل حتّى الجزء الذي يقسّط عليه الثمن، و ثانيا: لو فرضنا تعميمه كما لم نستبعده سابقا بواسطة مناسبة الحكم و الموضوع لكن نقول:

غايته الانفساخ بالنسبة إلى الجزء الذي يقسّط عليه الثمن و ما يقابله من الثمن، و أمّا الخيار بين الردّ و الأرش بالنسبة إلى تلف الجزء الذي لا يقسّط و فوات وصف الصحّة فلا يلزم من تقدير البيع كأن لم يقع أو تقدير وقوعهما في مال البائع، إلّا أنّ البائع متعهّد و ضامن للقيمة الواقعية، و أين هذا من الردّ و الأرش المصطلح.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 396

لكن يمكن أن يقال: إنّا بعد ما سلّمنا التعميم في الدليل حتّى للأوصاف فالظاهر بقضيّة وحدة السياق و وحدة المحمول أنّ الضمان في الوصف من سنخ الضمان في

العين، فكما لم يكن في العين بالنسبة إلى القيمة الواقعية، فكذا بالنسبة إلى الوصف أيضا لا بدّ أن لا يكون باعتبار القيمة بل باعتبار الثمن، و كما كان الاعتبار في المبيع بالثمن من جهة تقدير التلف من مال البائع قبل العقد، و إذا اعتبر التلف في الوصف هكذا ينتج الخيار بين الردّ و الأرش.

لكن فيه: أنّ هذا فرع وجود العموم في الدليل، و لهذا يمكن هذا التقريب في باب الضمان في زمن الخيار لقوله: «إن تلف أو حدث فيه حدث في زمن الخيار فهو من مال البائع» «1» و أمّا في المقام فنحن و إنّ سلّمنا المناسبة المقاميّة لكن غاية الأمر التعدّي في العين من انتقاله البيعي إلى عامّة انتقالاته المعاوضيّة، لا التعدّي من العين إلى الأوصاف، هذا حال هذا الدليل.

و أمّا دليل نفي الضرر فنحن و إن سلّمنا عمومه للضرر العرضي و أغمضنا النظر عن اختصاصه بالمالي و ربّما لا يكون في المال ضرر، لكنّ الضرر لم ينشأ هنا من قبل حكم شرعي، فإنّ العين قد بيعت على صحّتها و العيب طرأ بعد البيع و ورود الحكم الشرعي بالصحّة و اللزوم، فهو بعينه كالعيب الحادث بعد الانتقال إلى يد المشتري، و العجب أنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- يظهر منه تقرير الاستدلال بدليل نفي الضرر، هذا.

و يمكن إثبات خيار الفسخ و الردّ دون الأرش بما مرّ مرارا من اشتمال البيع على تعهّد التسليم لما أنشأه كلّ من الطرفين إلى الآخر على نحو ما أنشأه، و يسمّى

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 5، من أبواب الخيار، ص 352، ح 5.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 397

هذا خيار تخلّف الشرط الذي هو خيار عرفي لم يردعه الشارع،

فإذا باع العين بوصف صحّتها و تعهّد و التزم بالتسليم لها على الوجه الصحيح و تخلّف عن هذا التعهّد فهو كسائر تعهّداته التي تخلّف عنها.

لكن هذا كما عرفت قاصر عن إثبات الأرش و غايته إثبات الردّ، و لا يجري هذا في إتلاف نفس المشتري، لأنّه بإتلافه كأنّه استوفى ما تعهّد له البائع بالتسليم و لا ينتقض بإتلافه للوصف المتعهّد به في العقد قبل العقد، فإنّه أتلف الوصف من مال غيره و ليس بمنزلة الاستيفاء، فإذا وقع العقد مبنيّا على الالتزام بوجود الوصف جاء الخيار، و أمّا هنا فحين العقد كان المبيع واجدا للوصف و تسلّمه المشتري أيضا فلا مجال للخيار.

نعم يجري في إتلاف الأجنبي فللمشتري الفسخ، فيغرم الأجنبي أرش الجناية للبائع، و الإمضاء و الرجوع إلى الأجنبي بأرش الجناية، و اللّه تعالى هو العالم بحقائق الأحكام.

[مسألة حكم بيع المكيل و الموزون قبل قبضه]

مسألة اختلف أصحابنا في بيع الطعام بل مطلق المكيل و الموزون قبل قبضه هل هو جائز أو مكروه؟ لاختلاف الأخبار، فإنّها بين مانعة عنه مطلقا و مجوّزة كذلك و مفصّلة بين التولية بالجواز و غيرها بالمنع، فجعل بعضهم حمل المطلق في المنع على غير التولية و المطلق في الجواز على التولية بقرينة هذا المفصّل أولى من التصرّف في الهيئة و القول بالكراهة، و جعل بعضهم العكس أولى فذهبوا إلى الكراهة.

و استشكل عليهم بأنّه على هذا لا يبقى مجال لفهم كراهة التولية من الأخبار

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 398

كما هو المتّفق عليه بين أرباب هذا القول و إن جعلوا كراهتها أخفّ من غيرها، و الأخبار المطلقة في المنع لا بدّ من تقييدها بالمفصّلة المصرّحة باستثناء التولية، فإنّ الظاهر استثناؤها من الحكم المشتمل عليه الصدر، و هو أصل الكراهة

لا شدّتها، فيكون المنفي في جانب المستثنى أصل الكراهة لا شدّتها فيقيّد به ما ظاهره الكراهة مطلقا حتّى في التولية؛ لأنّهما من المطلق و المقيّد المتخالفين لا المتوافقين المحتاج في التقييد إلى إحراز وحدة المطلوب، و بالجملة: على حسب الدليل لا يمكن إثبات كراهة التولية، فإن كان إجماع فهو مطلب آخر، هذا.

و قد رجّح شيخنا الأستاذ التصرّف في الهيئة بقرينة الأخبار المطلقة الدالّة على عدم البأس مستدلّا بأنّ حمل هذه المطلقات على التولية حمل للمطلق على الفرد النادر، فإنّ التولية و هو البيع برأس المال فرد نادر من البيع، فيبعد حمل المطلق عليه، و هذا بخلاف حمله على مطلق البيع و رفع اليد عن الخبر المانع في غير التولية الظاهر في التحريم و صرفه إلى الكراهة حتّى يلائم مع عدم البأس، فإنّه ليس بمكان من البعد، بل شاع و ذاع إطلاق الهيئة و إرادة الكراهة، حتّى أنكر بعضهم ظهوره في الإلزام.

و أمّا ما أورده شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- من أنّ استثناء التولية يوجب بناء على حمل النواهي على الكراهة انتفاء الكراهة فيها مع أنّ الظاهر عدم الخلاف في الكراهة فيها أيضا بين أرباب هذا القول و إن كانت أخفّ، ففيه: أنّ غاية المطلب دوران الأمر بين حمل النواهي على الكراهة الشديدة حتّى يكون الاستثناء من الكراهة الشديدة دليلا على ثبوت الخفيفة في المستثنى و بين حمل المطلقات الكثيرة الواردة في مقام البيان على الفرد النادر.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 399

و إن شئت قلت: الأمر دائر بين أحد أمور ثلاثة: حمل النواهي على مطلق الكراهة حتّى يفيد الاستثناء نفي أصلها، و حملها على شدة الكراهة حتّى يفيد الاستثناء نفي الشدّة مع ثبوت الأصل، و حمل

المطلقات الواردة في مقام البيان على الفرد النادر مع عدم إشعار فيها بذكر القيد، و الحمل الأوّل خلاف الإجماع فيدور بين الأخيرين، و الإنصاف أنّ الثاني أقرب من الثالث، بمعنى أنّ الثاني أيضا حمل و توجيه و لكنّه أخفّ من الثالث فتدبّر.

و بالجملة: لو فرضنا دوران الأمر بين القولين إمّا الحرمة في غير التولية و الإباحة فيها و إمّا الكراهة الشديدة في غيرها و الخفيفة فيها بحيث كان القول بأصل الكراهة في غيرها و الإباحة فيها خلاف الإجماع فالأظهر حمل الروايات على المعنى الثاني لما في الأوّل من حمل المطلقات على الفرد النادر، غاية الأمر يصير المعنى حينئذ كما يقال في الفارسيّة (از غير توليه بدم مى آيد و خوش ندارم باز مگر توليه باشد)، فإنّ الإنسان يفهم منه أصل الكراهة في التولية و هو في نفسه و إن كان بعيدا لكنّ الأوّل أبعد منه.

بقي الكلام في أنّ الأخبار المانعة بين ما علّق الجواز على القبض و بين ما علّقه على الكيل و الوزن، فيكون مثل قضيّة (إذا خفي الأذان فقصّر) و قضيّة (إذا خفي الجدران فقصّر) ذا احتمالات:

أحدها: أن يكون كلّ من الأمرين سببا مستقلّا، و الثاني: أن يكونا معا سببا فلا يكفي أحدهما، و الثالث: أن يكون أحدهما كناية عن الآخر؛ فإنّه يصحّ جعل أحد العنوانين المتلازمين في الوجود غالبا كناية عن الآخر، و الشاهد على بطلان استقلاليّتهما خبر معاوية بن وهب قال: «سألت أبا عبد اللّه- عليه السلام- عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه؟ فقال: ما لم يكن كيل أو وزن فلا تبعه حتّى تكيله

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 400

أو تزنه إلّا أن توليه بالذي قام عليه» «1» حيث إنّ

السائل عبّر بالقبض و الإمام- عليه السلام- عبّر بالكيل أو الوزن، و لو كان كلّ منهما أمرا مستقلّا لصار المقام بمنزلة أن يسأل السائل: هل يجب القصر عند خفاء الأذان؟ فيجاب: يجب القصر عند خفاء الجدران، بمعنى أنّه سأل عن سببيّة شي ء و يجاب بسببيّة شي ء آخر.

و أمّا احتمال أنّ المراد أنّ القبض غير مفيد بل اللازم هو الكيل أو الوزن فهو خلاف الظاهر؛ فإنّ الظاهر أنّه أراد- عليه السلام- إعادة نفس ما ذكر في سؤال السائل بعبارة أخرى، فإذا بطل استقلاليّتهما فكونهما جزأين للسبب و هو مجموع الأمرين خلاف الظاهر بالنسبة إلى الاحتمال الآخر، أعني: كون أحدهما المعيار و الآخر هو الكناية عن الأوّل.

فيدور الأمر بين أن يكون المعيار هو القبض و يكون الكيل كناية عنه أو بالعكس، و الظاهر الأوّل، فإنّ الكيل من مقدّمات القبض، و من الشائع التعبير عن الشي ء بالمقدّمة الموصلة إليه كما يقال: إن صعدت السلّم أعطيتك درهما، و المقصود كونه على السطح لا موضوعيّة الصعود على السلّم.

ثمّ على تقدير حمل النهي على التحريم دون الكراهة على خلاف ما قدّمناه فهل يقتصر على صرف التكليف أو يستفاد منه الوضع أيضا، أعني: بطلان البيع؟

لا إشكال في أنّه لو كان وجه الاحتياج إلى إمضاء الشرع كونه المالك الواقعي و إمضائه إجازة للمالك فالمنع ينافي الصحّة، لأنّه مثل المنع الصادر عن المالك المجازي مانع عن النفوذ.

لكن هذا الوجه خلاف ظاهر الأدلّة، فإنّ الظاهر أنّ الشارع عامل مع

______________________________

(1)- الوسائل: ج 12، الباب 16، من أبواب أحكام العقود، ص 389، ح 11.

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 401

الأملاك معاملة كون ملّاكها ذوي اختيار تام بالنسبة إليها فلا نقص فيها من حيث إجازة المالك و

الحاجة إلى إمضاء الشارع لأجل إحراز سببيّة السبب، فمعنى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ صرف تصديق العرف في أنّ ما يرونه بيعا بيع واقعا و أصابوا في نظرهم، و على هذا فمن الجائز أن يكون المنع الشرعي متوجّها إلى قسم خاص من البيع بعنوانه المعاملي، و مع ذلك كان صحيحا نافذا مثل الأسباب التكوينيّة إذا فرض تعلّق الكراهة بإيجادها حيث لا ينافي ذلك ترتّب مسبّباتها عليها لو أوجدت عصيانا.

و لكن قد يستفاد من الرواية الواردة في نكاح العبد بغير إذن سيّده حيث أبطله بعض العامّة و ردّه الإمام- عليه السلام- بقوله: «إنّه لم يعص اللّه و إنّما عصى سيّده فإذا أجازه فهو له جائز» «1» أنّ معصية اللّه متى تحقّق بعنوان المعاملة من حيث نفسها لا باعتبار أمر خارج عنها ينافي مع صحّتها و نفوذها حيث إنّ الظاهر من الرواية أنّ الذي تحقّق في نكاح العبد إنّما هو مخالفة السيّد في هذا النكاح لا مخالفة الربّ، و مخالفة السيّد قابلة لأن يلحقها الرضا بخلاف مخالفة اللّه، فإنّها غير قابلة للحوق الرضا لاستحالة الندم عليه تعالى.

و الحاصل: يستفاد منه أنّه لو كان المتحقّق مخالفة اللّه لما كان له علاج، و لكنّ المتحقّق مخالفة السيّد و لها علاج، فيفهم منه الملازمة بين مخالفة اللّه و الفساد، هذا مضافا إلى الإجماع الذي حكاه سيّدنا أستاذ الأستاذ السيد محمّد الأصفهاني- طاب مضجعه- على ما حكاه عنه شيخنا الأستاذ- دام ظلّه- على أنّه كلّما ورد النهي على عنوان المعاملة فلازمه الفساد وضعا.

لا يقال: ظاهر النواهي في باب المعاملة الإرشاد إلى الفساد كما في باب

______________________________

(1)- الوسائل: ج 14، الباب 24، من أبواب نكاح العبيد و الإماء، ص 523، ح 1.

كتاب البيع (للأراكي)،

ج 2، ص: 402

العبادة فما وجه حمل نواهي هذا الباب إلى التحريم التكليفي ثمّ الانتقال بتوسّطه إلى الوضعي.

لأنّا نقول: نعم و لكن هنا امارة التكليف موجودة و هو قوله في بعض أخبار الباب: لا يعجبني، فإنّه ظاهر في التكليف و بعد حمله على التحريم بقرينة سائر الأخبار على ما هو مذاق المشهور على خلاف ما هو ظاهره من الكراهة لا يبقى ظهور في تلك النواهي في الإرشاد، كما أنّه على قولنا من حمله على ظاهره من الكراهة أيضا لا يبقى لظهور تلك النواهي في الإرشاد مجال، و ذلك لمكان وحدة السياق في الجميع.

بقي مطلب آخر و هو أنّه هل الحكم وضعا أو تكليفا أو كراهة مختصّ بخصوص البيع فلا يجري في سائر المعاوضات فيجوز بيع ما انتقل بها قبل القبض فضلا عن غير المعاوضة كالقرض و الصداق و الإيفاء بغير الجنس أو يجري في الجميع؟ و كذلك هل يختصّ بالمبيع فلا يجري في طرف الثمن و لو كان بيعا أو يجري في كليهما؟ ليس في الأخبار لفظ يستفاد منه العموم؛ فإنّ الاختصاص بالمكيل و الموزون يرفع احتمال إناطة الحكم بكون المبيع في معرض الانفساخ بالتلف قبل القبض فإنّه يجري في غير المكيل و الموزون و لا يجري في الكلّي في الذمّة منهما، و بعد رفع هذا الاحتمال من البين لا مجال لتوهّم مناسبة موجبة لتعميم الحكم و تسريته إلى غير مورد الأخبار.

فمقتضى القاعدة هو الحكم بالاختصاص في كلا المقامين، كما أنّه لا مجال لتخصيص الحكم بخصوص الطعام بعد إناطته فيه أيضا بكونه ممّا يكال و يوزن كما في بعض الأخبار، و لا لتخصيصه بخصوص المبيع الشخصي بعد عموم الحكم للكليّ، فإنّ المناسبة المتقدّمة لو أمكن

القول بها أمكن دعوى الانصراف، و لكن

كتاب البيع (للأراكي)، ج 2، ص: 403

بعد ملاحظة التقييد بالمكيل و الموزون مع عدم اختصاص المناسبة بذلك يندفع هذا الاحتمال، فلا مجال لاحتمال التخصيص بل يعمّ الحكم كليهما لعموم الكلام.

نعم محلّ هذا الكلام في الكلّي في الذمّة الذي كان معجّلا أو حلّ أجله، و أمّا المؤجّل الذي لم يحلّ فجواز بيعه و عدمه مسألة أخرى و لعلّه لا يحتاج بعد المراجعة إلى الأخبار و كون المنع فيها اتفاقيّا، و اللّه العالم بحقائق أحكامه.

هذا آخر ما استفدنا من بحث مولانا و إمامنا الأستاذ الأعظم ملاذ العرب و العجم آية اللّٰه في العالم، الحبر العليم الحاج الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري، أطال اللّه علينا بركات أنفاسه القدسيّة بمحمّد و آله خير البريّة.

اللّهمّ طهّر نفوسنا و حسّن أخلاقنا، و أصلح جوارحنا و تقبّل منّا بكرمك و جودك و طولك و فضلك و بحرمة محمّد و آله الأقدسين الأطهرين صلواتك عليه و عليهم أجمعين.

و كان ذا في الأربعاء العاشر من شهر رجب المرجّب من سنة 1346 و الحمد للّٰه أوّلا و آخرا و باطنا و ظاهرا و قد كتبه بيمناه الداثرة مؤلّفه الضعيف محمّد علي الشريف عفى اللّه عنه و عن والديه و أستاده جرائمهم.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب البيع (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.